إذا ما حاولنا سبر أغوار المتغيرات التكنولوجية الحديثة وحجم تأثيرها على علوم الاتصال، وفي المقدمة منه مجالات الإعلام، فنلاحظ حجم التغير الواسع بعدما دخلت المكننة والالآت في كل تفاصيل العملية الاتصالية، الأمر الذي أثر بشكل عميق على مخرجاتها، مما جعل الإعلام كوسيلة وغاية توصل الملتقي إلى إدراك الرسالة الإعلامية وجانب مهم من جوهرها بطريقة أقرب و أيسر،ناهيك عن سهولة بث الرسالة من قبل من يهمه إيصالها إلى الأشخاص أو الجمهور المستهدف بغض النظر عن حجم وحسابات عملية التأثير والإقناع فيهم. و هذا ما أفرز إشكالية باتت اليوم مثارا للجدل والاختلاف، بل معوقا ومشوشا للأفكار إذا ما سلمنا بحقيقة إمكانية أن تكون هذه التكنولوجيا المستخدمة في الإعلام تسهل إيصال كم هائل من الرسائل الاتصالية التي تتضمن آراء وأفكار وتصورات ذات طبيعة مختلفة تصل في كثير من الأحيان إلى التقاطع، الأمر الذي يترتب عليها خلق تشويش و عدم وضوح لدى الجمهور بله وتناقض. بل أكثر من هذا يمكن القول إن التكنولوجيا الحديثة في وسائل الإعلام والاتصال غيرت جذريا جانبا مهما من معتقدات و قناعات المجتمعات و ثقافاتها، وهو ما انعكس بشكل واضح في تغير مجرى حياتها ماديا واعتباريا، وهو ما يمكن قراءته بدقة بين سطور التقرير رقم 1352 المؤرخ في 27/04/1964 الذي تمت مناقشته في دورة الكونغرس الأمريكي رقم 88 حيث أكد (يمكننا أن نحقق بعض أهداف سياستنا الخارجية من خلال التعامل مع شعوب الدول الأجنبية بدلا من التعامل مع حكومتها من خلال استخدام أدوات و تقنيات الاتصال الحديثة، يمكننا اليوم أن نقوم بإعلامهم و التأثير في اتجاهاتهم بل وممكن في بعض الأحيان أن نجبرهم على سلوك طريق معين لهذه المجموعات يمكنها بدورها أن تمارس ضغوطا ملحوظة و حتى حاسمة على حكوماتها). فضلا عن فرضها تحديات ورهانات كبيرة لعل أخطرها ظاهرة العزلة والتفتت الجماهيري. فبقدر ما ساعدنا العالم الافتراضي على فك العزلة وربط جسور التواصل بين مختلف أصقاع المعمورة، كان في الوقت ذاته يهدم جسورا أخرى مشكلا عزلة من نوع آخر تهدد علاقتنا الاجتماعية. وعلى الصعيد العربي اعتبر متابعون أن بروز الإعلام الإلكتروني في المنطقة شكل اختراقاً لحصون الإعلام التقليدي، خصوصاً في الدول التي تضع قيوداً كبيرة على حرية ترخيص وسائل الإعلام التقليدية، وشكل في الوقت نفسه متنفساً لنسبة كبيرة من الجمهور للتعبير عن آرائهم بصورة أسهل، وهذا ما ساعد الإعلام الإلكتروني الناشئ في المنطقة على جذب جمهور واسع، وشكل بالفعل تهديداً لوسائل الإعلام التقليدية التي باتت تخسر نفراً غير قليل من جمهورها، وهذا ما دفع الكثير من وسائل الإعلام التقليدية إلى دخول حقل الإعلام الإلكتروني من خلال إنشاء المواقع الإلكترونية التفاعلية حتى تستعيد من خلالها الجمهور. قضية بات من الملح أن نقف أمامها ونحدد أبعادها وأسبابها وانعكاساتها السلبية على المجتمع حيث أصبح الحضور اليوم لا يقاس بمجرد التواجد المادي، فقد يجتمع أفراد الأسرة تحت سقف واحد، لكن كل يعيش في عالم افتراضي خاص به، يكون فيه علاقات مع أفراد آخرين قد يفصله عنهم الواقع الجغرافي من بحار و محيطات، لكن بالنسبة له لاحواجز إلا مجرد شاشة بعد أن أتاحت شبكات التواصل الاجتماعي و المنتديات التعارف على أوسع نطاق، فأصبح الفرد يقضي معظم وقته أمام شاشة حاسوبه متناسيا ما يحيط به.حقيقة تدفعنا إلى التساؤل.كيف تستطيع الأسرة الواقعية أن تفرض نفسها أمام المنافسة القوية للأسرة الافتراضية؟ كيف يمكن أن نحدث التوازن بين الأسرتين دون إفراط و لاتفريط في ظل هذه الثورة التكنولوجية التي غيرت معالم المجتمعات على كافة الأصعدة و المناحي؟ بل في زمن أصبحت فيه شبكات التواصل الاجتماعي تلعب أدواراً عديدة, أهمها سياسية واقتصادية واجتماعية في حياة الشعوب في كافة أنحاء العالم, وبات تأثيرها يتصدر أحداث الساعة: "نظراً لارتباط قطاع كبير من الأفراد بتلك الشبكات, وأصبح تأثير تلك الشبكات الاجتماعية على النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية واضحاً. لقد أصبح بإمكان أي فرد أن ينشئ موقعه الخاص على شبكات التواصل الاجتماعي بسهولة ويسر والالتقاء بالأصدقاء القدامى وزملاء الدراسة, ويأتي هذا من إدراك الناس لأهمية هذه الشبكات, بصرف النظر عن كونها خاصة أو تابعة لمؤسسة أو شركة أو حتى دولة, لأن الهدف واحد من إنشاء هذه الشبكات, مع الأخذ بنظر الاعتبار الاستخدام السيء لبعض الناس في هذه الشبكات. إن استخدام شبكات التواصل الاجتماعي لم يقتصر على الأفراد أو المؤسسات بأشكالها المختلفة فقط, ولا استخدامها من قبل بعض المسؤولين والسياسيين في دول عديدة في العالم فحسب, وإنما أصبحت الكثير من الجامعات والمعاهد العلمية في العالم أجمع تتواصل مع طلابها عبر الشبكات الاجتماعية والمواقع الإلكترونية, ونتيجة لإقبال الناس على التسوق الإلكتروني, فقد زادت نسبة الإعلانات على المواقع الإلكترونية, مما حقق بالتالي ارتفاعاً خيالياً في أرباحها. هذا الطرح العلمي حتم علينا بكل حتمية تناول سلبيات و إيجابيات الإعلام الجديد ومدى تأثيراتها على الأمة العربية و الإسلامية في ظل الصراع الحضاري و التغييرات الدولية التي تهدد الهوية و الخصوصية بما لهذه الأخيرة من مركزية على مستوى عقيدة الفرد و الجماعة والأسرة. إننا نحن العالم العربي والإسلامي ما زلنا نحبو بخطوات بطيئة إزاء العالم التقني الجديد، إن كنا فعلا بدأنا في الاستخدام ولكننا لا نزال بعيدين عن إنتاج التقنيات الاتصالية والإعلامية المعاصرة، من حيث عدم الاكتراث الجيد مع الجديد الإعلامي بخصوص التعامل معه في توظيف القضايا العربية و الإسلامية والدفاع عنها، بالشكل الذي نضارع فيه الغرب تكنولوجيا الذي تمكن-أي المضارعة- من التأثير في المشاهد الغربي بل العالم برمته. هذه اللامبالاة إن لم نقل العدمية تتبدئ أساسا في البحوث الإعلامية التي لاتزال ضمن حدود المستوى الذي لايرقى إلى المجال الإعلامي الجديد المطلوب، بل هي محدودة في حدود العموميات غير المفيدة. إن التقنيات الاتصالية والإعلامية كافة تشكل مجالا رحبا للبحث و الاستقصاء و التوصيف و التحليل والتفسير والاستنساخ، وتتيح الفرص و الإمكانيات أمام الباحثين و الدارسين في الإعلام للخروج عن نطاق النمطية و التقليد و الكلاسيكية في الإعلام. بل إن المفروض إن لم يكن من الواجب الحتمي الذي يمليه الواقع المعاصر بحمولاته المتعددة الأوجه و راهنية الظروف المتسمة بالتشابك و التعقيد، والتي تحتم قطعا خوض غمار البحث في تدابير بل آليات فعالة لتحقيق المطلوب الذي لامحيد عنه إلا بمنافسة الآخر في أي مجال من مجالات الحياة عموما، ومجال الاتصال خصوصا كجزء لايتجزأ من كينونتنا البشرية مع الحفاظ على خصوصيتنا و هويتنا الحضارية التي أصبحت موضوع سهام حادة موجهة للأمة العربية و الإسلامية للحيلولة دون تحريها للمنهجية التكنولوجية وصدها عن الاشتغال بما يحقق نهضتها على كافة الأصعدة والمناحي. إن التحديات المطروحة على الأمة العربية والإسلامية لا تكمن في الحاجة إلى المشاركة في مجتمع المعلومات ، بل في كيفية التطبيق الفعال لتكنولوجيا المعلومات و الاتصال في التنمية و استخدامها في تضييق وليس في تعميق الفجوة بين الذين يملكون والذين لايملكون القدرة على الانتفاع بها. فهي-أي المشكلات أو الإكراهات- لا تتجلى في البنى الأساسية التي يمكن استيرادها إذا توفرت الإمكانيات المادية، ولكنها تكمن في عديد من المسائل السياسية و التنظيمية و التعليمية و الثقافية والأخلاقية، مما يحتم عليها -أي الدول العربية والإسلامية- الولوج إلى مجتمع المعلومات عبر آلية تضافر الجهود والتعاون في أفق تجاوز الفجوة التكنولوجية والمعرفية التي يعزو أسباب تعميقها إلى ما هو تعليمي، ثقافي،اقتصادي، اجتماعي...... إن لم نقل سياسي. و على الرغم من وجاهة هذا الطرح ، فإن ثمة طرحا آخر يرى أنه لكي يمكن توظيف تقانات الاتصالات و المعلومات في بناء و تقوية اقتصاديات الدول العربية، فإنه يجب تكييف هذه التقانات مع احتياجات وثقافات هذه الدول إدماجا في مجتمع المعلومات أو مجتمع المعرفة المبني بطبيعته على فلسفات و مفاهيم أساسية يستحيل التغاضي عنها أو عن إحداها، والتي تتجسد أولا في كونه مبنيا على الشفافية والديمقراطية، أي أنه لايمكن توافر مجتمع معلومات في أية دولة عربية دون إصلاح سياسي حقيقي وتوفير بيئة ديمقراطية حقيقية، واعتراف كامل و حقيقي بحقوق الإنسان التزاما على مستوى المصادقة على الالتزامات الدولية ذات الصلة- أي الأوفاق والاتفاقيات الدولية- و ممارسة على مستوى الأجرأة و التفعيل ، وثانيا أنه مبني- أي مجتمع المعرفة- على تنمية اقتصادية قوية ونشطة كفيلة بتحقيق نهضة بنيوية في أفق مضارعة الدول المتقدمة التي لها سبقية تفيعل آليات التعامل مع التكنولوجيا الحديثة بما يحقق استراتيجياتها على كافة الأصعدة و المناحي. فهل بمقدرونا أن نحقق ذلك؟ فلنترك الجواب للمستقبل القريب.