الذهب، بالإضافة إلى أنه معدن ثمين، هو على أغلب الظن المعدن الأول الذي عدنه الإنسان في فجر الحضارة لا لشيء سوى أنه عثر على الذهب الخالص على شكل شذرة وما كان عليه سوى أن يصهره ليصنع منه ما يشاء! وبما أنه معدن له لمعانه الباهر لذا تهافت عليه الجنس اللطيف تهافتا غريزيا. ويقول علماء الآثار بأن السيدات الأنيقات استخدمن في العصور الخوالي أسلاك الذهب كتسريحات لتصفيف الشعر، وأغرم الناس بمنظر هذه التسريحات التي أضافت سحرا جذابا عليهن ومازالت التسريحات هذه تتطور حتى تحولت إلى تيجان صغيرة تزين رؤوس السيدات. وأعجب الملوك أيضا بمنظر هذه التيجان، فأمروا الصاغة بصوغ تيجان أعظم حجما تتناسب مع رؤوسهم!
والذهب معدن ثقيل الوزن لا يتأكسد ولا تؤثر عليه الحوامض ثم إنه لدن للغاية. ويمكن تحويل 25 غراما من الذهب إلى سلك رفيع يبلغ طوله 75 كلم، أي أن كل غرام من الذهب يمكن أن يتحول إلى سلك طوله 3 كلم وتستعمل هذه الأسلاك الرفيعة في أعمال التطريز. والذهب قابل للطرق أيضا ليتحول إلى صفائح رقيقة لا يزيد سمكها على جزء واحد من مائة ألف جزء من السنتيمتر أي أن سمك عشرة آلاف صفيحة منه لا يبلغ سوى مليمتر واحد فقط. فإذا تم تحويل الذهب إلى صفائح رقيقة كهذه أصبح شبه شفاف وصار الضوء الذي ينفذ من خلالها أقرب إلى اللون الأخضر! أما الصفائح التي يستعملها الصاغة فتكون عادة بسمك واحد في العشرة آلاف من السنتيمتر أي بسمك قدره عشرة أضعاف الحد الأدنى الذي يمكن الحصول عليه بالطرق.
والذهب غالي الثمن لأنه بالإضافة إلى ميزاته العديدة تلك فهو نادر نسبيا، وكان المقدار المتداول منه في العالم محدودا حتى أوائل القرن التاسع عشر حينما صار المستخرج منه في مناجم الذهب بأمريكا وجنوب إفريقيا وروسيا واستراليا يتضاعف على مر السنين، ومع هذا ظل الذهب يحافظ على قيمته الشرائية لأن عدد الناس في العالم أيضا تضاعف بنسب متفاوتة في نفس تلك المدة فلم يطرأ أي تغيير ذي بال على ما يصيب الفرد الواحد من الذهب من الوجهة الإحصائية. ثم إن الذهب ظل محافظا على قيمته الحقيقية على الرغم من التضخم النقدي الذي أحدث اضطرابا في أثمان السلع والحاجيات.
وجرت العادة على أن يعتبر الذهب الخالص 24 قيراطا. فإذا قيل عن الذهب بأنه عيار 22 قيراطا مثلا فهذا يعني بأنه مخلوط بمعدن آخر بنسبة واحد إلى اثني عشر. وعليه فإن قيراط الذهب هو اصطلاح لنسبة معينة، بينما القيراط في عرف الأحجار الكريمة يمثل وزنا معينا يعادل خمس الغرام الواحد في التعامل الحالي. ومن المعتاد في سوق الذهب والسلع الذهبية أيضا أن لا يقل عيار السلع المختومة بختم الصائغ عن تسعة قراريط، ويجوز أن يبلغ هذا العيار، خاصة في الخواتم، 22 قيراطا.
أما المعدن المعروف بذهب "مانهايم" والمستعمل في إنتاج الحلي الرخيصة فلا يحتوي على ذرة من الذهب، بل هو خليط من النحاس والقصدير والخارصين إلا أنه يشبه الذهب في لونه، وقد اخترعه أحد الصاغة في مدينة مانهايم بألمانيا. وأما الذهب المدلفن Rolled Gold فهو في الواقع معدن من المعادن مثل النيكل أو النحاس أو خليطة معدنية مطلية بطبقة رقيقة من صفيحة الذهب. ومن عجائب الحقائق أيضا أن المحيطات تحتوي على مقادير كبيرة من الذهب، وقدر الخبراء في الثمانينات من القرن الماضي (20) أن كل 5 كيلومترات مكعبة من ماء المحيط تحتوي على مقدار مهم من الذهب. فلماذا لا يستخرج الذهب من ماء البحر كالملح؟ السبب هو أن كلفة استخلاص الذهب من مياه البحر تكون أعلى من قيمة الذهب الحالية في الأسواق.
إن ندرة الذهب وصوته الرنان بالإضافة إلى ميزاته العديدة التي تجعله فريدا بين المعادن هي عوامل حفزت الناس على اقتنائه منذ فجر التاريخ وأصبح الذهب رمزا للثراء والوجاهة وعلى رأس هؤلاء، الملوك الذين أغرموا بالتيجان الذهبية والعرش الذهبي، أما لونه اللامع فقد شبه بالشمس منذ قديم الزمان. ولم يبلغ في الحرص على الذهب ما بلغه الملك "ميداس" الإغريقي الأسطوري. وتقول الأسطورة بأن "باخوس" إله الكروم والنبيذ في عرف الإغريق القدماء استضاف الملك "ميداس" وأكرمه وسمح له بأن يطلب منه ما يشاء فيكون، وكان بريق الذهب قد ذهب بعقل ميداس فطلب من باخوس أن يمنحه القدرة على تحويل كل ما يمسه إلى ذهب، فوهب له باخوس هذه الأمنية وطار ميداس فرحا فلما عاد إلى قصره صار يلمس فيه كل ما تقع عليه عينه فتحولت جميع الأطباق الفخارية والكؤوس النحاسية والأثاث إلى ذهب ثم خرج إلى الحديقة، وكلما لمس شجرة تحولت إلى ذهب بساقها وأغصانها وأوراقها وثمارها وأزهارها. فلما تعب من هوايته الجديدة عاد إلى القصر ليتناول طعام الغداء فأحضر الخدم الدجاج المشوي واللحوم المشوية والحساء والخبز وجميعها في أوان من الذهب إذ لم يبق في القصر إناء من الفخار، فهمَّ ميداس بالأكل ولكن تحوَّل كل ما لمسه إلى الذهب أيضا وحتى الحساء تحوَّل إلى سائل من معدن الذهب، فوجم ميداس وقبض على قدح فيه ماء فتحول إلى الذهب مع الماء الذي فيه وأيقن ميداس أنه إذا ظلت عنده قدرة تحويل كل ما يمسه إلى ذهب مات جوعا وعطشا وشعر بأنه ارتكب خطيئة كبيرة وأن باخوس سخر منه ومن طمعه وأراد أن يلقي عليه درسا لا ينساه فعاد ميداس إلى باخوس باكيا تائبا يسترحمه بدموع حارة أن يزيل عنه تلك القدرة، فضحك باخوس ضحكة رنَّت لها زوايا الحديقة الواسعة التي كان فيها وظل يقهقه ساخرا منه ولم يلبّ باخوس رجاء ميداس إلا بعد أن أذاقه الجوع والعطش، فأشار عليه بأن يستحم في نهر باكتول حتى يتطهر قلبه وعقله من عشق الذهب، وبما أن ميداس ظل في ذلك الشهر مدة طويلة لإزالة قدرته على تحويل الأشياء إلى ذهب امتلأ النهر بذرات الذهب الناتجة عن لمسه ماء النهر ورسبت تلك الذرات في قاع النهر ثم صارت تجري مع مائه، وهكذا اشتهر نهر باكتول بما فيه من الذهب. ولعل الملك الإغريقي "كرويسوس" الذي حكم منطقة متاخمة لبحر الأرخبيل في غرب آسيا الصغرى لا يقل شهرة عن الملك ميداس الأسطوري في حرصه على الذهب. ويقال أن "سولون" الذي وضع الشرائع التي سارت عليها دولة أثينا التي تزعمت البلاد الإغريقية في أيامها الذهبية زار مرة الملك كرويسوس الذي تباهى بما لديه من خزائن الذهب والفضة وادعى بأنه سعيد بذلك فقال له سولون: لا تقل عن أحد انه سعيد حتى يموت!
أما الملك ميداس فلا نعلم ما حلَّ به ولكن لا يصعب علينا التخيل بأنه حينما عاد إلى قصره انكب على الأكل بشراهة بعد ذلك الجوع الطويل المرير، ولعله أدرك أيضا بأن النعم التي تقدمها الطبيعة إلى الإنسان من ماء وهواء هي وإن لا تكلف شيئا إلا أنها أثمن من الذهب. قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:"وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الانسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ". صدق الله العظيم [إبراهيم:34] حاك الإنسان حول الذهب أساطير عديدة ونتطرق هنا إلى ثلاث أساطير إحداها إغريقية قديمة والأخرى جرمانية والثالثة إسبانية.
تتعلق الأولى من هذه الأساطير بالصوف الذهبي وتقول الأسطورة بأن الملكة "اينو" أقنعت زوجها "أتاناس" بأن ابنه "فريكسوس" هو السبب في المجاعة التي تئن منها مملكته. فيقرر الملك ذبح ابنه كضحية لينقذ القطر من محنته، ويشعر فريكسوس بما عزم عليه والده بإيعاز من زوجته فيهرب ويجتاز البحر على ظهر كبش مجنح ذي صوف ذهبي، فلما بلغ ساحل السلامة ذبح الكبش تكريما للآلهة وأهدى الصوف الذهبي إلى الملك "ايتيس" الذي رحب بمقدمه ووضع الصوف الذهبي على شجرة مقدسة. وتفرعت من هذه الأسطورة أساطير أخرى تتعلق بمصير الصوف الذهبي وهي بمجموعها تؤلف ملحمة تفيض بعجائب الأخبار والأحداث وأصبحت هذه الأساطير فيما بعد مواضيع أدبية عالجها عدد من الكتاب الغربيين. أما الأسطورة الجرمانية الباحثة عن كنز ذهبي فقد لعبت فيما بعد دورا مهما في تطوير الموسيقى الغربية في القرن التاسع عشر. وتزعم هذه الأسطورة إن كان يوجد في قديم الزمان كنز عظيم من الذهب والأحجار الكريمة في صقع من أصقاع اسكندنافيا الشمالية وأن الملك "نيبيلونج" القزم تولى حراسة هذا الكنز مع رهط من حراسه الأقزام الذين لا يدعون أحدا يقترب منه إلا ويقطعونه إربا إربا، ويقرر"سيجفريد" بطل هذه الأسطورة انتزاع الكنز والظفر به ليتقاسمه مع خطيبته الحسناء الشقراء الجرمانية، ويظفر سيجفريد به بعد مغامرات مثيرة يساعده فيها فريق من أبطال الأساطير الجرمانية ولكنه يقتل غيلة. وعندئذ تتولى خطيبته تنفيذ بقية الخطة التي رسمها حبيبها سيجفريد فتنقل الكنز إلى مدينة "ورمس" الألمانية العريقة في القدم، ثم يطمع أخواها في ذلك الكنز فينتزعانه من يدها ويدفنانه في أعماق نهر الراين كتما للسر وإخفاء لمعالمه. وتقول الملحمة أن هذا الكنز مازال في أعماق ذلك النهر ولا يعرف أحد مكانه.
وحاك الموسيقار والملحن الألماني"ريتشارد فاجنر" Richard Wagner حول هذه الأسطورة ثلاث مسرحيات غنائية من صنف الأوبرا تؤلف معا ملحمة موسيقية كبرى كان لها أثرها الواضح العميق على تطور فن الموسيقى في ألمانيا ثم في العالم أجمع في القرن التاسع عشر.
يتبع...
*-...*-..*-...* والله الموفق 2017-05-28 محمد الشودري