عشية رحيل القرن العشرين، مساء يوم 31/12/1999، صنفت قناة سي إن إن (CNN) الأمريكية رائد فكر التنمية البشرية، الدكتور ستيفن كوفي، واحدا من الشخصيات الأكثر تأثيرا في القرن العشرين. لقد كان لفكره الثاقب، الذي وحد بين الجانب الروحي و العلمي، أثرا في تغيير حياة الكثير من الناس من السلبية إلى الإيجابية. ولو يعلم الناس مدى عبقرية فكر الرجل لدرسوه في جميع مراحل تعليم الطلاب. يقول كوفي أن الناس في حياتهم عامة يتمحورون حول واحد من أحد المحاور، سواء عن وعي منهم أو عن غير و عي، وذكر محاور شريك الحياة (الزوج)، و الأسرة، و المال، والعمل، والتملك، و الصديق/أو العدو ، و الهوية، والذات ، و المتعة؛وأستطيع أن أضيف مسألة التمحور حول الجاه و السمعة و النسب و الحسب و السلطة، وكذا مسألة التمحور حول النقابات أو الأحزاب ؛ وأن الداعي إلى هذه التمحورات، حسب ستيفن كوفي دائما، هو الفوائد الأربع التي يجدها الشخص المتمحور في محور بعينه. تلك المزايا هي : الأمن ،الحكمة، القوة، والإرشاد. ويشرح الكاتب بالتفصيل تجليات تلك المزايا مع كل محور على حدة. لكن سرعان ما يواجه القارئ بحقيقة مفادها أن تلك المزايا الأربع التي نحسبها الضامن لسعادتنا، سرعان ما تنهار بانهيار الأطراف أو الأشياء التي إعتبرناها الجدار الآمن الذي اتكأنا عليه ذات يوم من ماضينا . وأمام هذا الإحساس بالضعف و الهشاشة وعدم الحماية اتجاه محاور مهددة بالإنقراض، و محكومة بعمر إفتراضي قصير، و مبنية على الميزاجية ،وأحيانا الغدر، يقدم الكاتب التمحور حول المبادئ ، كحل سليم ، دائم و ناجع، و مضمون النتائج؛لأن المبادئ لا تتهاوى و لا تضعف، وليست مادة بأيدينا أو بجانبنا أو تحت أقدامنا حتى يمكن للغير النيل منها، تهريبها أو مساومتها ضدنا، بل هي معدن ذهبي معنوي يسكن قلوبنا، لا يصدأ ولا يبلى، يتدفق نبلا في قولنا و أفعالنا ومواقفنا؛ ولتبسيط هذا الكلام أكثر، يكفي إستحضار الحديث النبوي الشريف في باب الترغيب في الزواج،" تنكح المرأة لأربع ، لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك". ففي كل الأحوال، فإن إختيار أي مقبل على الزواج لزوجته يخفي تمحورا على محور من المحاور التي ذكرها عليه السلام، ونصح التابعين بضرورة تقديم الدافع الديني—وليس الدين سوى قيما ومبادئ صالحة لكل الأزمنة و الأمكنة، ولا تضيع كما قد يضيع المال أو الجمال. وأقل ما يمكن أن تسديه لمتمثليها و متبنيها هو الخلود المعنوي الأبدي. ولعل التاريخ لم يمجد أحدا كما مجد الذين فضلوا الموت على أن يتخلوا على مبادئهم. تصور معي لو أن الناس ولجوا الأحزاب و النقابات بناء على هذا التصور ، هل كانوا سيصابون بداء الردة؟ أي التراجع على مبادئ حزب أو نقابة إختارت لنفسها أن تنهل في فلسفتها من معين الكتاب و السنة؟ هل تحتاج النقابة اليوم أن تقدم – عند طلب العضوية – على إختبار بسيكوتقني لمعرفة دوافع إلتحاق البعض بها؟ خصوصا إذا كانت نقابة مبنية على مبادئ كونية مستمدة من السماء؟ سوف لن يحتاج ذوي الغيرة والصدق لكثير من التمحيص لمعرفة أن ليس كل الرواد دوافعهم مبنية على المبادئ، و إنما هم كضباب السدود يحتمون بك في البرد القارس، لكن سرعان ما تفرقهم شمس النضال الحارقة في اليوم الموالي. فلا ريب أن فكرة النقابات كانت وليدة حاجة العمال و الموظفين إلى نادي شبه إفتراضي ينخرطون فيه و يقتسمون المبادئ التي تؤطر توجهه و غاياته و تشكل الأرضية التي بني عليها والسقف الذي يعلو آفاقه؛ ولا شك كذلك أن المنخرطين هم من يرغب، بعدما ثحدثهم أنفسهم أو غيرها، في الإنضمام إلى الهيئات أو النقبات التي يطمئنون إليها.. فهل ينقلبون على مبادئهم و خياراتهم عند كل مشهد ردة؟ وكيف تسمح لهم جيوبهم باقتناء بطاقتين نقابيتين في السنة، واحدة في نونبر و الأخرى في مارس؟ هل يعتقدون أن تلك تذاكر سفر، أم بطائق حمام (بتشديد الميم الأول )؟ فإذا كان السياسيون والمناضلون الشرفاء قد تفطنوا لظاهرة الترحال السياسي، الهواية المفضلة لأصحاب " الشكارة " ، بترسانة قانونية وحملة توعوية ، نظرا لما يسببه ذلك من إفساد للعمل السياسي البناء و الهادف ، والذي ينتج عنه، بشكل آلي، فساد البلاد والعباد، وصلب الوطن، بأجياله و تاريخه، على اللوح الخشن لبلدان العالم الثالث، والإغتناء الغير المشروع،و تحصين المكاسب الممتلكة بطرق غير مشروعة، والإحتماء ب"الأقوياء" و شد عضد و حنك كلب الفساد حتى يصبح أكثر قدرة على الفتك (كما يقول المثل الشائع، إذا عض، قتل) ، وإضعاف الشرفاء و التخلي عنهم في بداية الطريق أو منتصفه، فإن النقابات ، وهي بخلاف الأحزاب — التي قد تمنح عضويتها ‘'لكل من هب و دب'' ، من فلاحين و تجار و سماسرة — تجمعات إنتقائية ، تجمع أطرا ذوي تكوين جامعي عالي، و تأطير مبدئي ربما يكون قد تشكل منذ المراحل الإعدادية أو الثانوية،أضحت بدورها تعاني من ظاهرة الترحال.. وجاز اليوم أن نتحدث عن الترحال النقابي مادام بين أيدينا قصصا حديثة تروي حجم صغر عقول أبطالها و بطلاتها، وكيف أصيبوا بداء الريع النقابي و الوصولية و الإنتقامية الذي يمتهنه من صنعهم الفساد، و أتموا صناعة أنفسهم بصناعة بلطجية تحميهم و تدافع عنهم، ليس حبا فيهم، و إنما حبا في إختزال مزيد من الأمتار تقربا منهم، و ضمانا لمصالح آسنة مقرفة، لكنهم يحسبونها نعمة و توسعة… فلنتركهم، فحبل مودتهم، كما كذبهم ، قد لا يصمد طويلا الإثنين 19 رجب 1435 /// 19 ماي 2014 عبد الله عزوزي أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي (مادة اللغة الأنجليزية)