داخل حافلة لنقل المسافرين،تشغل الخط الرابط بين مدينة الفنيدق والدار البيضاء، وبهيكلها المتقادم وزجاجها المنكسر وكراسي اقتلع بعضها من مكانه، تخالها حافلة شاركت في ترحيل لاجئين فارين من الحرب وويلاتها، أقل ما يمكن أن توصف به أنها حافلة مفخخة بالسلع المهربة، فوق رأسك وتحت قدميك وعلى يمينك ويسارك،أينما وليت وجهك تجد أكياسا سوداء ملفوفة، وعلب عليها كتابة باللغة الإسبانية...حافلة متخصصة في التهريب....... وراء السائق على يمينه،تجلس امرأة في عقدها السادس،متلحفة بإيزار بني، يبدو عليها التعب،تضع نظارة طبية سميكة ملامحها تقول لك أنها قيدومة المهربين..بجانبها طفلة صغيرة سمراء اللون، خلفهما شاب وزوجته وطفل رضيع...المهربون هنا يشكلون عائلة واحدة..فالشاب تكفل طول الطريق بإطعام أطفال الحافلة بسلع مهربة طبعا..... أنا الكائن الوحيد الغريب عنهم، قادتني الصدفة إليهم..مساعد السائق شاب بعضلات مفتولة..عينه على الطريق..فجأة يتلقى مكالمة هاتفية،غيرت الأجواء في الحافلة..بدأ الجميع يتساءل ماذا حدث؟ خاطب الجميع أنهم محظوظين وأنه تم الحجز على الحافلة التي خلفوها وراءهم في الطريق،أخرجت المرأة سبحة من ثنايا ملابسها، وشرعت في الدعاء والتسبيح " يا ربي احفظنا..يا ربي نجينا يا ربي ألطف بنا .. ألقيت نظرة على ركاب الحافلة..الكل على أعصابه، حتى خلت نفسي الوحيد الذي لم يقع تحت صدمة الخبر..على الطريق السيار قريبا من محطة الأداء،على مشارف مدينة القنيطرة..ارتفعت الأصوات وعلا اللغط بالحافلة، يبدو أن الجميع يحفظ تفاصيل الطريق..فهمت من كلامهم أننا مقبلون على دورية للدرك الملكي..مساعد السائق يقوم بلف ورقة نقدية في ورق مقوى،لم أتمكن من معرفة قيمتها..السائق يخفض سرعة الحافلة..مرت دقائق قليلة..صاحت القيدومة: " ها هم كاينين"..اثنان من دراجي الدرك الملكي..دار حديث خافت بين السائق ومساعده، ظننت أن الحافلة ستتوقف، لكن السائق ألقى بالورق المقوى من النافذة المحاذية له،ليسقط أمام أرجل رجال الدرك،ثم رفع من سرعة الحافلة...تسمرت عيني في النافذة أنظر ورائي لأرقب ردة فعل الدركيين،حيث سارع أحدهما إلى مداعبة الورق المقوى بقدمه ليصل به إلى جنب الطريق.. قلت مع نفسي لقد طور الجميع وسائل العمل،حتى الرشوة أدخلوا عليها تحسينات..وتبادر إلى ذهني المثل المصري القائل " حاظيها..حراميها" ألا يعرف هؤلاء الدركيون أن هذه السلع المهربة تضرب الإقتصاد الوطني في العمق؟ لنقلب الموضوع في الاتجاه الاخر،ماذا لو افترضنا أن سلعا مغربية مهربة للتراب الإسباني،هل سيسمح رجال الشرطة وحرس الحدود الإسباني بدخولها؟ لا أظن ذلك إنهم يضعون مصلحة البلاد فوق كل شيئ،هذا هو الفرق بينهم وبيننا..نحن لا ننظر أبعد من مصلحتنا الخاصة..أما هم فنظرهم يمتد من أول نقطة للحدود إلى آخر نقطة للعبور..واصلت الحافلة سيرها،ومرة أخرى نقط للتفتيش ولا شرطي ولا دركي صعد للحافلة وألقى نظرة..الكل يأخذ نصيبه ويغمض عينيه..ودعنا الطريق السيار وعلى مدخل مدينة سلا توقفت الحافلة بمنطقة غابوية خلاء..وأمامها مباشرة توقفت سيارة صغيرة مرقمة بالدار البيضاء يقودها شاب وبجانبه فتاة جميلة..وبدأت حركة غير عادية بالحافلة..تم إنزال أكياس بلاستيكية سوداء اللون،مغلقة بإحكام،وتم شحنها في السيارة،لم تتجاوز العملية دقيقتان وانطلقت السيارة بسرعة كبيرة،وخلفها الحافلة..يعلم الله ماذا يوجد بتلك الأكياس..سلع مهربة؟ مخدرات؟ أسلحة وقنابل؟ الله أعلم..وتستمر الحافلة بالسير.... اندهشت لهول ما رأيت..هؤلاء هم من تدفع لهم الدولة رواتب آخر كل شهر،لأنهم يسهرون على حمايتنا وسلامتنا.. هؤلاء هم من قال عنهم السيد رئيس الوزراء بن كيران، أنهم يسهرون الليالي يقاسون البرد والجوع، بينما نحن نيام، وهم يحرسون أحلامنا، طبعا السي بن كيران لم يسبق له أن ركب حافلة من هذا النوع، وإن قدر الله وزاره حلم ذات ليلة على أنه ركبها، فتأكدوا أنه سيتعيذ بالله من هذا الحلم بمجرد ما سيستيقظ من هذا الكابوس. التهريب واقع نعيشه في بلادنا، يضيع على خزينة الدولة الملايير، يقتل الاقتصاد الوطني،تهريب في كل الاتجاهات وبشتى الأنواع، تهريب السلع، تهريب البشر، تهريب العقول،تهريب بناتنا إلى قبائل البترودولار، للمتاجرة في أجسادهن وشرفهن، مقابل عيون الورقة الخضراء. لا يسعني سوى أن أردد مع تلك المرأة قيدومة المهربين: يا ربي ألطف بنا، ونجينا، واحفظنا، فقد تشابه علينا كل شيئ، كما تشابه البقر على بني إسرائيل فبعقلية هؤلاء ستتقدم غينيا والموزنبيق وبوركينفاصو..وسنراوح نحن مكاننا فقد طاب لنا المقام... الحاضي الله أوصافي... عبد العزيز كريط