اشتعل فتيل صراع بين بقال وشاب بسبب طلب هذا الأخير نصف لتر من الحليب مقتحما الدكان بطريقة عنيفة ومسلحا بمدية، وهو الأمر الذي رفضه البقال وحاول الدفاع عن دكانه بعد أن تسلح بعصا. فما كان من الشاب وهو في حالة غير طبيعية، صباح ذلك اليوم المشؤوم، إلا أن وجه ضربات قاتلة للتاجر الذي خرَّ جثة هامدة. لم يمض على زواج سعيد البقال سوى سنة واحدة، كان ينتظر خلالها أول مولود له، وهو الذي بلغ سن الأربعين. كان سعيد سعيدا بقرب الوضع وكان يكِدُّ ويجِدُّ حتى يطور تجارته من حانوت صغير إلى دكان كبير يجد فيه سكان شارع علال الفاسي وحي الرياض كل ما يرغبون فيه من مواد غذائية. كان يتذكر جيدا يوم قَدِم من مدينة تارودانت من جنوب المغرب إلى مدينة وجدة منذ أربع سنوات وكله عزم ورغبة وتصميم على بناء تجارة ناجحة رائجة كباقي أبناء سوس. اكترى حانوتا صغيرا بموقع استراتيجي بشارع علال الفاسي وملأه بسلع وبضائع اقترضها من عند تاجر يبيع بالجملة على أن يسددها بالتقسيط. كان سعيد قصير القامة نحيل الجسم لكن قوي البنية، خفيف الحركة ومرح الجلسة. كان سعيد مفعما بالنشاط والحيوية حيث كان آخر من يغلق الحانوت مساء وأول من يفتحه صباحا ويتناول غداءه داخله. كان حسن السلوك، طيب الكلام، مؤدب الحديث، لا يرد طلبا لزبائنه وكان يرد على الابتسامة بأخرى حتى كسب محبة واحترام الزبائن... شاب مدمن وعنيد كان يونس شابا في ربيعه الثالث والعشرين، وكان يحلم بمستقبل وحياة رغيدة وعيش كريم. كان متوسط القامة، قوية البنية ومفتول العضلات بفعل اشتغاله في بيع الخضر بساحة سيدي يحيى بمدينة وجدة. كان هادئ الطباع، لين الحديث، معروفا لدى معارفه والجيران بحسن السلوك. كان يبدو عليه الفقر من خلال ملابسه المتواضعة رغم أنه كان يحاول أن ينافس بعض الأقران في اقتناء ما يناسب الشباب. كان يَكِدُّ ويعمل طيلة أيام الأسبوع حتى يجمع ما يمكن جمعه من المال يمكنه من الهجرة إلى الضفة الأخرى، ضفة الفردوس المفقود كبعض من معارفه الذين استطاعوا بطريقة ما القفز على البحر والعودة بسيارات.... كان يونس الشاب الطموح يحلم ويحلم لكن حلمه طال وواقعه ثقل فبدأ يفقد الأمل في الوقت الذي كانت تكبر في قلبه غصة الفشل... لم يكن يستطيع مواصلة التفكير في مستقبل أسود سواد الساحة التي كانت تعج بشباب عاطل يتعاطى لجميع أنواع الأنشطة من بيع ما لا يباع وشراء ما لا يشترى ومن تجارة الألبسة القديمة المهترئة وتبادل الهواتف النقالة المسروقة والمعطلة والسرقة والنشل. كان كلما استرسل في «التخمام»، آلمه رأسه واغرورقت عيناه دموعا وأحس بالغبن والحكرة... كان يحاول أن يغرق يأسه وهمومه في الهروب من واقع مُرٍّ مرارة العلقم بابتلاع حبات من «القرقوبي» عَلَّها تُنْسيه همومه بعضا من الوقت... حالة هستيرية تسبق الجريمة استيقظ يونس، صباح يوم الأربعاء وكان رأسه أثقل من صندوق بطاطس وقلبه يدق دقات الطبل كتلك التي تسبق الدخول في «الجذبة» عند «كناوة» وكانت فرائصه ترتجف وعروقه تفور من شدة غليان دمه. لم يكن يَعي ما كان يجري بداخله. ولم يتذكر أن اليوم يوم عمل وكان عليه أن يستعد للذهاب إلى الساحة ويأخذ مكانه المعتاد قبل أن يُحتل من طرف أقرانه وزملائه في «المهنة». أحس بالجوع ينهش أمعاءه فزاده ذلك قلقا وغضبا ثم قام من فراشه ولبس بسرعة ملابسه قبل أن يدفع بقوة باب الغرفة ويتجه صوب المطبخ بحثا عن الفطور. لم يجد إلا قليلا من الخبز وإبريقا من الشاي، الأمر الذي لم يعجبه. قرر أن يحضر فطورا غير ذلك فخرج مسرعا نحو محل سعيد الذي كان منهمكا في ترتيب سلعته داخل واجهة الحانوت الزجاجية... كلمات رماها يونس بقوة في وجه سعيد وكأنها أوامر «يالله، اعطيني نص يطرو انتاع لحليب». أحس سعيد بحريته تنتهك وبحرمته تهتك، ورغم ذلك كتم غضبه وابتلع ريقه واستغفر ربه. كان يعلم سعيد أن ليس في صالحه أن يدخل في ملاسنة أو صراع مع شاب كانت تبدو على ملامحه أعراض حيوان هائج غير عادي، فتراجع إلى عمق الحانوت وطلب من مخاطبه ثمن الحليب قبل أن يفتح الثلاجة، الأمر الذي لم يستسغه الزبون الثائر. وقبل أن يكمل يونس تهديداته شرع في تكسير زجاج الواجهة. لم يكن لسعيد من خيار سوى أن يتسلح بعصا ويدفع المعتدي إلى خارج الحانوت حتى يَحُدَّ من الأضرار التي كان سيتسبب فيها يونس بعد أن دخل في حالة هستيرية. احمرت عينا يونس وجف حلقه وتسارعت أنفاسه، واستل سكينا كانت تلازمه وفي لحظة طعن سعيد في الإبط الأيسر بمحاذاة القلب ثم استلها ليغرزها مرة أخرى ثم مرات قبل أن ينسحب بعد أن خرج من هستيريته. سار سعيد خطوات بعد أن حاول لَمَّ جسده الممزق بالضغط على جراحه آملا إيقاف النزيف لكن لم تكن له القوة لذلك وكان يحس بالوهن يغزو جسمه، إذ لم تعد ساقاه تقدران على حمله وغشيت عيناه ضبابة سوداء قبل أن يخر جثة هامدة... بحث واعتقال وإحالة تمكنت عناصر الأمن الولائي التابعة لمصلحة الشرطة القضائية بوجدة، صباح ذلك اليوم الدموي من إلقاء القبض على الجاني مرتكب جريمة القتل في حق البقال سعيد بدكانه الواقع قرب إعدادية الرياض بشارع علال الفاسي. وكانت مصالح الأمن قد توصلت بخبر في حدود الساعة العاشرة صباحا مفاده أن شخصا في حالة خطيرة يوجد على بعد أمتار قليلة من عتبة متجره بوجدة مضرجا في دمائه بعد تلقيه عدة طعنات بسلاح أبيض. وعلى الفور انتقلت عناصر الشرطة القضائية إلى عين المكان فيما تم نقل الضحية جثة هامدة إلى مستودع الأموات بمستشفى الفارابي بوجدة. وبعد معاينة الجثة تبين أن صاحبها يحمل جراحا غائرة على مستوى الإبط الأيمن بعد تلقيه طعنات بسكين حادة. حينها باشرت عناصر الشرطة القضائية البحث بعد إلقاء القبض على الجاني بائع خضر بساحة سيدي يحيى في حالة هستيرية خلافا لعادته. وبعد البحث والتحقيق، أحيل القاتل على وكيل الملك من أجل الضرب والجرح بالسلاح الأبيض المفضيين إلى الوفاة.