علاقات تكامل وتكافل (أو أخذ وعطاء) : لم يكن الصراع المرتبط بتقلبات الظروف السياسية والإقتصادية ليثير الشحناء بين أهل المدينة وجوارها، فقد ظلت تطوان تمثل بالنسبة لقبائل الجوار سوقا ضرورية لا غنى عنها، كما أن المدينة لم تستغن بدورها عن المواد الفلاحية التي تزودها بها البادية المجاورة، وفي ذلك ما يقوي حركية الروابط البشرية بين المجالين وما يزكي طبيعة الإرتباط القائم على الأخذ والعطاء. وبالرغم من أن القبائل الجبلية في معظمها كانت تخضع لسلطة المخزن، فإنها كانت تتمتع بنوع من الإستقلال الذاتي في تسيير شؤونها المحلية عن طريق مجلس الجماعة، ويمثل المقدم المدشر لدى السلطة المحلية ويباشر عدة مهام، ولكن القبائل رغم قيامها بممارسات وحفاظها على مؤسسات محلية، كانت إلى جانب ذلك مدمجة في سياق علاقات مخزنية عمودية تخترق حدودها، فتعزز تراتباتها وتزكي التمايز في نطاقها بتعيين القواد والشيوخ، أو بالإعفاء من الجباية أو غير ذلك. والمدينة بالنسبة للبادية المجاورة هي مقر القائد المخزني كما أسلفنا، وفي نفس الوقت مقر القاضي والعدول الذين يبرمون أحكام الشريعة، وفيها يوجد كذلك السجن (أو الحبس) الذي يزج فيه كل من ارتكب جناية أو جرما. ومن المؤكد أن أهالي تطوان كانوا منفتحين على باديتهم، وأن هجرة الجبليين بفعل الضائقة الإقتصادية أو الإضطرابات السياسية أثرت بشكل أو بآخر على بنية المدينة إجتماعيا وفكريا وديمغرافيا وعمرانيا، وقد ظهر أثر ذلك على مستويين: مستوى أول، وكان انعكاسا لحالات الجفاف وانحباس المطر مما كان يهدد بالمجاعة، حيث وفدت جموع من أهل البادية على المدينة فتم استخدامهم في أشغال البناء وحفر الآبار والغرس وفي الأعمال الحقيرة، وشكل هؤلاء يدا عاملة رخيصة ومسخرة وتعاطت لأنشطة حرفية تسعى لتأمين المأكل والملبس والمسكن، ووجدت صعوبة في الإنصهار داخل مجتمع المدينة، وكونت حزاما سكنيا لحومة البلد من الناحية الغربية امتد من حومة العيون إلى باب النوادر. وفي المستوى الثاني، ثم الإختلاط باستقطاب الفئات المتفقهة من أصول بدوية والتي أكسبها جاهها المعرفي صيتا ومكانة بين أوساط الأهالي، وشكلت طبقة نبيهة زودت المدينة بأطر التدريس في الكتاتيب والمساجد والجوامع، وأطرت حرفة العدالة والإفتاء، فكان معظم فقهاء تطوان وعلمائها في القرن الثامن عشر ينتسبون إلى قبائل الجوار، وهم الذين مارسوا القضاء والتدريس، وكان منهم المفتون والعدول وأئمة الجوامع وخطباؤها. ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر أفراد عائلة ابن قريش اليجمية (الحزمرية) الذين احتكروا مناصب القضاء والإفتاء والخطبة والإمامة طيلة عدة عقود من القرن المذكور، وكذلك أسرة ابن طريقة التي تناوب أفرادها على العدلية والقضاء، وقاضي الجماعة الفقيه عبد الرحمن الزلال من بني مصور، والفقيه علي شطير السماتي، والفقيه العلامة محمد بن الحسن الجنوي وينتمي إلى مدشر أزجن من قبيلة سماتة وغيرهم. وكما استقر بالمدينة عدد من الصلحاء الذين أتوا من الجبل وأسسوا زوايا لهم وجمعوا حولهم عددا من المريدين والأتباع من أهل المدينة الذين كانوا يتبركون بصلاحهم، وينسبون لهم الكرمات، ونذكر منهم الشيخ الولي الصالح سيدي عبد الله الحاج البقال الذي ولد بمدشر ترانكات من قبيلة بني حزمر، ومقر أسلافه بالحرايق، وانتقل إلى تطوان في عهد القائد محمد عاشر الذي وهب له أرضا ودارا، وتوفي عام 1792/1207. ويحكى أنه طلب من الولي الصالح سيدي علي بن ريسون الذي كان مقيما بتازروت من جبل العلم أن يقدم على تطوان ويقيم بها، فلبى طلبه. وكذلك الورع الصوفي مولاي عبد الله الوزاني الذي انتقل إلى تطوان وبها توفي عام 1785/1199، والشيخ العالم والصوفي سيدي أحمد ابن عجيبة من مدشر الزميج بقبيلة أنجرة. ويمكننا أن نعتبر أن أهم عامل ساهم في الترابط المتين الذي جمع مدينة تطوان بمحيطها الجبلي، هو وجود الشرفاء العلميين داخلها وفي المناطق الجبلية. المجاورة، ويكفي أن نذكر هنا الدور الذي قام به الشرفاء الريسونيون وأبناء عمومتهم الوزانيون في هذا الربط، بحيث كانوا يشكلون قوة دينية وإجتماعية حد السواء، وهذا ما ساعد على وجود تجاوب بين الطرفين ربما كان أهم بكثير من التنافر الذي كان يحصل بينهما من حين حاضرة في البادية والمدينة على لآخر. وهناك جوانب أخرى كان يتم خلالها تعزيز العلاقة بين المدينة وباديتها، ومنها أن بعض أهالي تطوان ممن كانوا يمتلكون عقارات يستغلونها كأغراس وحقول في بعض المداشر المجاورة أو بالقرب منها، كانوا يتصاهرون مع سكانها، وفي ذلك حفاظ لأملاكهم من التعرض للسلب أو الإتلاف، وضمان بقائها لخلفهم. ومنها كذلك الأسواق الأسبوعية خارج المدينة التي كانت تتم فيها عمليات التبادل التجاري، فإنها كانت تلعب دورا كبيرا في توثيق الصلة بين المدينة وباديتها. علاقتها مع الداخل : كانت لمدينة تطوان علاقات خارج محيطها المجاور تصل إلى سواحل ومدن داخلية عبر طرق تجارية معلومة، فتطوان بمرساها عند مصب نهر مرتيل كانت تمثل بوابة المغرب على التجارة المتوسطية، فكانت تتم تجارة نشيطة عبر المرسى في إتجاه قبائل غمارة والريف المجاورة للساحل المتوسطي مثل متيوة ومسطاسة وبني بوفراح وبني يطفت وبقيوة، ومع قبائل بني ورياغل وتمسمان وبني سعيد. وكانت المبادلات تتم عن طريق المساحلة وتستعمل فيها قوارب تدعى «غرابو» وفلوكات، وهي مراكب صغيرة تتميز بسهولة رسوها عند الخلجان والمرافئ الطبيعية، وكانت تقوم بنقل الأشخاص إلى جانب البضائع. وبذلك ساهمت في حركية التواصل البشري بين منطقة غمارة والريف من جهة وبين عمقها الحضري الذي مثلته تطاوين من جهة أخرى. وسارت في نفس الإتجاه حركة المبادلات مع مدينة شفشاون التي جمعتها بتطوان جذور تاريخية وبشرية مشتركة تعود لفترات التأسيس. وكانت البضائع تنقل بواسطة الدواب، وتمر عبر واد المحجر وواد النخلة، ثم إلى قبيلة بني حسان فقبيلة الأخماس، وكان الحمارة الذين يتكلفون بنقل السلع بين المدينتين يقسمون المسافة إلى مرحلتين. ولم تكن علاقة تطوان تقتصر على النواحي المذكورة فحسب، بل كانت تتعداها إلى المدن الأخرى، وتأتي مدينة فاس في طليعة المدن الداخلية التي استفادت من مرسى تطوان، فعبره كان يمر قسط هام من المبادلات التجارية التي تربط تجار فاس بجبل طارق أو مرسيليا أو الشرق، وقد دفعت ظروف الوباء أو الإقتراب من مناطق الوسق والورد إلى استقرار بعضهم في تطوان، وهذا الوضع أدى إلى نمو مصالح مشتركة بين المدينتين إلى درجة أن بعض الكتاب الأوربيين كانوا يشيرون إلى تطوان ب «الأخت الصغرى» لفاس، ويؤكدون على روابط التآزر بين الحاضرتين في العديد من المناسبات. منشورات جمعية تطاون أسمير تطوان في القرن الثامن عشر "السلطة- المجتمع – الدين" للكاتب عبد العزيز السعود بريس تطوان يتبع...