فعلها ترامب، وأعلن رسميا مساء الأربعاء الماضي، اعتراف إدارته بالقدسالمحتلة عاصمة لإسرائيل، ونفذ تعهدا قطعه خلال حملته الانتخابية، بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
وكان قد سبق للكونغرس الأميركي أن أصدر عام 1995 قانونا بنقلها، دأب الرؤساء الأميركيون المتعاقبون على تأجيل تنفيذه، معتبرين أن الظروف لم تنضج لذلك بعد.
الآن نضجت الظروف وفعلها ترمب! لمثل هذا اليوم إذن أجهضت ثورات الربيع العربي، من أجل وأد روح المقاومة لدى الشعوب العربية، فتصبح كالميت "الضرب فيها حرام ".
فعلها ترامب، وقطف إحدى ثمرات الثورات المضادة في المنطقة العربية، التي تأكد لنا اليوم أنها كانت خيانة كبرى، بدعم وتخطيط من الغرب الذي يسعى لحماية أمن إسرائيل، وتمهيدا للصفقة الكبرى أو ما يسمى ب "صفقة القرن".
فعلها ترامب، وعرى الكثير مما كان الغرب يستره، فهو عندما يدعي دعمه "للقضايا العادلة"– وقل ما يكون عادلا – وعندما يوهمنا بتدخلاته لإنفاذ القانون، وفرض احترام حقوق الإنسان عبر العالم، لا يفعل ذلك لسواد عيون العدل والقانون أو حقوق الإنسان، إنما يفعل ذلك حفاظا على مصالحه، وحتى يظهر بمظهر المنسجم مع مقولاته وشعاراته المزيفة.
فعلها ترامب، وأعلن موت عملية سلام المخادعين، وقلب الطاولة على كل من وقع الاتفاقيات والمعاهدات، من كامب ديفيد إلى أوسلو، إلى المبادرة العربية وصولا إلى صفقة القرن. فلم يبقى من خيار سوى المقاومة، لرد الحقوق، ومواجهة المحتل المتغطرس. فعلها ترمب، وأسقط القناع عن الوجوه التي بدأت تتسول التطبيع مع الكيان الصهيوني وتتباهى به، بل وتشيد بدولة الديمقراطية والسلام المزعومة! هؤلاء المغردون خارج السرب، الرافعون لشعارات مثل:"القدس ليست قضيتنا والفلسطينيون باعوها".
فعلها ترامب ومنح للقادة العرب فرصة أخرى ليثبتوا مدى انتمائهم لشعوبهم ولقضاياهم القومية، (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). فالشعوب في اعتقادي، يمكنها أن تنسى أي شيء، وكل شيء، من أجل المسجد الأقصى.
فعلها ترامب، فتكشفت كل محاولات فصل الأمة عن دينها وثقافتها وهويتها، ذلك أن الأمة متى استمسكت بدينها استحالت عليهم. والقارئ لما قاله ريتشارد نيكسون في كتابه (أنتهز الفرصة):
"إنّنا لا نخشى الضّربة النّووية، ولكنّنا نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب".، يفهم كيف أنهم لم يتقاعسوا عن إذكاء نار الصراعات الطائفية والمذهبية بين المسلمين من جهة، ولم يدخروا جهدا من أجل تشويه الإسلام، واتهامه بالإرهاب ليحاربوه بطريقة غير مباشرة، من جهة أخرى.
فعلها ترمب، وتكشفت أيضا- لمن كان يغطي الشمس بالغربال- المخططات الاستيطانية الإسرائيلية، من تهجير للفلسطينيين، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل، بل وضم معالم إسلامية إلى قائمة التراث اليهودي.
وهو ما يدفعنا اليوم لأن نفتح عيوننا على اتساعها، لندرك حجم تفريطنا في القدس، التي لم تكسب طوال السنوات الماضية، سوى بيانات الشجب والاستنكار!
فعلها ترامب، وأهدى إلينا صفعة قوية على خد العروبة، هذه الصفعة التي كنا نحتاجها فعلا، علها تحرك ما تبقى من الغضب داخلنا، ولتؤكد لنا أن القدس كانت وستظل عنوانا لوحدة شعوبنا العربية والإسلامية.
فلن نجد حدثا يجمع شملنا المشتت كعرب ومسلمين كهذا الحدث، ولن نجد أحسن من هذه الفرصة لننسى فيها صراعاتنا وخلافاتنا، ونترفع عن مصالحنا الشخصية الضيقة.
فعلها ترامب، وزادنا تشبثا بأن القدس التي نريدها عاصمة لفلسطين، هي مدينة القدس بشرقها وغربها، بكل أحيائها وأركانها، بشوارعها وأسواقها وأسوارها، بتاريخها وتراثها بتعدديتها وتسامحها وأماكنها الدينية المقدسة.
فعلها ترامب إذن، لكي نعرف كمسلمين ويعرف شبابنا وأجيالنا، وليعرف العالم أجمع، أننا مهما انشغلنا بالشؤون الداخلية لأوطاننا، فإنها لا تشغلنا عن المسجد الأقصى وتحرير فلسطين، فهي القضية الأولى، وأكثر مشكلات المسلمين إلحاحيَّةً وحساسيةً.
فعلها ترامب، ليمنحنا بارقة أمل بأن تكون أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، المدينة التي بارك الحق سبحانه وتعالى حولها، هي أساس الوحدة بين المسلمين، والمفتاح الأساسي لحل كل قضايا المنطقة، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً.