يعتبر خطاب العرش في كل سنة، بالإضافة إلى كونه محطة لتجديد وتأكيد أواصر البيعة والمحبة التي تربط ملك البلاد المخلص وشعبه الوفي، مناسبة لجرد حصيلة العمل والمنجزات وتقويمها وتثمينها، والوقوف على الاختلالات والتعثرات في تنفيذ الالتزامات ومعالجتها وتصحيحها، واستشراف المستقبل وتجديد العزيمة والثقة في الكفاءات والقدرات الوطنية لتحقيق الطموحات، وهي كلها من مقتضيات المصارحة والوعي النقدي اللذين يميزان خطب جلالة الملك، خاصة في ذكرى عيد العرش المجيد. وقد أبان الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى العشرين لتربع جلالته على عرش المملكة، عن درجات عالية في تجسيد هذا الوعي النقدي للأداء وللتدبير، ولحدود التجربة الإصلاحية الوطنية بكل ما تحمله من بشائر ونجاحات وقوة، وبكل ما اكتنفها من إخفاقات وعثرات وضعف. إذ لم يمنع سياق الخطاب السعيد بالمنجزات الكبرى والمشاريع الإصلاحية العميقة المحققة، جلالته من أن يعبر بشجاعة وصراحة عن أن المنجز وحده لا يكفي، ما لم يحقق هدفه الأكبر ألا وهو تحسين ظروف عيش المواطنين. فمن خلال عقد جلالته لمقارنة ومقابلة بين المنجز والطموحات، والحصيلة والأهداف، والأعمال والآمال، مع الإنصات لنبض المجتمع ولانشغالاته وانتظاراته، كان لا بد للرؤية التقويمية النقدية لجلالته أن تعبر بشجاعة عن الحقيقة مهما كانت قسوتها ومرارتها، ألا وهي وجود فئات وجهات في وضعية حرمان وخصاص ودون أي استفادة تذكر من وعود النموذج التنموي القائم. لذا ترسخ لدى جلالته عدم قدرة هذا النموذج التنموي على مواكبة طموح ملك وانتظارات شعب، والمتمثلة في الحد من الفوارق الطبقية ومحاربة الهشاشة الاجتماعية، وتحقيق مواطنة كاملة بحقوقها وواجباتها التي يتساوى فيها الجميع. ما يؤرق جلالته في تشخيصه لاختلالات الإصلاحات في النموذج التنموي القائم، أن حصيلة هذه الإصلاحات لم تصل بعد إلى عمق المشكل الاجتماعي لتحله وتجليه، ولم تشمل إيجابياتها وتدخلاتها جميع فئات الشعب خصوصا منها تلك الفئات التي لا تجد أثرا إيجابيا للخدمات الاجتماعية في معيشها اليومي. ومن هذا الترصيد لتجربة الإصلاح وفق النموذج التنموي القائم، أكد جلالته عجز هذا النموذج التنموي عن تقديم جديد أو تلبية حاجة ملحة ومستعجلة، أو تصحيح وضع، ومن ثمة فإن التعجيل بطرح بديل تنموي جديد يأخذ بعين الاعتبار محدودية النموذج القديم القائم، وبأهداف جديدة ومقاربات متكاملة، ومداخل مندمجة ومنسجمة، سيكون منطلقا جديدا، في إطار استمرارية النفَس الإصلاحي، للقطيعة مع الجمود والانتظار والانحباس. ولعل قرار جلالته إحداث اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، والتي ستضم إليها كفاءات وطنية من مختلف المشارب والتخصصات، ستكون من مهامها تقديم الاقتراحات والتوصيات البناءة بخصوص المشاريع الإصلاحية المعتمدة، لتوجيهها الوجهة الصحيحة والسليمة، ألا وهي وجهة نجاعة التدخل وتحقيق كرامة العيش للمواطنين، وهذا ما يأمله جلالته منها. وفي سياق اشتغال جلالته على وضع ملامح هذه الكفاءات المؤهلة للقيام بأدوارها الحيوية والجوهرية في إرساء النموذج التنموي الجديد، فإن المبادرة الملكية بتكليف رئيس الحكومة ببحث مقترحات إغناء وتجديد مناصب المسؤولية الحكومية والإدارية على أساس الكفاءة والاستحقاق، ورفعها إلى نظر جلالته، تسير في نفس سياق تجديد النخب التدبيرية الاستشارية والسياسية والإدارية بموازاة مع تجديد النموذج التنموي، إذ بدون توازي التجديدين، وتوازن كفتيهما، لا يمكن للإصلاحات العميقة التي يقودها جلالته أن تسير بنفس السرعة والتوقيت. إن القيمة المضافة لهذا الربط بين تجديد النخب وتجديد النموذج التنموي، هو توحيد إيقاعات الإصلاح والجمع بين الكفاءات البشرية المتوفرة والقدرات والإمكانات المرصودة للإصلاح، من أجل أن تصل المشاريع الإصلاحية الكبرى والعميقة جميعها إلى الهدف الذي وضعه جلالته نصب عينيه، ألا وهو نجاعة التدخل في تحسين ظروف عيش المواطنين، والحد من الفوارق الطبقية، والقضاء على الإقصاء والتهميش من الاستفادة من الخدمات الاجتماعية والمادية التي تتيحها السياسات العمومية بالبلاد. ولأن مَلَكِيَّة المغرب، هي قبل كل شيء مَلَكية وطنية مواطنة فإنها لا تقتنع بمصداقية الإصلاحات الوطنية والمواطنة إن لم يتقاسم الجميع ثمراتها ومنافعها، وإن لم تجسد نخب البلاد وجميع فعاليات المجتمع والدولة، بل جميع المواطنين هذه الوطنية الراسخة والمواطنة الحق في الالتفاف حول ثوابتها ومقدساتها، وأيضا في الدفاع عن خياراتها الديمقراطية والتنموية التي لا رجعة فيها.