بعد كتاب 'في النظرية السردية - رواية (الحي اللاتيني) مقاربة جديدةْْ' الصادر عن دار إفريقيا الشرق، وهو كتاب يعيد النظر في مفهوم السيرة الذاتية والعديد من المفاهيم السردية وفق مقاربة نظرية وإجرائية جديدة تستحضر بعدي الوجود والزمان عبر تحليل جمالي له مصطلحيته الخاصة يطال المكونات الحقلية الصيغة. وبعد كتابه الثاني المثير للجدل 'إدانة الأدب' الصادرعن مطبعة النجاح، وهوكتاب نقدي يرتبط بالإشكاليات الثقافية والنقدية التي أثارها صدور كتاب تزيفطان تودوروف والمعنون ب 'الأدب في خطر'. صدر للأديب عبد الرحيم جيران رواية موسومة ب 'عصا البلياردو' وتعد هذه الرواية الأولى لهذا الكاتب الذي يعد من طلائع الكتاب المغاربة الذين يسعون إلى تحقيق حضورهم الفكري والإبداعي عبر تصور دقيق للمسألة الثقافية ودورها في الحياة الفكرية والأدبية. وتتناول رواية 'عصا البلياردو' من منظور نقدي إشكالي وضع المثقف وعلاقته بالتحولات التي اعترت تاريخ المجتمع المغربي الحديث، والرواية وهي تحمل على عاتقها هذه الرؤية الإبداعية والنقدية فإنها تقدم صورة للحضور الأنطولوجي للمبدع انطلاقا من قراءة الحاضر بواسطة إعادة قراءة الماضي بوصفه أصلا ملتبسا، وتاريخ تحققات خانها الحماس، كل ذلك يحدث من زاوية إعادة التواصل مع ما عد قطيعة أو تناسيا لماضٍ لم يكن واضحا بما يكفي. وإعادة التواصل مع الأجزاء البسيطة في تاريخ هذا الماضي، ومع المجتمع في صيرورته الحياتية كما عيشت من قبل أفراد بسطاء بعيدا عن حذلقة المثقفين. وتعيد رواية 'عصا البلياردو' في الوقت نفسه صياغة السؤال حول حضور الفرد المثقف ودوره في فهم التاريخ بوصفه محصلة غير مرضية تفتقر إلى حبكة متسقة، كما يشير إلى ذلك المعطي الرابحي في الرسالة التي تستهل بها الرواية باعتبارها إنارة داخلية لبنيتها الجمالية. لكن رواية 'عصا البلياردو' تأبى - وهي تفعل ذلك - إلا أن تمرر إشكالها الموضوعاتي من منظورات مختلفة بما يعنيه ذلك من تعدد في الرؤية والسؤال. وتحكي رواية 'عصا البلياردو' مصائر متعددة، أهمها ثلاثة يمكن إجمالها في مصير الرابحي ورفيقته سعاد، ومصير العم حسان، ومصير ابنه وحبيبته نظيمة. مصائر ثلاثة تتداخل فيما بينها وتتشابك، وتلتقي جميعها في أنها تنتهي إلى الإخفاق أو نهاية غير مرضية على الإطلاق. ويمكن اعتبار مصير الرابحي بمثابة حكاية تمنح باقي المصائر الأخرى السبب لكي توجد، وإن كان مصيره يرد متفرقا عبر ثناياها. كما أن هذا المصير الرئيسي - الذي يُرتق به الحكي - يستمد وضوحه ومعناه من بقية المصائر الأخرى. يوهمنا الكاتب في الرسالة التي يبتدئ بها الرواية أن المادة المهمة التي ستشكل محورا يدور حوله الحكي تستقى من حياة أسرة العبار، لكننا نكتشف - أثناء القراءة - أننا وقعنا في خديعة من قبل الروائي، لأن حياة هذه الأسرة ليست سوى وسيلة فنية يعتمدها السارد لكي يحكي عبرها مصائر مختلفة لحيوات متعددة. وعلى الرغم من اعتمادها وسيلة للحكي فإن حياة الرابحي هي التي تعتبر حاسمة في بناء الرواية التي تصاغ وفق فصول ترد في هيئة زيارات لبيت العم حسان الذي يعد رمزا للتاريخ ومكانا ينبثق منه السرد والزمن معا. ويُقدَّم العم حسان وحيدا وقد جرد من أسرته. فالموت اختطف زوجته رقية وابنه نبيل الذي استشهد في ساحة النضال، كما أن ابنه المختار العبار غيبته الغربة خارج الوطن. يزوره المعطي الرابحي للاطمئنان عليه وفاءً لعلاقة الصداقة التي جمعته بابنه المختار من جهة، واعترافا بالجميل من جهة ثانية لأن بيت العم حسان كان له بمثابة حضن دافئ في زمن المراهقة والشباب. لكن هذه الزيارات لا تعتبر سوى وسيلة فنية لإعادة بناء تاريخ ملتبس: تاريخ المدينة من خلال حياة العم حسان بكل محطاتها المختلفة (الهجرة من البادية إلى الدارالبيضاء - تكوين الأسرة - العيش في زمن الاستعمار- المقاومة - النضال السياسي وانتهائه إلى التسابق إلى المنافع الشخصية)، وتاريخ جيل حالم بالثورة انتهى به الأمر إلى أن يفيق على الوهم. ولا ينفصل التاريخان معا عن تاريخ أصل المعطي الرابحي الذي تعتبر حياته وعلاقته بسعاد الهدف الأسمى للحكي؛ إذ تختزل حياته هذه مأساة جيل برمته توزع بين الإخلاص للحلم في التغيير وبين واقع عنيد لا يسمح للأفكار النيرة بأن تتجسد. ونظن أن محاولة استعادة العلاقة بسعاد ووفاة ابنتها ابتسام التي حالت دون هذه الاستعادة دالة على ما يسميه عبد الرحيم جيران في تنظيره للسرد بالفوت؛ أي استحالة إعادة ما كان ممكنا ولم يعد كذلك لأن شروط تحققه لم تعد ممكنة (راجع في النظرية السردية - إفريقيا الشرق - 2006)، وكأنه يحكم بالاستحالة على استعادة تاريخ ابتدأ ناقصا وانتهى بالخيبة، وبالتالي يعاد النظر في مسألة صحة البدايات التي كونت انطلاق هذا التاريخ. ولهذا لا عجب إن وجدنا الرواية تنتهي بعبارة تعد تكثيفا قويا للرواية 'وأنا في نهاية الممر أرى أني لم أر البداية' (الرواية، ص191). فالممر الموصوف هنا موجود بالمستشفى، لكنه في الحقيقة هو ممر الحياة - التاريخ. وهو ممرر لم يكتشف انسداده إلا في نهايته المفجعة. وهذا الانسداد - الذي يظهر في تعرية وهم الفكرة على الرغم من نبلها - هو الذي يكاد يمثل جوهر الرواية. فهو بمثابة سؤال حارق يولد باقي الأسئلة في الرواية ولا يتورع عن ملامسة النبل نفسه كما الخسة ذاتها، وعن إعادة النظر في سمو الفكرة. تقام الرواية على الرغم من أنها مصوغة بواسطة ضمير المتكلم - على منظورات متعددة وتنسيبية. فهناك منظور المعطي الرابحي السارد الرئيسي في الرواية والذي تُنقل جل الحكايات التي يرويها الآخرون من خلال نقله لها، وهو منظور المثقف الذي يسعى إلى فهم ما جرى من دون التنازل عن قناعاته من خلال حس نقدي متسائل لا يتورع عن وضع كل شيء موضع استفهام جذري، لكنه وهو يتمسك بمنظوره هذا يسعى إلى فحص منظوره أيضا من خلال الاستماع إلى حكاية الآخرين ولما جرى لهم في حياتهم أو بمعيته. فالمعطي الرابحي حين يصغي إلى العم حسان، لم يكن يستمع إلى كيف عاش الرجل الشيخ زمانه، بقدر ما كان يجد في حكاياته وسيلة لسرد حكاية غيره (حكاية العبار ونظيمة) وحكاية جيله. ويحدث نفس الأمر حين يستمع إلى حكاية سعاد، ففي ثنايا حكيها يستعيد قصة ساخم. ومن ثم يمكن القول إن منظور المعطي الرابحي كان منظورا لا يقف عند تقويم الحياة وما جرى انطلاقا من التحليل والأفكار فقط، بل كان يفعل ذلك أيضا من خلال الوجود مع الآخرين في زمن حكيهم حياتهم. وإذا كان ممكنا تصنيف هذه الرواية في إطار ما يمكن الاصطلاح عليه برواية انجلاء الوهم، أو جعلها مماثلة لما يحدده لوكاتش برواية خيبة الأمل في كتابه 'نظرية الأدب'، فإنها تعمل على صياغة موضوعها انطلاقا من تعالقه مع قضايا وجودية من قبيل سؤالي الموت والأصل محاولة أن تجيب عن مدى إمكان إرجاع الاختلافات في التعينات الاجتماعية إلى نبع واحد، وكذلك عما إذا كان الموت الرمزي النتيجة المتكررة تنتهي بها التطلعات في علاقتها بهذا الأصل. كما أن الرواية تعيد النظر في كثير من المسلمات حول العيش في تاريخيته ومن ضمن ذلك العلاقة مع الآخر (المستعمر). لكن الرواية تكاد تعالج هذا التداخل بين التاريخ والحياة الخاصة والاختيارات السياسية مما يشير إليه كونديرا في كتابه 'فن الرواية' بالحماقة. فمما يبدو من سلوكات بعض الشخصيات أن قدرها مصنوع وفق مقدار الحماقة التي تغذي تصورها للعالم والحياة، بل إننا قد نتساءل حول ما إذا كانت الحياة نفسها نتاج حماقات صغرى أو كبرى. ومما يميز رواية 'عصا البلياردو' من حيث بنيتها الجمالية، هو كونها تستقي شكلها الفني من العنوان الذي ارتضاه لها الكاتب عبد الرحيم جيران، وذلك في تواز مع دلالتها؛ حيث يمفصل الموت من حيث هو قدر مستحوذ مع بنية الشكل الروائي الذي يتأسس على انفجار الحكايات نتيجة اصطدام بعضها بالبعض تماما كما هو الحال في 'لعبة البلياردو'؛ حيث تشير الكرة البيضاء الأساسية فيها رمزيا إلى الموت؛ الشيء الذي يجعل من تولد الحكايات نابعا من الموت، ومن نهاياتها مصوغة من الموت ذاته، حتى أن نهاية الرواية تحدث بفعل الموت كاشفا عن استحالة استعادة الماضي المضيع (حب سعاد) وكاشفا عن حقيقة الأصل الضائع (سليمان أخ المعطي) بوصفها حقيقة صادقة من حيث البيولوجيا، ولكنها كاذبة من حيث الانتماء إلى صدق القيم وماهية الإنسان. ولا يفوتنا أن نشير إلى استثمار عبد الرحيم جيران في روايته هذه موروث ألف ليلة، لا من حيث محاكاة مضمونها الحكائي، ولكن من حيث بنية شكلها؛ حيث تتوالد الحكايات من بعضها البعض داخل صيرورة كلية تؤطرها على نحو غير مباشر. وتتمثل هذه الصيرورة في حياة المعطي الرابحي، كما أن الرواية تستثمر أسلوب المفاجأة الذي تنتهي به عادة السرد القديم وبعض الروايات التي أخلصت لهذا الأسلوب كما هو الحال بالنسبة إلى رواية 'أسرار باريس'. وتسعى رواية 'عصا البلياردو' إلى تقديم رؤية دقيقة لوضع المثقف في علاقاته وتشابكاته المختلفة مع الواقع من حيث هو محصلة تاريخ حديث، وتقديم حالات إنسانية يضيف إليها الأديب معماراً مغايرا للمألوف السردي المغربي، لكون 'عصا البياردو' تعطي للتخييل أهمية قصوى بعيدا عن اجترار الحياة الخاصة، وبعيدا عن الاستيهامات غير الخاضعة لمنطق جمالي تخييلي. كما أنها تتسم ببنية متماسكة تماسكا عضويا تشد القارئ وتدفعه نحو مواصلة القراءة، هذا إلى جانب لغتها المكثفة التي تمتاح من الشعر تارة وتتخذ لبوس التحليل تارة ثانية، وتتخذ طابع الحكمة تارة ثالثة. ومن ثمة تصير اللغة الروائية حاملة لاستعارات حية تجعلها قابلة للتأويل على أنحاء متعددة، من دون وضع خلاصة نهائية تنتهي بها في اتجاه وجهة نظر متحكمة ومهيمنة. ومن ثمة يمكن عدها رواية متسمة بطاقة جمالية استثنائية تجعل المتلقي يعيد قراءتها بعد القراءة الأولى لأن سحرها الإبداعي يتجدد مع تجدد كل قراءة.