لأول مرة، وبعد عقود زمنية طويلة من الانتظار والتردد، تم تمكين قطاع الصناعة التقليدية من قانون منظم لمزاولة أنشطة هذه الصناعة، تضمن حقوقا وامتيازات لفائدة الصناع التقليديين ولفائدة تكتلاتهم المهنية وتعاونياتهم ومقاولاتهم. إذ تمت المصادقة في وقت متأخر من ليلة أول أمس، في الغرفة الأولى بالبرلمان، على مشروع القانون رقم 17/50، والمتعلق بمزاولة أنشطة الصناعة التقليدية، الذي قدمه السيد وزير السياحة والنقل الجوي والصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي، أمام نواب الأمة. ومع أن حدث المصادقة على هذا المشروع الأول من نوعه في قطاع الصناعة التقليدية، مر في ظروف شهدت اهتماما كبيرا بالمصادقة على مشروع قانون آخر هو القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، الذي حظي بمواكبة إعلامية واسعة، فإن مشروع قانون الصناعة التقليدية لا يقل أهمية عن نظرائه من مشاريع القوانين التنموية الحيوية التي تعتبر رافعات كبرى للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فتقنين مزاولة الأنشطة الحرفية والمهنية لقطاع الصناعة التقليدية وتنظيمها وتأهيلها وتأطيرها، يعد في حد ذاته طفرة هامة في تحقيق الإدماج التشريعي والمؤسساتي لهذا القطاع في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الوطني المتكامل، وذاك أن هذا القطاع رغم أنه من الناحية الاقتصادية يرفع من سنة إلى أخرى رقم معاملاته، حيث يساهم بما نسبته 8 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، ومن الناحية الاقتصادية يشغل ما يزيد عن 2،5 مليون نسمة، أي حوالي 20 بالمائة من الساكنة النشطة، ويساهم في استقرار ملايين من الأسر المغربية ويمتص البطالة، ومن الناحية الثقافية يقدم منتوجا ثقافيا وطنيا أصيلا ومتنوعا يعطي بلادنا إشعاعها الحضاري في محيطها الإقليمي والدولي، ويجذب إليه ملايين من السياح والمهتمين بالمنتوجات الحرفية التقليدية المتميزة بجودتها وإبداعها، فإن الموارد البشرية للقطاع وكذا منتوجاته ظلت لعقود من الزمن تشكو من فراغ قانوني وتشريعي ينظم مهن الصناعة التقليدية وحرفها ويحدد أدوار ووظائف هيئاتها تحديدا متناسبا مع حجم الموروث البشري والمادي في هذا القطاع. لقد اجتهد مشروع القانون المنظم لمزاولة أنشطة الصناعة التقليدية، في سد ثغرات كبيرة في القطاع عن طريق سن تشريعات وإحداث إجراءات وضوابط تهم حصر مجال الصناعة التقليدية وتحديد مواصفات منتوجاتها وما يعتبر في حكمها، وتحديد الهوية المهنية والملامح الحرفية للصانع التقليدي، ومواصفات وكيفيات التسجيل والتقييد في السجل الوطني، وتقرير الخدمات والامتيازات التي سيستفيد منها الصناع التقليديون، من نظام للتغطية الاجتماعية والصحية وبرامج الدعم والتكوين وعدد من التدابير الحمائية والتحفيزية والجبائية والتعاقدية التي تلتزم بها الدولة من أجل تحسين أوضاع الحرفيين وترويج منتوجاتهم وخدماتهم، وكذا تحديد الوضع الاعتباري للتعاونيات والمقاولات والهيئات الحرفية الصناعية التقليدية، وبيان أدوارها ووظائفها واختصاصاتها، وكيفيات انتظامها إقليميا وجهويا ووطنيا، وشروط الانتخاب والترشح لرئاسة هذه الهيئات التمثيلية، وصولا إلى إعادة تنظيم وهيكلة المجلس الوطني للصناعات التقليدية، الذي تم تحديد تركيبته وكيفيات اختيار ممثليه وأعضائه وأجهزته ولجنه واختصاصاته، وهو المجلس الذي عهد إليه بتقديم الاقتراحات بشأن التوجهات الاستراتيجية العامة لسياسة الدولة في مجال تنمية الصناعة التقليدية والارتقاء بأدائها، ودعم مهنييها. هذه باختصار أبرز المضامين العامة لهذا المشروع التنظيمي الذي جرى وضع مواده بمقاربة تشاركية فعالة، وبإغناءات وملاحظات أعضاء لجنة القطاعات الإنتاجية بمجلس النواب، إلى حين أن استوى متكاملا، وحظي بالمصادقة عليه بإجماع نواب الأمة. لا يمكننا تقدير أهمية هذا القانون بالنسبة للصناعة التقليدية الوطنية، وكذا القوانين التنظيمية والتطبيقية المرتبطة به، ما لم نقدر حجم الثروات الوطنية التي يمكن لهذا القطاع أن ينتجها ويخلقها في وقت قياسي في ارتباطه بالسياحة وبالمعارض والمحافل الدولية الكبرى، وبالثقافة والفنون، وبالتجارة والصناعة والعمران عموما، وما لم نقدر في الآن الأهلية التامة لهذا القطاع في ضمان فرص الشغل واجتذاب اليد العاملة المغربية المدربة والخبيرة وذات الخلفية الثقافية والتراثية الأصيلة لمهنة مبدعة وواعدة وطموحة، هي من جهة جالبة للثروات المادية إلى بلادنا، وهي من جهة أخرى سفيرة لبلادنا في أرجاء المعمور، للتعريف بحضارة عريقة ومتنوعة في تعبيراتها الفنية التي تمثل منتوجات صناعتها التقليدية وحرفها إحدى أبرز تجليات هذه التعبيرات. إن من شأن إقرار هذا القانون التأطيري والتنظيمي وتفعيله وتطبيقه، أن يحرر الصانع التقليدي من كثير من الإكراهات التي يتخبط فيها إن على صعيد غياب تنظيم هويته المهنية والحرفية، أو على صعيد سوء ظروف العمل والإنتاج، أو على صعيد انعدام آليات للتحفيز والدعم، أو على صعيد ضعف تسويق المنتوج وتنمية مداخيله وإمكانية حماية علاماته التجارية من التزوير والتقليد. ومن شأن إقراره كذلك، أن يدمج هذا القطاع الحيوي إدماجا فعالا وقويا ضمن استراتيجيات النموذج التنموي الجديد وأن يحله مكانته اللائقة به باعتباره رافعة من أهم رافعات التنمية الاقتصادية والبشرية والثقافية.