لن نكون مبالغين إذا ما اعتبرنا أن عددا من مظاهر التعبير السياسي في الملاعب الرياضية التي تتولى تنظيمها وتأطيرها جماعات “الإلترات”، وفي مواقع التواصل الاجتماعي تحت واجهة الغناء أو الخبر والتعليق والتحليل التي يتولى “اليوتوبرات” والمدونون قيادتها، صارت تلعب دور الوساطة السياسية والإعلامية الجماهيرية لتعبئة المواطنين والشباب منهم خاصة، من أجل خوض معارك سياسية على هامش المؤسسات الحزبية والبرلمانية القائمة، وتوجيه النقاش المجتمعي وتأطيره، ورسم معالم وعي سياسي مزيف لرأي عام وطني صار متتبعا ومؤطرا من قبل هذه الأشكال السياسية والنضالية المستحدثة في عالم الرياضة والثقافة والغناء والإعلام، وصارت أعداد المتتبعين والمنخرطين والمشاركين في دعم هذه الأنشطة “السياسية” و”الإعلامية” خارج المؤسسات المعترف بها رسميا، تفوق بكثير تلك الأعداد من المواطنين والمناضلين التي تؤطرها المؤسسات الحزبية، وصار قراء المدونات السياسية وكتابها، وكذا نقلة الأخبار والإشاعات والمعلقون عليها والموجهون لها في المواقع الاجتماعية، أكبر عددا من مجموع الإعلاميين المهنيين وقراء الصحف ومشاهدي القنوات التلفزية. فهذا التناسل المستمر والمفتوح والانتشار السريع والواسع ل “الإلترات” و”الفيديوهات” و”اليوتوبرات” والمدونات السياسية، في سياق الإقبال الشديد على تعبيراتها السياسية، وعلى خدماتها الدعائية والإعلامية السريعة التي اخترقت الملاعب والأنشطة الاجتماعية، واخترقت البيوت، وصارت موادها وأخبارها وزعماؤها حديث الخاص والعام، مِن رجل وامرأة وطفل وشيخ، بإمكانه أن يعزل، في المستقبل القريب، كل وسائل الإعلام التقليدية ويطفئ أنوارها ويسد أبوابها، ويهيمن على الفضاء السياسي خاصة، ليَذَر الأحزاب والتنظيمات السياسية قاعا صفصفا، تصفق الرياح في أركانها وفي تجمعاتها. فهل يكفي دق ناقوس الخطر، والتنبيه إلى خطورة هذا التحول السريع والانقلاب الشديد في مهام الاستقطاب والتأطير والتعبئة السياسية، خارج المؤسسات الحزبية التي أسندت إليها هذه الأدوار والمهام؟ وهل يكفي انتقاد هذه الظاهرة وبيان انحرافها وآثارها السلبية على الحياة السياسية، وعلى الرأي العام الوطني، لما تمارسه من صياغة وعي معاكس لتوجهات البلاد نحو مأسسة الفعل السياسي وتنظيمه، وتكريس دولة المؤسسات، وتعميق الوعي الديمقراطي والحقوقي النبيل والجاد والمسؤول، فيما لا نقدم حلولا ولا ننخرط في انشغالات قطاع واسع من الشباب المتعطش للحرية والمعرفة والحقيقة، ونقدمه لقمة سائغة لمن سيُزيفون وعيه بدغدغة مشاعره، ومخاطبة أحلامه وغرائزه وعنفوانه، وتمرير المزيد من حقن الإحباط والتذمر واليأس والكراهية إلى جسمه وخياله، واستغلاله في خدمة أجندات تقبع خلف هذه الظاهرة وتحركها في غفلة منا جميعا، وفي ركود وسبات تعرفه الحياة الحزبية، وجميع مؤسسات الوساطة السياسية والإعلامية والاجتماعية والثقافية والتربوية. إن جيلا جديدا ينشأ خارج الضبط والتحكم والسيطرة والتوجيه والتربية المجتمعية، ويمكنه أن يقلب كل المعادلات في المحطات التنموية والتعبوية والديمقراطية التي نسير إليها ببطء وبكثير من الإخفاق والتعثر والانتظار، ويمكنه بدل أن يكون عامل استقرار وبناء وإنتاج، أن يتحول إلى عامل هدم وتخريب، وشوكة في حلق الوطن، وأن يهدد الحياة السياسية والاجتماعية بالفوضى والانفلات. والآن بعد بروز “زعماء سياسيين” في العالم الرقمي والافتراضي، وظهور “شعب الإلترات” و”تيفوات” الملاعب، و”نقابات وتجمعات” اليوتوب، و”شعارات” الهاشتاغ، و”أحزاب ومنظمات” هلامية فايسبوكية تحترف المعارضة والتعبئة والتحريض على النزول إلى الشارع أو إحداث قلاقل أو اتخاذ قرارات الإضراب أو المقاطعة، أو تعميم أخبار زائفة وتعليقات مسيئة ومغرضة، فإن الانفلات صار عنوانا للمشهد السياسي، وصارت الفرجة الرياضية أو المتعة الموسيقية أو الثقافية، معكَّرة بهذه الرسائل والتعبيرات السياسية المقحمة في غير ميادينها ومؤسساتها وحاضناتها. ليس المشكل في هذه الظواهر المنفلتة والمنتشرة، وليس الحل الأمني والزجري وسيلة معالجة انحرافاتها، لأنها إنما جاءت لتملأ فراغا تركناه، وتشغل حيزا لم نشْغَله، ويتحمل الفاعل السياسي والحزبي خاصة كامل المسؤولية في عدم تقدير مخاطر التحولات التي يشهدها التأطير السياسي في عالم اليوم، والتحولات التي تشهدها منظومة القيم، بما فيها قيم النضال السياسي، في مجتمع المعرفة والتواصل الجديد، وعدم التفكير في طرح بدائل لتطوير الفعل الحزبي وتحديث آليات الاستقطاب والتعبئة السياسية، وتجديدها بناء على مستجدات الطفرة المعلوماتية والتواصلية الحديثة، وفي مواكبة تامة للتكنولوجيا المعلوماتية. نحن إذا أمام شبه “تنظيمات حزبية” مفتوحة ومنفلتة، من المتوقع أن تستغلها أي جهة متربصة، لضرب استقرار البلاد وأمنها، وتقوم بدور الأحزاب السياسية في الاستقطاب والتعبئة والتأطير، وفي الترويج لخطاب سياسي يروم تسفيه الحياة السياسية وتمييعها، واستغلال براءة الأطفال وحماس الشباب وطموحه، وسذاجة العامة وبساطتها، والفقر المعرفي والثقافي، والفراغ السياسي، بهدف توجيه رسائل سياسية مبطنة ومشفرة صاغها المهرة والسحرة وراء الستار، واتخذوا واجهات الملاعب الرياضية ومدرجاتها، وشاشات الحواسيب والهواتف الذكية، فضاء لتمريرها باسم الرياضة وحرية التعبير والفكر والإبداع. ومن حقنا بعد أن شاهدنا المستوى العالي والإبداعي في تنظيم “الإلترات”، وفي نظم الأغاني وكتابة الألحان واللافتات و”التيفوات” السياسية، أن نشكك في دعوى عفوية الرسائل السياسية المنتقاة والموجهة في هذه الفرجة الرياضية أو الإعلامية، وأن نبحث وراء هذه التنظيمات عن الأيادي الخفية والجهات المتسترة التي تتحكم في مشاهد الفرجة، لتحويلها إلى حقل تجارب للفوضى الخلاقة ببلادنا، واحتضان خطابات التيئيس والكراهية وتنميتها وتلقيحها وتمييعها، واستعمالها في مخططات لجرائم ضد الوطن والمواطنين.