1) من أهم أركان النفس الإنسانية التي طرحها القرآن الكريم باعتبارها تمثل مظهرا رئيسيا ،عليها يتم تقسيم سلوك الإنسان وخلفياته، نجد تلك الصورة التي عبر عنها بالنفس الأمارة بالسوء، وهي تمثل الجانب المذموم من التوجه النفسي. وتتجلى على عدة صور وظواهر جزئية في سلوكه الظاهري والباطني. بحيث ستمثل المجموعة السالبة في كيان الإنسان كمقابلة ومناقضة للموجبة ذات الصورة المحمودة من ظواهره النفسية . ولئن كنا قد اصطلحنا بمصطلح المجموعة أو النفس السلبية أو السالبة فذلك من حيث إنها لا تقدم للإنسان مكسبا زائدا على ما هو عليه في نفسه الحسية الغريزية أو ما في معناها،أي أنه لا يسعى إلا إلى الاستجابة للمتطلبات الجسدية أو ما يدور في فلكها من نوازع ذاتية تؤول في النهاية إلى تحقيق الرغبة الجسدية على غير اعتدال أو وجه صحيح في أغلب الأحيان . فلقد ورد هذا الوصف للنفس الإنسانية في قول الله تعالى :"وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي لغفور رحيم ". فالآية قد وردت في سياق أو معرض حادثة لها دلالتها الخاصة على مستوى سلوك غريزي محدد والذي بسبب تصارعه قد اعتبرت النفس على صيغة العموم بأنها أمارة بالسوء.بحيث إن هذا الوصف سيوضح لنا صورة استثنائية للنفس البشرية، ومع ذلك فقد تمثل قاعدة عامة عند أغلب الناس الذين قد يظهرون بسببها على شكل شخصية متناقضة ذاتيا. لأن الوضع الطبيعي والأسلم للإنسان ،عقلا وذوقا وسلوكا، هو أن يسعى إلى تحقيق مصلحته ونفع ذاته وبالتالي اجتناب كل إساءة إليها ورفض كل ما يضرها. لكن المشكلة التي تحتاج إلى تحليل عميق لواقع النفس الإنسانية هي: كيف يمكن تصور الإنسان الواعي يأمر ذاته بالسوء، ويسعى إلى حتفه بظلفه ؟ فمن تكون النفس المقصودة في الآية ومن يكون الإنسان الذي لا يبرئ نفسه ،وهل توجد ازدواجية في تكوينه على مستوى التناقض أم على مستوى التكامل ؟ كما أنه :هل له مسؤولية جزائية كاملة أم أنه يتحمل المسئولية عن بعض سلوكياته بينما يعفى منها في الجوانب الأخرى؟. إن ظاهرة الأمر بالسوء، الذي وصفت به النفس الإنسانية قد جاء في سياق الوضع الغريزي الذي هو من جهة قد يمثل المطلب الجسدي بالدرجة الأولى.و هو استحثاث باطني من جنس الباعث المادي لتحقيق الاستجابة للحاجة وسدها،وخصوصياته هو أنه انجذابي ومغناطيسي نحو مشاكله،على أية صورة كانت هذه المشاكلة. وبما أن الجسد له اتصال بالروح العنصر الواعي والشعوري في شخصية الإنسان فإنه سيكسب قسطا نسبيا من الوعي الذاتي الذي يصرف به مصالحه ويطلب بواسطته حاجاته،وتستحث من خلاله غرائزه.ولهذا فالوعي الجسدي هو وعي محدود انطوائي لا يعمل إلا في دائرة الأنانية الجسدية والتخطيط والتحايل على إشباعها إشباعا أعمى، وانجذابا غير واعي بأبعاده السيئة إن هو جاوز الحدود الفطرية واخترق حقل الوعي الروحي الذي هو أصله مرتكز حياته وإحساساته . والواقع أن سقوط النفس في دوامة الوصف بالأمارة بالسوء هو نتيجة فتح المجال لعدم التوازن بين العمل الروحي والعمل الجسدي،وقد دل على ذلك قول الله تعالى حكاية عن سيدنا يوسف عليه السلام :" إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي". إذ الاستثناء وارد بسبب التدخل الإلهي لضبط السلوك النفسي،مما يعني أن المرتكز في معرفة النفس ابتداء وانتهاء مرتكز عقدي توحيدي ،هو الذي يحقق التوازن بين الوظيفة الروحية والجسدية لتحقيق السلامة الفطرية. 2) والأمر بالسوء قد يعرض على صورتين: إما على صورة عقل واعي قد يتخذ صور تخطيط وحيل وتسويل وحديث نفس،وإما على صورة شهوة بدنية ستأخذ شكل الاندفاع والانجذاب نحو المبتغى بالتحسيس الممزوج بالألم واللذة كتلازم بين ألم اللذة ولذة الألم . والملاحظ أن الأمر النفسي قد يعتبر جزائيا على المستوى العملي أو الحركي،أما ما يبقى داخل الخطاب الذاتي الباطني فهو خارج عن هذا الاعتبار. وهكذا سنجد القرآن يقرر أن الظاهرة عامة عند الإنسان،وهي تأخذ مستوياتها بحسب الاعتماد الفطري أو غيابه وذلك في قول الله تعالى:"ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد،إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد،ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد،وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد، ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد"[1]. وبما أن هذه الظاهرة من خصائص النفس الإنسانية التي قد تدخل إما في حكم الاختيار، ولكن في حدود الاستعراض الخيالي، وإما في حكم عدم الاختيار بالتسلط والتأمر النفسي فإننا سنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرح بحكم شرعي كطمأنة للنفوس وصرفها عن التعقد وتوهم الخطأ أو الضياع وما إلى ذلك بحسب حديث النفس. فعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به "[2]،بل سيذهب إلى أبعد من هذا وهو التلطف في اتهام النفس وتحميلها من النعوت إلا ما تستحقه بالاستحقاق الجزائي المناسب كما في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي"[3]. واللِّقْس يختص بامتلاء المعدة . وهذا فيه أيضا دلالة الارتباط الموضوعي العضوي بين مفهوم النفس والاستحثاثات الغريزية . قال ابن جمرة كما يحكيه عنه العسقلاني:"ويؤخذ من الحديث استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة والأسماء والعدول إلى ما لا قبح فيه،والخبث واللقس وإن كان المعنى المراد يتأدى بكل منهما لكن لفظ الخبث قبيح ويجمع أمورا زائدة على المراد،بخلاف اللقس فإنه يختص بامتلاء المعدة.قال : وفيه أن المرء يطلب الخير حتى بالفأل الحسن . ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما ويدفع الشر عن نفسه مهما أمكن،ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ المشتركة. قال: ويلتحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله: لا يقول لست بطيب بل يقول ضعيف ولا يخرج نفسه من الطيبين فيلحقها بالخبيثين "[4]. لكنه مع هذا النهي عن وصف النفس بالخبث سنجد حديثا آخر يصفها بنفس النعت المنهي عنه،وذلك بالحكم الشرعي وليس بالحكم الشخصي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة:عليك ليل طويل فارقد،فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة،فإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان "[5]. وللجمع بين الحكم الشرعي والحكم الشخصي،فإن الحكم الشرعي يبقى هو المقرر الأعلى في قضايا النفس وظواهرها وبواطنها لأنه العلم الإلهي الذي له كامل الحق في الحكم على الأشياء ولأنه أعلم بها من كل جوانبها "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"[6]،وعلمه بالنفس قد يتضمن التقرير والحكم والجزاء والتربية والتزكية:"فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"[7]،"وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا،إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا،ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا"[8]. " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا"[9]. وفي الحديث:" أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم،فقال ويلك قطعت عنق أخيك ثلاثا! من كان مادحا لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسبه ولا أزكي على الله أحدا إن كان يعلم ". (رواه البخاري في كتاب الأدب ). [1] سورة ق آية 16-23 [2] رواه مسلم [3] رواه البخاري ،كتاب الأدب [4] :فتح الباري في شرح صحيح البخاري ،دار الكتب العلمية بيروت ط1-1410-1989 ج10 ص 690 [5] رواه البخاري ،كتاب الجنائز [6] سورة الملك آية 14 [7] سورة النجم آية 32 [8] سورة الإسراء آية 25