لم تذخر فرنسا جهدا، في ظل استنفار عدائي ضد المغرب، للقيام بكل ما من شأنه أن يؤزم علاقاتها مع بلد تعتبره في خطابها الرسمي شريكا استراتيجيا موثوقا ومحترما، وذلك من خلال تصعيد مسلسل التحرش بالمملكة والذي يمكننا أن نحصي في سياقه عشرات من الوقائع الابتزازية البئيسة والبغيضة في وقت قياسي لا يتجاوز العام والعامين، لسبب وحيد هو الرغبة الفرنسية الشديدة في الاحتفاظ بمواقفها الغامضة والضبابية من قضية الوحدة الترابية للمملكة، التي هي بالنسبة للمغرب مسألة حياة أو موت وقضية وجود لا مجرد حدود، خصوصا مع شعور الطرف المغربي بوجود نوايا مبيتة لدى بعض الدول الأوروبية خاصة، في الحفاظ على الأوضاع المتوترة والمشتعلة في المناطق الإفريقية التي كانت إلى وقت قريب ترزح تحت نير احتلالها بما تسبب فيه من مخلفات كارثية على رأسها تمزيق تراب الدول، وصناعة خرائط ملغومة، والتلاعب بالحدود، ونهب الثروات، وتقييد الدول الناشئة باتفاقات إذعانية مجحفة، تحمي مصالح فرنسا في المنطقة الإفريقية على حساب مصالح الشعوب والدول المستقلة التي طالما تطلعت إلى صداقات حقيقية وشراكات عادلة وندية مع فرنسا بكل ما يعنيه هذا البلد الأوروبي للنخب الفكرية والاقتصادية والسياسية الإفريقية من تنوير وتحرير وديمقراطية وحقوق وعدالة وإنسانية. لقد أبت فرنسا الاستعمار والتزوير والظلم والتحقير والعنصرية والطغيان إلا أن تحطم صورة فرنسا الأنوار والأفكار، بحيث صار تلقي أي تحرك إنساني وحقوقي تحرري وتحريري للقرار السيادي لمستعمراتها السابقة، من قبل أهل الحل والعقد في فرنسا وصحافتها وإعلامها، تلقيا سلبيا تتحالف قوى الدولة والمجتمع الفرنسيين من أجل وقفه ومناهضته والتنديد به، ومحاولة تشويهه، واعتباره مؤامرة وابتزازا للدولة الفرنسية وللدول الديمقراطية. فرنسا وإن كانت تتكلم في خطاباتها الديبلوماسية عن شراكات استراتيجية وعلاقات تاريخية وصداقات عميقة، فإنها تتوعد بالويل والثبور كل من صدق هذا الخطاب من الطرف الصديق والشريك، تحت طائلة الاتهام بلي الذراع والمساومة والابتزاز، فماذا تعني الشراكة الاستراتيجية في غياب الندية والتكافؤ؟ وماذا تعني الصداقة والتعاون في غياب مد يد الدعم والعون كما يمدها الصديق والرفيق؟ وماذا تعني رعاية المصالح المشتركة في ظل العمل الضمني والصريح على الإضرار بمصالح الشريك وتكبيله بشروط وقيود ومحاذير وموانع تجعل كفة التبادل تميل كليا لجهة طرف دون طرف، ويتحول بها الشعار الخطابي "رابح/ رابح"، إلى واقع مرير عنوانه: "رابح/ خاسر". لقد خسر المغرب الكثير في علاقاته الفرنسية، وفي سياسة مد اليد لفرنسا، وفي كثير من اتفاقيات التعاون وعقود الاستثمار التي كان يأمل، مع مرور الزمن وتغير الشروط التاريخية والظرفية التي وُقّعت فيها، أن تفضي إلى شراكات استراتيجية حقيقية وقوية وندية يستفيد منها شعبا البلدين لتعزيز أمنهما واستقرارهما وتنميتهما ورخائهما ورصيدهما التاريخي المشترك، لكن العقلية الاستغلالية والاستعمارية المتغطرسة للوبيات متنفذة في دواليب الحكم والتسيير والتدبير ودوائر الإعلام والمؤسسات الفرنسية تأبى إلا أن تنفذ أجندة أخرى موازية مع كل اتفاق أو تعاقد أو تعهد، للانحراف بالعلاقات المغربية الفرنسية عن مسارها الصحي والطبيعي في اتجاه المستقبل وفي اتجاه تبادل المصالح والمنافع، وذلك عن طريق إثارة ملفات حقوقية مفبركة عن المغرب أو استغلال غيرها من الملفات القائمة للضغط على المغرب ومساومته، عن طريق الأذرع الحقوقية والإعلامية والبرلمانية التي ظاهرها الإنسانية والديموقراطية والحرية والعدالة والمساواة والرحمة، وباطنها العذاب والتجارة في القيم النبيلة والمبادئ الإنسانية، وتوزيع صكوك الغفران أو النكران ومشاعر الرضى أو السخط على شعوب ودول تخالفها الرأي والتوجه، أو تحافظ على استقلال قرارها السيادي، أو تقاوم من أجل الخروج من وصاية مفروضة بمنطق القوة وإرهاب الدولة. فبمجرد أن يفكر المغرب في فتح أسواق تجارية أو مالية بإفريقيا أو تنويع شركائه الدوليين شرقا وغربا وشمالا وجنوبا إلا ونجد فرنسا في الطريق تلوح كعادتها بإعلامها ومنظماتها الحقوقية لتخلق الحدث عن المغرب الذي ينتهك الحقوق والحريات، والمغرب الذي يتجسس على أوروبا وعلى رؤسائها وزعمائها وعلى الأصدقاء والأعداء. لم يكن المطلب المغربي بالوضوح الفرنسي في قضية النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، إلا من أجل تبيان الطريق المستقبلي للعلاقات بين المغرب وبين شركائه درءا لأي انتكاسات باستقرار الشراكات ونمائها، ونعتقد أن تأويل فرنسا لهذا المطلب على أنه ابتزاز من المغرب يخفي بالفعل سوء نية وطوية وسريرة كشف عنها الوضوح المغربي، وإلا فإن مطلب الوضوح مطلب نبيل ومسلك وجيه للمضي قدما ومعا في الطريق الصحيح لما تلهج به الألسنة والتطلعات من شراكات استراتيجية حقيقية وقوية وآمنة من المخاطر، فيما تعمل معاول الهيمنة ونزعات الاستعمار الخفي على ضرب مصالح الشريك المغربي والاستحواذ على شراكاته وعلى أرباحها في الآن نفسه، مع السلامة من الخسائر التي تترك في حساب هذا الشريك المخدوع، مثلما يقول الفرنسيون أنفسهم في المثل الذي ينطبق على حالتهم: "الزبدة وثمن الزبدة". الفرق بين الوضوح الذي يطلبه المغرب والغموض الذي تستريح إليه السياسات الفرنسية المتعاقبة والمستفيدة من هذا الوضع الرمادي، هو كالفرق بين صدق النوايا وسوء الطوية والفرق بين الأمانة والخيانة والفرق بين النزاهة والخدعة، ولا يمكن أن يجتمعا في أي مشروع لسياسة رابحة بين طرفين عهد إليهما برعاية المصالح المشتركة بينهما على أساس الوضوح والمصارحة والمكاشفة. نقول كلامنا هذا بكل الوضوح اللازم، ونحن نتابع تمادي شخصيات وهيئات فرنسية بل وأصحاب القرار في الدولة الفرنسية في معاكسة المغرب، واتهامه في مطلب الوضوح بالسعي إلى "ابتزاز فرنسا"، والحال أن العالم لم يفقد بعد ذاكرته البعيدة وكذا القريبة بشأن الابتزازات الفرنسية الحقيقية لشعبنا ودولتنا، بدأت بمساومتنا في وحدتنا الترابية إبان معارك الاستقلال والتحرير وانتهت بها أيضا إبان معارك البناء والتنمية، مرورا بتحريض المنظمات الحقوقية على بلادنا، والتضييق على جاليتنا في فرنسا، ورفض منح التأشيرات الفرنسية لطالبيها من المغاربة، وتحريش الإعلام الاستعماري والعنصري عليها، أقل ما يمكن أن يفعله لخدمة الابتزاز والمساومة الرخيصة أن ينشر أنشطة سياسية رسمية مغربية في ركن "الحيوانات" وينقل خبر التظاهرات العمالية في المغرب بمناسبة فاتح ماي، في ركن "حروب ونزاعات"، كما فعلت وكالة الأنباء الفرنسية بكل حقارة ونذالة في قصاصات أنبائها عن المغرب. ثم يتحدثون عن الابتزاز المغربي!