شعب مُحافظ هناك تحليل، ثلاثي الأسس، يحضر، هذه الأيام، بثقل ملموس في عدد من الكتابات والافتتاحيات والمقالات المُتَابِعَةِ للشأن المغربي. يتلخص الأساس الأول في التصريح بأن الشعب المغربي شعب محافظ، أي أننا أمام أغلبية مجتمعية محافظة. ويتلخص الأساس الثاني في التصريح بأن الشعب المغربي اختار، انتخابيا، التصويت على المحافظين، أي أننا أمام أغلبية انتخابية محافظة. ويتلخص الأساس الثالث في التصريح بأن من حق هذه الأغلبية، بل من واجبها، أن تعبر، من خلال البرامج الرسمية، عن التزامها الواضح بالاختيارات المحافظة، ويجب أن يظهر ذلك في القوانين والنصوص والتظاهرات والمواقف الحكومية والإنتاجات العمومية السمعية البصرية، وعلى الكل أن يحاول التعامل مع هذا الواقع كما هو وألا يحاول التنصل من تبعاته. حسب هذا التحليل يتعين، منطقيا، على الأقلية الحداثية، كما قبلت بمقدمات اللعبة السياسية أن تقبل بنتائجها وأن تدرك بأن الشعب المغربي، أراد، بمحض اختياره، في لحظة من لحظات تاريخه، أن يميل، أكثر، في اتجاه المحافظة، وهذا شأنه، ولا يمكن لأحد أن يمارس عليه الوصاية أو يفرض عليه الحجر. ونقصد بالمحافظة نوعاً من التعلق اللذيذ والمريح بأسس النظام العام الموروثة عن الماضي واعتبارها معفية من الخضوع لقرار العقل، ورفض ما يُستحدث من تغييرات مؤسسية واجتماعية وثقافية كبرى. المحافظون يعملون على تأبيد مجمل الأوضاع القائمة، والرجعيون يحاولون العودة إلى ما قبل انتظام وتشكل هذه الأوضاع في صورتها الحالية. ورغم أن المحافظين يقبلون، أحياناً، ببعض الإصلاحات المحدودة فإنهم، على العموم، يظلون متشبثين بالقيم التقليدية ويعتبرونها مصدراً دائما للخير والحق والصلاح ويستبعدون أية منازعة في ذلك. ومن المظاهر، التي يُستدل بها على أن الشعب المغربي محافظ، ما تظهره نتائج استطلاعات الرأي بخصوص مواقف المغاربة من قضايا متعددة (الجنس – المرأة – الأسرة – الحقوق الفردية – الخمر…إلخ). وهكذا، مثلاً، نجد، في استطلاع أنجزته عام 2010 مؤسسة TNS لفائدة مجلة تيل كيل، أن 18% فقط من الرجال هم الذين يؤيدون المساواة بين المرأة والرجل في الإرث و%22 فقط منهم هم الذين يؤيدون فكرة منع تعدد الزوجات، وأن 90% من النساء و78% من الرجال هم ضد الحرية الجنسية. وفي بحث أنجزه المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، عام 2012، حول الرابط الاجتماعي في المغرب، ظهر أن %53,8 من النساء يعتبرن أن علاقة الزوجة بزوجها يجب أن تُبنى على الطاعة والتفاهم، معاً، وليس التفاهم وحده. وفي سياق استعراض المظاهر الأخرى للمحافظة يمكن أن يُشار، كذلك، إلى : * تصويت الناخبين المغاربة على حزب محافظ (العدالة والتنمية) وعلى أعيان أفرزتهم بيئة سياسية محافظة ويساهمون في تكريس منظومة انتخابية محافظة ولم يكونوا يوماًمن دعاة التغيير؛ * حاصل جمع أعداد المنتمين إلى جماعة العدل والإحسان والحركات السلفية والجمعيات الدعوية والزوايا، يمثل كتلة “جماهيرية” محافظة تفوق عدد المنتسبين إلى الأحزاب السياسية العصرية، ولا يستطيع المقررون تجاهل نفوذها ومطالبها وقدرتها على التعبئة والضغط؛ * أول مناسبة حصل خلالها فرز واضح، في الشارع، بين صف المحافظين وصف الحداثيين، كانت هي لحظة 12 مارس 2000 حيث ظهر، بما لا يدع أي مجال للشك، أن مسيرة المحافظين في الدارالبيضاء كانت أضخم من مسيرة الحداثيين في الرباط؛ * اتساع أدوات تسويق القراءات المحافظة للدين الإسلامي وتأثر حركة التدين، التي تزايدت في العقود الأخيرة، بهذه القراءات؛ * غزارة التعليقات والخطابات، المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي، التي تمتح من مرجعيات محافظة ويغلب عليها، أحياناً، طابع التشدد والانغلاق والتوجس من الآخر والاستعظام اللاعقلاني لمقومات الشخصية الذاتية؛ * قيام النقد الأساسي الموجه إلى وسائل الإعلام العمومية، وإلى المهرجانات الفنية وخاصة موازين، على قاعدة اتهامها بنشر الميوعة والابتذال والخروج عن قواعد الحشمة والوقار والمس بالتقاليد والعادات. وظهور حركات رافضة لإنتاجات فنية ذات مضامين جنسية أقل جرأة مما كان يُستساغ في الماضي القريب؛ * تزايد العنف ضد المرأة، واستمرار النظرة غير المتسامحة مع المفطرين في رمضان، وحصول بعض حالات اعتداء “العامة” على نساء بسبب نوع اللباس الذي ترتدينه؛ * تواصل ظواهر زيارات الأضرحة للتبرك والتماس المساعدة على الشفاء من المرض وحل العقد وإبعاد النحس وجلب المنافع وإبطال مفعول السحر و”العين” …إلخ. لكن بجانب هذه المظاهر، التي يمكن أن تُقَدَّمَ كأدلة على أن الشعب المغربي محافظ، تنبعث من داخل المجتمع نفسه، مظاهر أخرى تؤكد العكس أو تدعونا، على الأقل، إلى إدخال نوع من النسبية على مقولة الشعب المغربي شعب محافظ، ومن هذه المظاهر مثلاً : * اتساع مجال الممارسات الجنسية خارج إطار الزواج، ففي استطلاع أجرته جريدة ليكونوميست، عام 2006، مع عينة من الشباب، ظهر أن 86% من الذكور و34% من الإناث مارسوا أول علاقة جنسية لهم قبل الزواج؛ * تموقع المغرب ضمن أكثر البلدان استهلاكاً للخمور، ففي تقرير لوكالة رويترز، عام 2013، ورد أن المغاربة يستهلكون، في العام الواحد، 131 مليون لتر من الخمر، منها 400 مليون قنينة جعة و38 مليون قنينة نبيذ ومليون ونصف مليون قنينة ويسكي ومليون قنينة فودكا و140 ألف قنينة شامبانيا؛ * رغم المواقف المحافظة المعلنة، فإن المغاربة، حسب البحث الوطني للمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، المشار إليه سابقاً، يثقون، بعد المدرسة والجامعة والجيش، بالمنظمات الحقوقية المعروفة بمواقفها البعيدة عن المحافظة، فنسبة الثقة بها شديدة، بالنسبة إلى %59,2 من المستجوبين، ومتوسطة، بالنسبة إلى %23,2 من المستجوبين، ونسبة الثقة بهذه المنظمات تتفوق على نسبة الثقة بمؤسسات الإعلام والأمن والمستشفيات والمحاكم والنقابات والحكومة والبرلمان والأحزاب؛ * المعطى الخاص بالتصويت على المحافظين يجب أن يأخذ حجمه الطبيعي من خلال استحضار معطيات أخرى من قبيل كون 1 إلى 4 أو 1 إلى 5، من الناخبين، هو الذي يستكمل، فعلاً، كل حلقات التعبير بالصوت الانتخابي عن اختياره، وكون الأغلبية الانتخابية لا تمثل، بالضرورة، أغلبية داخل المجتمع، لأنها قد تمثل فقط الأقلية الأكثر تنظيماً؛ * صدور نص “ثوري” مثل مدونة الأسرة، لم يسفر، في المجتمع عن “الحرب الأهلية” التي كان المحافظون يحذرون من وقوعها؛ * فضاء الفايسبوك، الذي يمثل مجالاً واسعاً لتسويق الكثير من القيم المحافظة، هو الذي كان منبع النواة الأصلية لحركة 20 فبراير ذات النزوعات “التقدمية” ومصدر الكثير من الحركات المساندة للحريات الفردية؛ * مهرجان موازين، في دورته الأخيرة، بلغ تعداد الحضور في فعالياته، حسب المنظمين، مليونين و65 ألف متفرج، وبلغ تعداد الحضور في حفل جينيفرلوبيز “غير المحتشم” 160 ألف متفرج؛ * القنوات والبرامج الأكثر تعرضاً للانتقاد، بسبب افتراض عدم احترامها للقيم، هي الأكثر مشاهدة، فالقناة الثانية تستقطب %28,5 من المشاهدين (حوالي 14 مليون و894 ألف مشاهد)، والقناة الأولى %7,7. والفقرات التي حظيت بإقبال المشاهدين أكثر هي، مثلاً : كنزة فالدوار – الكاميرا الخفية – جار ومجرور –الكوبل– سامحيني – رشيد شو– مستر شاف –للا لعروسة…إلخ؛ * مظاهر العنف أو التشدد، ضد بعض المفطرين في رمضان، تُعتبر محدودة وغير ذات شأن إذا أخذنا بعين الاعتبار كثافة حملات التهييج والتحريض ضد هؤلاء، التي يتعرض لها الجمهور العام؛ * زيارة الأضرحة والمعالجين التقليديين وتناول الأعشاب هي مجرد منافذ احتياطية يتم اللجوء إليها حين تعجز المنافذ الأصلية عن تحقيق المراد أو حين يبلغ الفقر والإحباط أعلى درجاتهما؛ * وجود إقبال شديد على شواطئ السباحة ونوادي الترفيه والتدخين والمقاهي وألعاب اليانصيب والرياضات والمسليات والملاعب وتداول الأغاني والأفلام العالمية وتتبع حياة النجوم وتنظيم أغلب الأعراس بطريقة غير محافظة؛ * استمرار ظاهرة التسامح الفعلي مع تاركي الصلاة، بل حتى مع المثليين، لدى قطاعات واسعة من الشعب؛ * المغرب من البلدان التي تحتل صدارة الترتيب الخاص بزيارة المواقع الإباحية. فهل نحن أمام شعبين مغربيين اثنين أم أن هناك عدم انسجام بين الخطاب والممارسة لدى المغربي الواحد؟ تكفي الإشارة، مثلاً، بصدد عدم الانسجام هذا، إلى أن بحث المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية يشي بأن المغاربة يؤيدون الحركات الاجتماعية بنسبة عالية جداً، تتراوح ما بين 85 و91% ولكنهم لا يشاركون فيها إلا بنسبة متدنية جداً تتراوح ما بين 3 و9%. إذا اعتبرنا، إذن، أن الأغلبية تعبر عن مواقف محافظة في الخطاب فان ممارستها، بالمقابل، هي خليط من المواقف المحافظة والمواقف غير المحافظة، مع غلبة المواقف الأخيرة، ربما ! شعب مُتدين المفروض أن ارتفاع منسوب التدين، في أي مجتمع من المجتمعات، يفضي، موضوعياً، إلى ارتفاع منسوب القيم الخلقية الإنسانية، في هذا المجتمع، وسيادة الفضيلة فيه وانتشار المحبة والتوادد والتضامن والإيثار والصدق والنبل والبر بالوالدين والحفاظ على رباط الأسرة وحسن التعامل مع الناس واحترامهم وإتقان العمل والوفاء بالعهود والالتزامات والتمسك بروح التعايش على الطريق والامتثال لضوابط السير والجولان وحل الخلافات سلمياً والابتعاد عن السلوكات التي تُجْمِعُ المجتمعات على اعتبارها متعارضة مع الخير والصلاح والطريق القويم والسمو البشري والأخلاق الحميدة. لكن مثل هذا الأثر الإيجابي للتدين لم يظهر في الحالة المغربية؛ فرغم أن مجتمعنا شهد، خلال العقود الثلاثة الأخيرة أساساً، ما يعتبره البعض “عودة إلى الدين”، أي حصل تزايد ملحوظ في المظاهر الخارجية للتدين، فإن ذلك لم يترافق مع دينامية لتهذيب السلوك وتزكية النفوس وترقية المعاملات وإنماء نوازع الخير في صفوف الناس وتقويم تصرفاتهم وتجنيبهم خطر السقوط في لجة الرذائل والخبائث وحملهم على إتيان جليل الأعمال وجميلها. التدين الصحيح يمنح الإنسان لحظات لمناجاة الخالق والتفكير في المآل وساعة الرحيل، وتكون هذه اللحظات بمثابة مناسبات لمحاسبة الذات واستعراض حصيلة عمل الفرد في الحياة. وبدون دخول في تفاصيل العوامل التي أدت إلى تصاعد المد الديني، في مجتمعنا، يمكن تلمس الوجود الفعلي لهذا المَدِّ من خلال جملة من المؤشرات البارزة، وهكذا : أصبحت صلاة الجمعة تحتل أهمية متزايدة في حياة المغاربة كموعد تغص فيه المساجد بالمصلين وتعجز عن استيعاب الكم الهائل من الوافدين، مما يضطر الكثيرين إلى أداء الصلاة في محيط المسجد، وأحياناً على الطرقات العامة، فيترتب عن ذلك توقف حركة السير فيها. واكتسب الالتزام بأداء فريضة الصلاة قيمة أكبر في سلم المعايير الخاصة بتحديد الإنسان الصالح. وتزايد الإقبال على الكتاب الديني، وأصبح، مثلاً، المعرض الدولي للنشر والكتاب، الذي يلتئم كل سنة، مناسبة دورية للوقوف على درجة الشعبية التي أصبح يحظى بها الكتاب الديني واتساع الطلب عليه وارتفاع درجة الاهتمام به ومستوى نفوذه وإشعاعه وتأثيره. وحصلت كثافة في حركية استصدار الفتاوى الدينية، حيث غدت فئات واسعة من المغاربة منشغلة أكثر بالبحث عن حلول لبعض الإشكالات الدينية أو عن حكم الدين في العديد من القضايا والمسائل التي تهم ميادين العبادات والمعاملات. وتمكنت إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، وبعض الإذاعات الخاصة، التي تقدم برامج دينية ذات لغة تواصلية شعبية، من بلوغ نسب استماع عالية. ووقع تطور ملموس في حجم مبادرات تأسيس الجمعيات الدينية والدعوية ودُور القرآن وتنظيم مباريات في تجويد وترتيل القرآن الكريم ومسابقات في التاريخ الإسلامي والمعارف الدينية. وحرص الكثير من أصحاب العربات والسيارات الخاصة على وضع كتابات دينية أو آيات من الذكر الحكيم أو أدعية على الوجه الخارجي لهياكل تلك العربات والسيارات. واتقدت جذوة المناقشات الدينية بين الشباب واليافعين، خلال مناسبات التقائهم واجتماعاتهم التلقائية أو المنظمة، فأصبح من المعتاد أن نشاهد ثلة من التلاميذ، في مكان ما من شارع أو حي، مستغرقين في تناول قضية دينية أو تبادل الرأي بصدد مسألة من المسائل الدينية أو اطلاع بعضهم البعض على نتائج قراءاتهم الدينية الأخيرة، كل ذلك يجري في ظل شعور بالاعتزاز بانتمائهم الديني. وأثبتت مختلف الأبحاث واستطلاعات الرأي أن المغاربة يعتبرون، في شبه إجماع، بأن الإسلام هو المكون الأساسي لهويتهم الوطنية. وحرص الكثير من الأطباء والمهندسين والمحامين وذوي المهن الحرة على التقاط القنوات الدينية عبر أجهزة التلفاز التي تُوضع في قاعات الانتظار بمكاتبهم، وذلك تعبيراً منهم عن قناعة دينية أو شعوراً منهم بأن ذلك سيكون محل رضى الجالسين في تلك القاعات، وسيخدم أكثر سمعة العيادة أو المكتب. وأظهر الكثير من الشابات والشبان تشبتهم بارتداء نوع خاص من اللباس (الحجاب – الزي الأفغاني) باعتباره معبراً، في نظرهم، عن الهوية الدينية أو مشخصاً لروح الانضباط لما يعتبرونه أمراً دينياً. وتواترت حالات تحديد الكثير من الحرفيين لمواعيدهم مع الزبناء باعتماد مواقيت الصلاة كأساس، فيُطلب من الزبون، مثلاً، أن يعود بعد صلاة الظهر أو بعيد صلاة العصر أو قبيل صلاة المغرب أو قبل صلاة العشاء؛ وبالرغم من عدم دقة الموعد المحدد بهذه الطريقة، فإن الناس أصبحوا يألفون، شيئاً فشيئاً، مثل هذه المواعيد ويتعايشون معها. ونشطت، بشكل ملموس، حركة بناء المساجد من طرف الخواص وتحمل مصاريف تجهيزها وصيانتها. وتَكَرَّسَ أكثر تقليد الالتزام بإغلاق المحلات التجارية خلال مواقيت الصلاة، وخاصة صلاة الجمعة، وإيقاف تشغيل الأجهزة الصوتية، التي تصدح بالموسيقى أو الأغاني، والتزام الصمت، خلال سماع الأذان. وانتشرت، بشكل ملفت، ظاهرة إنشاء فرق للإنشاد الديني وتنظيم الحفلات الدينية، وظهر تجار مختصون في بيع أقراص مدمجة تتضمن ترتيلاً للقرآن الكريم أو أمداحاً نبوية أو دروساً دينية أو أحاديث لدعاة دينيين أصبح لبعضهم صيت ذائع يفوق ما لنجوم الفن والسينما، وتزايد تشغيل تلك الأقراص في البيوت والمحلات التجارية ووسائل النقل. وظهرت عادات جديدة غَيَّرَتْ بعض طقوس المآتم ومراسيم دفن الأموات، حيث تتولى فرق “متطوعة”، من حفظة القرآن الكريم، تلاوة آيات من الذكر الحكيم وتقديم مواعظ دينية، بلا مقابل مادي وبدون أن تُستدعى من طرف أسرة المتوفى، علماً بأن عدداً من أعضاء الفرق المذكورة يستغل، أحياناً، المأتم لترويج خطاب تكفيري متشدد. وزاد ثقل التعابير، المستقاة من القاموس الديني، في خطاب التواصل اليومي بين المغاربة وفي اللغة الخاصة بتبادل التحية والتقدير والامتنان والزيارة والعزاء…إلخ، مثل عبارات ما شاء الله، بإذن الله، بتوفيق من الله، أكرمكم الله.. وظهر تيار، داخل المجتمع، يتجنب التعامل مع الأبناك بدعوى أنها مؤسسات ربوية ويفضل صيغة تبادل القروض بين جماعة محددة من الأشخاص الذاتيين، بدون فوائد، مثل عملية (دارت)، مثلاً. وغدت النساء يساهمن، بصورة أكثر فعالية، في صلوات التراويح أثناء شهر رمضان. وأصبحت النقابات، في قطاعات مختلفة، تحرص على تضمين دفتر مطالبها بنداً متعلقاً بتوفير أمكنة للصلاة بمقرات العمل. وانتشرت ظاهرة استبدال الرنين التقليدي للهواتف النقالة بمقاطع من ترتيل القرآن الكريم أو إنشاد أغان دينية أو أمداح نبوية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه، هنا، هو الآتي : لماذا يتزامن تنامي مظاهر التدين، في المجتمع المغربي، مع تنامي عدد من المظاهر السلبية في المجتمع، ذاته، مثل العنف والجريمة، والاعتداءات على الأصول، والرشوة، والفساد المالي، والغش في المعاملات والامتحانات، وإهمال الواجبات المهنية، واستغلال مواقيت الصلاة، أحياناً، من أجل مغادرة الموظفين مكاتبهم لمدة طويلة في اليوم، وتناقص درجة الثقة بين المتعاملين في ميادين التجارة والمال والأعمال، وانتشار تداول الشيكات بدون رصيد، واستشراء البغاء والنفاق والخداع، واستهلاك المخدرات والمسكرات، وتناول الأقراص المهلوسة، وتدهور بعض أوجه العلاقة بين الجنسين، وتجذر آفة التدخين والسياقة في حالة سكر، والتشرد الجنسي وما يتسبب فيه من أمراض منقولة جنسياً؟ لماذا، إذن، لم يلعب التدين دوره في الحد من تنامي هذه الظواهر السلبية؟ هذا السؤال يحرج حركات الإسلام السياسي، التي تريد أن تُحَمِّلَ حركة التدين أكثر مما تحتمل وتنسب إليها نتائج لم تتحقق على أرض الواقع. ولهذا تختار هذه الحركات تفسير ما يجري بالاستناد إلى تحليل تبسيطي يعتبر أن المجتمع المغربي يضم أغلبية متدينة يُمثل وجودها نتيجة طبيعية لمسار يُوصف، كليا، بأنه إيجابي، في المجتمع، وأقلية غير متدينة هي مصدر كل العاهات والأمراض الاجتماعية، تهدد قيم الأغلبية وأخلاقها وتحاول فرض مسار مجتمعي آخر يُوصف، كليا، بأنه سلبي، وتتحمل، وحدها، مسؤولية كل ما يقوم، داخل المجتمع، من مظاهر سلبية؛ وهذه المظاهر مجرد “تحديات” تنبعث من حقل يوجد خارج حقل الأغلبية وخارج أخلاقها ومنطقها، وتريد، أساساً، هزم التدين ومحاصرة مده ومحاربته. هذا التحليل هو جزء من تصور شعبوي عام يرفض أصحابه الاعتراف بحقيقتين باديتين للعيان : الأولى هي أنه يمكن أن يقوم ويتطور داخل مجتمع، كالمجتمع المغربي، نوع من التدين الذي تحتضنه الأغلبية وتتبناه دون أن ينجح في إيقاف مد الكثير من الممارسات السيئة والضارة في المجتمع والمخالفة للقيم الأخلاقية ذات البعد الإنساني. والثانية هي أن الأقلية غير المتدينة ليست، أتوماتيكياً، مصدراً حتمياً للتفقير الأخلاقي للمجتمع. التدين يمكن أن يساعد على إصلاح أخلاق الفرد والمجتمع، لكنه يمكن أن يتعايش ودياً مع مظاهر التردي الأخلاقي ويمثل نوعاً من التعويض الثقافي والنفسي عن الخصاص الأخلاقي.