علاوة على الاستعمال والاستغلال الماديين والمتعددين للماء فإن سلوك الإنسان تجاه هذا العنصر كان له وجه آخر ذي طبيعة غير مادية، بنيت عليه كثير من المرتكزات الأساسية للمجال الحضري العتيق. ونورد فيما يلي جانبين فقط من هذا الوجه المادي، وهما: مسألة مجانية استعمال الماء بمعظم المرافق العمومية وبعض وحدات الاستهلاك المتميزة، والقيمة غير المادية لبعض نقط ظهور الماء بالوسط الحضري المعني. -مجانية استعمال الماء: قرار/سلوك جماعي جعل الناس يتمسكون بهذا الوسط إن القناعة الحاصلة لدى السكان الأوائل لمدينة تطوان بالدور الهام والحسّاس لعنصر الماء في تنظيم المجال وهيكلته وتحريك دواليب الاقتصاد الحضري، أملت عليهم تعميم مجانية استعماله في معظم المرافق العمومية كالمؤسسات الدينية والميضات والحنفيات العمومية ودور الدباغة…ومنح امتيازات خاصة لبعض وحدات الاستعمال الجماعي والاجتماعي (الحمامات والفنادق التقليدية مثلا) لما لها من أدوار وأهمية في حياة الإنسان داخل المدينة وخارجها، زيادة على اعتبارهم للحظوظ المشتراة من قبل المستفيدين بمثابة جزء من العقار يباع ويشترى، ولأصحابها حق التصرف فيها في حدود ما هو متعارف عليه لدى "أهل البلد". إن اعتبار قضايا الصيانة والإصلاح والترميم وما شابه ذلك، مما له صلة بنظام الشبكة، مسألة تلزم الجميع من شأنها هيكلة المجتمع والعناصر المكونة للوسط وفق تصور ومرامي محددة يشعر ضمنها الإنسان من تلقاء نفسه بمسؤولية الإشراف والسهر عن ضبط سلوكه تجاه كل مكونات المجال بدءاً من داخل منزله ومرورا بالمرافق المختلفة وانتهاء بعيداً عن أسوار المدينة. وهكذا وبتلقائية أحس وأدرك أن مجاله الحيوي لا يتوقف حيث يوجد بل يمتد إلى حيث يتحرك ويتعامل. ولذلك حاول من خلال عنصر الماء، وضمن بعض المعالم الحضرية، التعبير عن ذلك دون مراء أو تصنع. إن مثل هذا السلوك الجماعي كان وراء دوام واستمرارية حسن السير الوظيفي لمجال تطوان القديمة، ولا زالت كثير من مظاهر هذا السلوك ثابتة إلى الآن (انظر الخريطة) وأن أدنى تحريف في بعضها يلحق أذى ويعطل وظيفة كثير من المرافق الحيوية والحساسة أحيانا. وقد كان لتوقف جريان هذه المياه في بعض المرافق، لا سيما المؤسسات الدينية منها، وإيصالها بمياه شبكة التوزيع الحديثة -غير المجانية- وقع كبير على استمرار وظيفتها. ذلك أن عدم أداء فواتير استعمال المياه بالمساجد ينذر بقطع الماء عنها، وهو ما يهدد بتوقف الوظيفة الروحية بالمؤسسات المعنية، لا سيما أمام تملص وزارتي الأوقاف والداخلية من أداء فواتير الاستهلاك باعتبار الأولى مسؤولة عن المنشآت الدينية والثانية وصية عن الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء بتطوان. إن قطع الماء عن المؤسسات الدينية العاجزة عن دفع قيمة الاستهلاك سيقلل من الارتياد عليها، الأمر الذي يهددها بالتوقف وبالتالي الانهيار التدريجي. وهي من القضايا التي يمكن تداركها بربطها من جديد بشبكة مياه "السكوندو" بعد إعادة النظر في مضامينه. -المشهد الإطار الذي تظهر فيه بعض نقاط الماء العامة منها والخاصة. وسنخصص في هذا السياق الحديث عن بعض "القنا" المشهورة بالمدينة: "قنا" باب العقلة: تقع "القنا" أو الحنفية العمومية لباب العقلة في مواجهة الداخل من الباب إلى المدينة العتيقة، وهي من بناء القائد محمد لوقاش حوالي 1165 هجرية، وحوضها من الحجر يعلو قليلا عن سطح الأرض، وكانت المياه تنهمر فيه بواسطة أنبوبين حتى بداية الخمسينات من القرن الحالي حسب تصريحات بعض المستجوبين. "قنا" باب التوت: تقع هذه "القنا" أو الحنفية العمومية لباب التوت على يمين الداخل إلى المدينة من جهة الغرب، أي من جهة الحي الإسباني القديم (المركز)، بعد تغيير موضع الباب حيث كانت "القنا" قبل ذلك تقع على الداخل إلى زنقة الأترانكات. وهذه "القنا" بناها القائد محمد لوقاش سنة 1168 هجرية، ومن مميزاتها أنها تحتوي على صهريج كبير مثل نظيرتها باب العقلة، لكنه في مستوى سطح الأرض، والظاهر أنه كذلك لتسهيل ورد البهائم المسوقة نحو الإصطبلات والفنادق التقليدية. وظل الماء يجري فيها إلى ما بعد بني الاستقلال. إن اختيار الموقع والموضع والمظهر العام للحنفيتين ومحتوى إطارهما الخارجي…كلها دلائل تكشف عن أهمية عنصر الماء في تنظيم المجال الحضري العتيق وهيكلته ودلالات الماء المتعددة لدى قاطني المدينة منذ نشأة النواة الأولى. فموقع الحنفية عند مدخل المدينة من شأنه أن يوفر للقادم إليها وللبهائم المسوقة مادة جد حيوية (الماء) قد يصعب الاهتداء إليها في مجال عرف تدجين المياه. وهو سلوك حضري ينم عن حسن العلاقة بين أهل المدينة والوافدين عليها…ويذكر بتعاليم الدين الإسلامي. والمتأمل في مكونات هاتين الحنفيتين مثلا، يدرك القيمة المعنوية التي أولاها سكان المدينة لعنصر الماء، فهم لم يعتبروه مادة للاستهلاك فقط بل أداة لتزيين محيطهم الداخلي والخارجي، لذلك نجدهم مثلا جعلوا من معظم الحنفيات العمومية، وبالخصوص المتموضعة منها قرب الأبواب الرئيسية، منشآت مائية تختزل في كينونتها معظم مظاهر حياتهم الحضرية، فحذق الحرفيون في الزخرفة والنقش وفق تصور نابع عن الإرث الحضاري ومكونات الثقافة الإسلامية، فاستعملوا مثلا الزليج والرخام التقليديين لكتابات آيات قرآنية وأحاديث نبوية وحكم بليغة وأبيات شعرية… لها صلة بموضوع بالماء، وبخط عربي أصيل كتبوا ذلك في تناسق تام بين المواد المستعملة والمعاني المنقوشة/المنحوتة في الجزء الأعلى من الحنفية، وجعلوا من القسم الأسفل حوضا ترتوي منه البهائم، ويعلوه صنبور ماء (أو أكثر) دائم الجريان تتزود منه الأسر غير الموصلة بالشبكة أو غيرها، ومن الحوض تصرف المياه خارج الأسوار لتستعمل في أغراض فلاحية في الغالب. كل هذا جعل من هذه المنشآت المائية (قنا) رموزا مجالية ذات دلالات متعددة في ذاكرة القاطنين والوافدين ومعالم حضارية وحضرية. والمتأمل في ما كانت عليه المنشآت المائية (المكونة لنظام "السكوندو") كإحدى مكونات المجال الحضري لتطوان العتيقة، وما آلت إليه يتيقن أن هذا الوسط فقد كثيرا من عناصر هويته ومظاهر معمارية. وما تبقى آيل لا محالة نحو التلف والاندثار، ويقال "إذا أردت أن تعرف حضارة شعب ما فانظر في مدينته". إن نظام "السكوندو" في كينونته يعد من الإنجازات التي تشهد وتبرهن على ما وصلت إليه الحياة المدني بمدينة تطوان آنذاك. إلا أن الوضعية الحالية المتسمة بالتردي (وهي حصيلة تطور زمني محدود تفاعل ضمنه عوامل متعددة جلها مفتعلة)، ما فتئ وقعها يزداد عنفا وخطورة أكثر من ذي قبل، وهو ما يثي الحسرة والغيظ ولا سيما وأن معالمه تعتبر من عناصر الهوية الحضرية والحضارية المغربية. لذلك، وبعد أن آلت الأمور إلى ما آلت إليه فإن مسألة التخفيف من حدة الوطأة أمر وارد في كل لحظة وحين وهو موكول إلى ذوي النيات الحسنة والغيرة على الهوية الوطنية. ومن الأكيد أن إرجاع جريان الميا "السكوندو" إلى منشآتها المائية والمرافق العمومية سيزيد – الآن أكثر من السابق – المدينة العتيقة جاذبية ورونقاً، وقد يكون ذلك في إطار رد الاعتبار إليها، علما بأن الماء كان من العناصر الأساسية التي أقيمت عليها هذه وضمن لها حسن سيرها الوظيفي واستقرار مختلف هياكلها. الكتاب: المدينة العتيقة في تطوان "دليل معماري" (بريس تطوان) يتبع..