تحدثنا طويلا ذلك المساء، قبل أسبوع وربما قبل شهر أو سنة، لم أعد أذكر جيدا متى وأين. لم يعد مهما كما أظن في أي زمان وأي مكان، كان الوقت ملغيا من تلقائه. وكان الكلام ضائعا أو تائها بين مسائل مختلفة غير مترابطة أو فلنقل انه لم تكن هناك مسائل بل مجرد أفكار غير مكتملة، أو فلنقل كانت هناك شتات رؤى غير واضحة تماما. وكان الأمر في منتهى التعقيد كما تهيأ لي في حينه. لكنه ما لبث أن تحلل من الغموض وأضحى مع بزوغ الفجر بسيطا وممكن الإحاطة والفهم. على الأقل هكذا تبدى لنا ونحن نغادر إلى موعد آخر مع الكلمات المفككة نجرب صياغة الكلمات في جملة مفيدة نجرب جمع الأحرف في مفردات على نحو ما فنفشل. قلنا في بداية الحديث الذي لم ينتظم كحوار أبدا أن ما نسمعه وما نقوله وما نحاوله لا يعدو أكثر من ثرثرة، ولنقل ثرثرة جذابة، أو فلنقل ثرثرة مسلية. فنحن قوم نميل إلى التحدث كثيرا عن السالف والغابر والمبهم. ونحب الحكايات المثيرة التي لا تنتهي، ونحب الإصغاء إلى قال الراوي وحدثنا فلان عن فلان عن أبي فلان عن ابن فلان قال.. وقال أحدنا ونحن نستغرق في الدهشة والتعجب أن ذلك من طباعنا ومن عاداتنا. وقال ومن خصالنا أيضا.
وإن كان لا يزال في الذاكرة بقايا من الوقائع والكلمات، أستطيع أن أسترجع شيئا تردد عن مشكلة سميناها أساسية هي مشكلتنا كقوم نحب الثرثرة. عدت فتساءلت: مشكلة من؟ ثم تساءلت مستغربا: وأية مشكلة هي تلك؟. فقيل:نحكي ولا نصغي، ننظر ولا نرى، نقول ولا نفعل، نفعل عكس ما نقول، نبدي الرأي لمجرد إبدائه، نعترض ونحن نوافق، نسير ولا ندري إلى أين تأخذنا الخطى. ولنقل خبط عشواء أو أي شيء من هذا القبيل. ربما تذكرت الآن أن حوارا متقطعا عرّجنا به صوب المعرفة أحدهم سماها التنور، أي إضاءة النفس البشرية بالعلم والقيم والأخلاق. وقد قال أحدهم هذه مسألة لا تعنينا، ولم يحدث أن قوبل هذا الجواب بالاعتراض أو التدارك. قال انها لا تعنينا وانتقل فورا إلى الجموع والعدالة والحرية، وفي الفاصل الثاني كان الإنسان والأصوات الهادرة والهتافات العالية والعيون والحناجر والظلام أو النفق المظلم أو مغاور الظلام، أو فلنقل الظلم والظلام وثالثهما التخلف. ماذا نفعل، إذن؟ نقتحم المغاور. والظلام؟ نلعنه ولا نضيء شمعة. والظلم؟ نمجد إبداعه. والتخلف؟ نحرث أرضه ونرويه لينمو ويثمر ويتكاثر...
كنا في صدد المعرفة والعلوم والتقدم المذهل الذي حققته شعوب أخرى وأنعمت علينا ببعض ما أنجزت وأبدعت. فما الذي أوصلنا إلى هذه المفارق الموحشة؟ ترى، من ذا الذي طرح السؤال؟ لا أعتقد في أي حال أن أحدنا تطرق إليه. لعله يخطر الآن للمرة الأولى، في سياق الحديث عن واقعنا وموقعنا ووقعتنا مثلما يخطر أيضا أن نتساءل ما الذي يجعلنا دون الآخرين من شعوب الأرض دونهم في كل شيء، دونهم حتى في الحد الأدنى من حقوق الإنسان وواجباته، دونهم لمراحل بعيدة ولمسافات طويلة في خطاب العصر الذي هو خطاب العلم والثقافة والتطور وكأننا لم ندخل العصر ولم يترام إلى أسماعنا شيء عن إنجازاته المذهلة. بل كأننا خارج كل العصور وفي بدايات البدائية نثير الهلع في النفوس حين يتخاطبون معنا أو ينظرون في قضايانا. ترى، ما هي علتنا وهل هي علتنا وحدنا وقف علينا مندورون لها ولا من يفي الندر ويحل قيودنا ويحرر عقولنا ونفوسنا وعيوننا وقلوبنا.
ما هي العلة؟ لماذا نحن هكذا؟ لماذا لا نؤمن بأنفسنا، لا نؤمن بشعوبنا، لا نؤمن بتاريخنا، لا نؤمن بأوطاننا ولا نؤمن... بغير الظلم والظلام وثالثهما.
قال الراوي وحدثنا فلان عن فلان عن الحرية والديموقراطية والعدالة، فأين هي الحرية وأين تختبئ الديموقراطية ووراء أي حجاب تتخفى العدالة؟ ونظل نقول ونتحدث ونخطب بمناسبة وبدون مناسبة نأخذ الحرية من شعرها ونشدها موثوقة إلى منابر الخطابة. وتهدر الأصوات هاتفة للحرية وحماتها وسياطها، ونفعل الشيء ذاته مع الديموقراطية الممنوعة من الصرف، ونهتك ستر العدالة في الصباح وفي المساء. ومع هبوط الظلام نعود إلى مغاورنا مكتومي الأنفاس. وقال الراوي تُعقد الندوات وتلقى المحاضرات وتحتدم النقاشات، وتدوم الحلقات وتطول، وتذرف الكلمات دموع التعب والإرهاق من فرط ما شددوا على حروفها وما لهجوا بها وأجادوا في لفظها وتحريكها. ثم تنصرف الجموع وتدخل الكلمات مع الأفكار إلى أوكارها. فمتى نخرج إلى الضوء حيث النور والأمان والأمل؟ تُرى، هل نغادر مغاور الظلام؟ تُرى، متى يحدث ذلك؟ تُرى، متى تحدثنا في مثل هذه المسائل، وهل جرى حقا مثل هذا الحديث؟. *-*-*-*-*-* والله الموفق 2017-08-28 محمد الشودري