رضوان بليبط استرعت قضية الشاعرية انتباه الإنسان العربي واستأثرت باهتمامه منذ القدم،فحاول مرارا أن يبحث عن إجابات تفسر سر الإبداع الشعري،إذ كيف يتأتى لإنسان عادي الإتيان بقول غير مألوف ؟ وما السر الثاوي خلف هذا القول أو الخطاب الذي يخرق العادة اللغوية، ويخاتل أفق انتظار كل متلق بتشكيل عوالم متخيلة، تنبجس من جمالية صور الواقع،وتتصف بكونها "محجبة متكتمة على نفسها،غير منكشفة للحس"؟ (1 ) أ الشعر إلهام من كائنات غيبية؟أم أن قول الشعر لا يتحقق إلا إذا تهيأت بعض المثيرات النفسية،والملكات الذهنية؟ 1 الشعر إلهام من قوى غيبية في البدء كان الشعر ،حسب العبارة الشهيرة، ديوان العرب،وعنوان الأدب، بل إنه " سجل القوم الثقافي وديوانهم وعلمهم الذي ليس لديهم علم سواه" (2 ).وكانت القبائل لا تفتخر إلا إذا نبغ فيها فارس أو شاعر يتغنى بأيامها و أنسابها وأخبارها،ويذبّ عن أحسابها، ويخلد مآثرها،ولأن الشعر احتل الريادة حينئذ ،و شغل الناس، فقد حاولوا هتك القناع عن أسرار هذا النوع من الإبداع ،فاعتبره البعض ظاهرة خارقة وقدرة عجائبية،وبلغ بهم ذلك أن نسبوه إلى كائنات غيبية ؛قد تكون آلهة أو جنًة أو شياطين، توحي إلى الشاعر بما يقوله،عن طريق الوحي والإلهام. هذه القوى الغيبية مهما كانت هي التي" تلقي بالشعر إلى الفنان، وهي تلهمه الشعر كذلك" (3 ) . هكذا ربط قدماء العرب الإبداع الشعري "بالشيطان وبوادي عبقر و ارتأوا أن لكل شاعر شيطان" (4 )،وحتى الشعراء كانت"تزعم أن الشياطين تلقي على أفواهها الشعر وتلقنها إياه وتعينها عليه وتدعي أن لكل فحل منهم شيطانا يقول الشعر على لسانه،فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود." (5 ) وقالوا إن "اسم شيطان الأعشى مسحل و اسم شيطان الفرزدق عمرو واسم شيطان بشار شنقناق" (6 )،وهاهو الأعشى يقول في مسحل: وما كنت ذا قول ولكن حسبتني إذا مسحل يبري لي القول أنطق أما حسان بن ثابت فيقول: ولي صاحب من بني الشيصبان فحينا أقول وحينا هوه وفي نفس الصدد يقول أبو النجم: إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر هاته إذا شهادات بعض الشعراء أنفسهم،ينسبون فيها إبداعهم الشعري إلى الجن والشياطين،كما جاء في الموشح عن الأصمعي "قال : عرض رجل على أبيه شعرا، فقال له: يا بني، ما بقي أحد إلا وقد عرض عليه الشيطان هذا الشعر فما قبله أحد غيرك" (7 ). 2 الشعر يرتبط بمثيرات نفسية ما من ريب في أن الشعراء و النقاد العرب و البيانيين سرعان ما تخلوا عن اعتبار الشعر قولا غيبيا،وبخاصة بعد رقي درجة الوعي النقدي العربي؛إذ أصبح ينظر إلى الشعر باعتباره علما وصناعة؛فهذا محمد بن سلام الجمحي (ت231 ه) صاحب كتاب "طبقات فحول الشعراء" (8 )،يقول"وللشعر صناعة و ثقافة،يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه العين،ومنها ما تثقفه الأذن،ومنها ما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان...ويقال للرجل أو المرأة في القراءة والغناء إنه لندي الحلق،طل الصوت،طويل النفس،مصيب للحن ويوصف الآخر بهذه الصفة وبينها بون بعيد.يعرف ذلك العلماء عند المعاينة والاستماع له،بلا صفة ينتهى إليه،ولا علم يوقف عليه، وإن كثرة المدارسة لتعديه إلى العلم به،فكذلك الشعر يعلمه أهل العلم به"،ولم يكن أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (255ه ) بعيدا عن هذا الوعي حين ذهب إلى أن الشعر"صناعة وضرب من النسج و جنس من التصوير". وقد صدر القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت 392 ه )صاحب "الوساطة بين المتنبي وخصومه" (9 )، عن وعي أرقى حينما رأى أن "الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع و الرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له،وقوة لكل واحد من أسبابه؛فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز؛وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان" (10 ).فالإبداع الشعري كما يرى القاضي الجرجاني لا يتحصل إلا بتفاعل عناصر ثلاثة: (أ)الطبع أو الموهبة،و"الطبع هو استكمال للنفس في فهم أسرار الكلام،والبصيرة بالمذاهب و الأغراض التي من شأن الكلام الشعري أن ينحى به نحوها" (11 ) (ب) الرواية أو الثقافة،ولعل هذا ما أشار أليه الأصمعي قائلا"لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلا حتى يروي أشعار العرب ويسمع الأخبار ويعرف المعاني وتدور في مسامعه الألفاظ". (12 ) (ج) الدربة أو الممارسة المستمرة. 3 الشعر يرتبط بملكات ذهنية متفاعلة كان للمتفلسفة المسلمة دور هام في بلورة رؤية نقدية جديدة لقضية الشاعرية؛إذ حولت الاهتمام من دائرة الخصال النفسية إلى الغوص في باطن القوى الإدراكية الذهنية،وهاهنا يظهر بجلاء تأثر الفلاسفة -على نحو ما- بالمعلم الأول أرسطو،ولذلك نجد الفارابي (339 ه ) يربط الشعر بالمحاكاة والتخيل معتبرا "القول الشعري هو التمثيل" (13 )،كما ذهب ابن سينا (429 ه ) إلى اعتبار الشعر ضربا من ضروب التخييل حينما قال"ونقول نحن أولا:إن الشعر هو كلام مخيل" (14 ). لقد مهد الرعيل الأول من الفلاسفة المسلمين الطريق أمام من سيأتي بعدهم؛إذ ستتوضح الرؤية مع صاحب "منهاج البلغاء و سراج الأدباء" (15 )؛الذي سيعتبر جهده بمثابة أول نظرية متكاملة قاربت مفهوم التخييل،ذلك أنه صرف الاهتمام نحو الطبيعة الحركية للخيال الشعري؛فذهب إلى أن عملية الإبداع الشعري تتحصل حينما يفصل خيال الشاعر المدركات المادية عن سياقاتها الواقعية وعلاقاتها الطبيعية المحدودة و الثابتة، ويعيد نظمها و تأليفها ضمن بنيات جديدة مبتكرة متعالقة،ويفطن إلى جهات تناسب الظواهر المادية المتنافرة في الحس ونواحي تشابهها. ولعل القرطاجني(684ه ) أول من تنبه إلى عنصري التجزيء و التركيب اللذين يميزان حركية الإبداع الشعري،فحصرها في أربعة أحوال تخييلية؛حيث "لم يقل أحد قبله إن التخاييل الضرورية هي تخاييل المعاني من جهة الألفاظ،والأكيدة والمستحبة تخاييل اللفظ في نفسه وتخاييل الأسلوب وتخاييل الأوزان والنظم،و آكد ذلك تخييل الأسلوب" (16 ). كما اهتم حازم القرطاجني بالمتلقي في عملية التخييل معتبرا"التخييل أن تتمثل للسامع لفظ الشاعر المخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها و تصورها..." (17 ).إن جهد حازم القرطاجني غير مسبوق في تاريخ النقد العربي؛فهو صاحب نظرية تأسست على العناية بالمصطلح و المفاهيم، حتى إنه ابتكر مصطلحات جديدة مهدت له سبيل تفسير الإبداع؛من قبيل: (أ) الحافظة أو الذاكرة : تلك التي رأى فيها الخزانة الذهنية التي تحتفظ بالمعطيات المادية واللغوية والصور الحسية التي يدركها الإنسان. (ب) المائزة أو الملاحظة : هي التي تتولى تصنيف تلك المعطيات التي تحتفظ بها الذاكرة، ثم تقتبس منها ما هو أكثر موافقة للغرض التخييلي و مواضعات الخطاب الشعري. (ج) الصانعة: هي التي تقوم بتشكيل الجزئيات اللفظية و الدلالية و الإيحائية التي توردها الحافظة على الخيال،لتصوغ منها خطابا شعريا. وخلاصة القول إن التخييل عند حازم القرطاجني هو"حركة متعددة الأبعاد" (18 ) ؛إذ إنه"يقع في الشعر" من أربعة أنحاء من جهة المعنى، ومن جهة الأسلوب ،ومن جهة اللفظ،ومن جهة النظم و الوزن" (19 ). ومن المتأملين في قضية الإبداع الشعري نلفي أبا محمد القاسم السجلماسي (ت 730 ه )،الذي"يؤكد أن التخييل هو جوهر صناعة الشعر" (20 )،معتبرا أن "موضوع الصناعة الشعرية هو التخييل والاستفزاز والقول المخيل المستفز" (21 ).ولا ننسى ابن البناء المراكشي(22 )الذي رأى -وهو يعرف تشبيه شيء بشيء- أن الشعر"مبني على المحاكاة والتخيل لا على الحقائق" (23 ). عود على بدء بحث العرب باكرا في أسرار الإبداع الشعري،فنسبوه إلى كائنات عجائبية أو غيبية، وهي نظرة ارتبطت بالخرافة والتعاويذ،لكن الرعيل الأول من النقاد و البيانيين و الشعراء سرعان ما أبطلوا سحر هذه النظرة،فبحثوا في القوى والمثيرات النفسية التي تدفع بالشاعر إلى الإتيان بذلك الدفق الشعري الذي يأسر الألباب،فينظر إليه الأعمى ويطرب له من به صمم؛وقد توصلوا إلى أن الشاعرية هي تفاعل بين الطبع و الرواية و الدربة والغريزة و الفطنة.ومع مجيء الفلاسفة المسلمين سيصرف الاهتمام إلى القوى الذهنية التي تتداخل وتتفاعل في العملية الإبداعية،ليعتبروا أن جوهر الشعر هو التخييل. الهوامش: (1 )محمد لطفي اليوسفي،الشعر والشعرية،الفلاسفة والمفكرون العرب ما أنجزوه وما هفوا إليه،الدار العربية للكتاب،تونس،1992،ص. 21. (2 )نادر كاظم : تمثيلات الآخر . صورة السود في المتخيل العربي الوسيط ، الطبعة الأولى ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر وزارة الثقافة ، البحرين ، 2004 ، ص: 433. (3 )أحمد توفيق مفهوم الإبداع الفني في النقد العربي القديم ،ص 64، الهيئة المصرية العامة، 1993. (4 ) عمر الطالب، مناهج الدراسات الأدبية الحديثة، مطبعة النجاح الجديدة، ط 1/1988، ص 59، بتصرف. (5 )عبد الملك بن محمد الثعالبي النيسابوري(ت430 ه )، 1908، ثمار القلوب في المضاف و المنسوب ،ص55. (6 )نفسه. (7 ) الموشح في مأخذ العلماء على الشعراء في عدة أنواع من صناعة الشعر للمرزباني، 451 تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي. (8 ) ابن سلام الجمحي(ت231ه )، "طبقات فحول الشعراء"، تحقيق أبو فهر محمود محمد شاكر، منشورات دار المعارف مصر. (9 ) علي بن عبد العزيز الجرجاني(ت392ه )، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق وشرح أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي،دار القلم بيروت،1966. . (10 ) نفسه ،ص 15 . (11 )حازم بن محمد القرطاجني(ت684ه )،منهاج البلغاء و سراج الأدباء،تقديم وتحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة،دار الغرب الإسلامي،بيروت،ط3،1986،ص199 . (12 )ابن رشيق القيرواني،العمدة في محاسن الشعر و آدابه ونقده،ج1،ص197 . (13 )الفارابي،رسالة في قوانين صناعة الشعراء،ص150،نقلا عن عباس ارحيلة،الأثر الأرسطي في النقد و البلاغة العربيين،إلى حدود القرن الثامن الهجري،منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط،سلسلة:رسائل وأطروحات رقم 40 ، ط1 ،1999،ص374. (14 )أرسطو،فن الشعر،ص161 ،نقلا عن عباس ارحيلة،م سابق،ص477. (15 )حازم بن محمد القرطاجني،ولد في قرطاجنة الأندلس سنة 608 ه،وكان شاعرا يهتم بالأدب، كان ينتقل بين الأندلس و المغرب وتونس.تتلمذ لأبي علي الشلوبين (641 ه ) الذي دفعه إلى الأخذ بالعلوم العقلية. توفي سنة 684 ه. (16 ) عباس ارحيلة،الأثر الأرسطي في النقد و البلاغة العربيين،إلى حدود القرن الثامن الهجري،منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط،سلسلة:رسائل وأطروحات رقم 40 ، ط1 ،1999،ص689 . (17 )حازم القرطاجني،م م،ص89 . (18 )جابر عصفور،مفهوم الشعر،دراسة في التراث النقدي،دار التنوير للطباعة والنشر،ط3 ،1983 ،ص244 . (19 ) عباس ارحيلة،م م،ص699 . (20 )نفسه،ص706. (21 )السجلماسي،المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع،ص274 ،نقلا عن عباس ارحيلة،م سابق. (22 )أحمد بن محمد الأزدي المراكشي المعروف بالعددي،تخصص في الرياضيات وعلم الفلك في العهد المريني،وألف كتبا كثيرة في مختلف فروعها،واهتم أيضا بالأدب وألف فيه"الروض المريع في صناعة البديع"،توفي سنة721ه. (23 )ابن البناء المراكشي العددي،الروض المريع في صناعة البديع،تقديم عزة حسن،تحقيق رضوان بنشقرون،1985 ،دط،ص103 .