بسم الله الرحمن الرحيم ربي صلي وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين حديث النفس كلنا يحدّث نفسه و يتحاور معها ، وكلنا يتذكر ما فعله من قبل و كأن شريط فيديو يمر بدهنه . في بعض الأحيان يتذكر الإنسان ما فعله في صغر سنه ، يحلل ويناقش فيرضى عن أفعال و يجد نفسه غير راض عن أخرى ،غير أن الإنسان في الصغر يكون متحررا و لا يبالي بكثير منها ،فهوا أصلا غير مكلف ، ومع ذلك تحاكيه النفس في كبره و يتمنى لو يعود به الزمن حتى يغير من أفعاله التي لم ترض عنها ، لكن هيهات هيهات لن يعود الزمن أبدا . كما يتذكر الإنسان الأشياء الحسنة التي قام بها في شبابه أو في ماض قريب فيفرح ثم يحاول أن يتذكر أخرى قد تفرحه . وقد يتذكر ما فعله من قبيح مع الآخرين كانوا أقارب أو بعيدين ويصل الحد به أن يضرب يده على جدار أو على طاولة أو يقذف برجله شيئا ما ، ثم يتحسر على فعله و يندم ولكن حيث لا ينفعه الندم . وفي بعض الأوقات والشخص ماض في طريقه في حديث طويل مع نفسه عن ما سيقوله لأصدقائه أو عائلته أو ماذا سيفعل في بيته أو عمله ، لا يتوقف عن التخطيط و التدبير إلاّ بلقاء أحد معارفه فيسلم عليه و يحدثه ، فإما أن ينسى كل ما مضى أو ينسى البعض ويتذكر البعض الآخر . . و في بعض الأوقات يناقش الشخص نفسه عن شيء قام به و لم يتقنه أو لم يحسن التدبير فيه بسبب أخطاء وقع فيها،كالتسرع أو الإهمال أو التردد أو الاندفاع ...... مع العلم أنه كان من الممكن جدا أن يتجنبها ، فتحاسبه نفسه عن ذلك و يتمنى عودة الكرة ليصحح ما فات لكن الواقع لا يسمح بذلك ، فما فات لا يعود . و في هذا الشأن تحضرني تلك القصة العجيبة لشخص ((كانت مهنته نجارا و متخصصا في بناء البيوت من الخشب ، وكان يتقن عمله لدرجة ممتازة ، وحين كبر سنه طلب من مشغله أن يمنحه التقاعد ، لكن المشغل أصرّ على إبقائه في عمله نظرا لتفانيه وإخلاصه ، فلم يقبل النجار، فطلب المشغل منه أن يبقى معه لفترة بناء بيت جديد واحد فقط ، ثم يكون له ما يريد من تقاعد وراحة ، وافق الرجل وشرع في بناء البيت ولكن هذه المرة و مع تغلغل فكرة التقاعد في عقله و رغبته في الراحة ، قام بإنجاز البيت في وقت وجيز، دون أن يتقن جوانب البيت أو حتى أسسه ، وبعد انتهائه من بناء هذا البيت ذهب مسارعا نحو المشغل وقال له : لقد أكملت البيت ووفيت بوعدي فأتى دورك لتفي بوعدك وتتركني لأتقاعد وأرتاح ، أجاب المشغل : نعم ولكنني أحببت أن أجازيك على تفانيك في عملك معي مدة هذه السنين الطويلة وقررت أن أهديك شيئا ، فلم أجد خيرا من أن تبني آخر بيت في عملك ويكون لك مني هدية ، فالبيت بيتك)). تخيل معي كيف كان حال النجار آنذاك ؟ فأسوأ بيت بناه طوال فترة عمله كان من نصيبه . و أقبح ما تحدث النفس به الإنسان هو تلك الأفعال التي تدخل في خانة الذنب مع الخلق ، فلا هو قادر على مواجهة من ظلم ليطلب منه الصفح ولا هو قادر على نسيان ما فعل وليس في استطاعته العودة لما قبل حتى يتجنب ما فعل . و كما يعلم الجميع أن الذنب مع الخلق لا يغفره الله إلاّ بعفو المظلوم على الظالم فما تسجل انتهى ولا يمحوه إلاّ الثقة في الله سبحانه بعد التوبة النصوح والتي تكون بالندم على الفعل والإقلاع عنه و العزم على عدم العودة إليه مع طلب الصفح من المظلوم . و قد تحدثك نفسك عن معاص اقترفتها في شبابك وقد كانت بينك وبين ربك ، فاعلم أخي .. أختي أن الله قادر بكرمه وفضله أن يغفرها لمن يشاء ، وهنا أتذكر حديثا قدسيا يبن مدى رحمة الله بعباده . عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تبارك وتعالى: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي وصححه ابن القيم وحسنه الألباني. فحدث نفسك كيف ما شئت وعلى ما شئت ، لكن إياك ثم إياك ، أن تحدث الناس عن ذنوبك وهفواتك ، فكيف ؟ الله خالقك يسترك عند اقترافك الذنوب وأنت تفضح نفسك في الملأ ؟ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " كُلُّ أَمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ ، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ " رواه البخاري ومسلم .. هي النفس تأمر بالفعل ثم تلوم ، هي النفس تنسى أو تتناسى ، هي النفس إن غذيتها بالطاعات جنبتك المعاصي ، أفرحتك بحسن قدمته وأغضبتك عن شيء أسأت فيه ، فهل نحن نمتلكها أم هي تملكنا ؟ حقا إنها تملك كل من اقترف الذنوب ولم يزكيها و غرق فيها ويكون ممن دسّاها ، وحقا إنها مملوكة عند من يربيها ويزكيها ، و لا يحرمها من نعم الله و يبعدها عمّا يغضبه سبحانه . قال تعالى (( ونفس وما سواها ( 7 ) فألهمها فجورها وتقواها ( 8 ) قد أفلح من زكاها ( 9 ) وقد خاب من دساها (10) ......)) سورة الشمس . فقصة النجار تنطبق على كل واحد منّا في حياته ، فإما أن يكون غير متقن بتاتا لعمله وسيكون من الخاسرين و العياذ بالله، أو يكون من المتقنين ولكنه يَملّ في آخر حياته فيصبح من النادمين ، أو يكون من المخلصين المتقنين إلى آخر رمق في هذه الدّنيا الزائلة فيكون من الفائزين . اللهم اجعلنا من الفائزين برضاك يا رب العالمين آمين .