الأسطورة جنس إبداع أدبي شفهي مجهول المؤلف، أبدعها خيال الشعب وظلت تتناقل وتتطور على شفاه الناس ومخيلتهم عبر القرون. ولقد ارتبطت الأسطورة دائماً ببداية الإنسانية وبطفولة العقل البشري حيث مثلت لدى كل الشعوب سعياً فكرياً بدائيا لتفسير ظواهر الطبيعة الغامضة. ولذلك اختلفت أساطير البشرية وتباين مستواها ومحتواها. فكانت أكثر تطورا لدى الشعوب المتحضرة مثل الإغريق، بينما نجدها أقل تطورا لدى الشعوب العربية والاسلامية لأسباب عدة، أهمها النظرة السلبية للدين إليها. ويشرح لنا ذلك ربما لماذا هي الأسطورة المغربية قصيرة النَّفَس وبسيطة الحبكة. من خلال هذه الاستراحة الصيفية، تقترح عليك «المساء» عزيزي القارئ باقة منتقاة من أجمل أساطير المغاربة الأولين. اخترقت الزمن لتصل إلينا بفطريتها البديعة، عساها تعكس لمن يتأملها جوانب من عقلية الأجداد ونظرتهم إلى الذات وإلى العالم من حولهم.. في الدارجة المغربية يطلق اسم بَلاّرج على طائر اللقلق الأبيض .وربما اشتق الاسم من الأصل اليوناني (بيلارغو) والذي يعني (لقلق) بلغة أفلاطون، حيث الشبه بين الكلمتين مدهش. أو لربما لقب الطائر في البداية «بْلا رْجَلْ» [بدون رِجل] بالنظر إلى الوضعية التي يكون عليها واقفا، حيث يبدو كما لو كان واقفا على رجل واحدة. ثم تدرج الاسم حتى أصبح (بَلاّرج). يحظى طائر اللقلق (بلارج) في المغرب باحترام غامض. فهو بحسب التصور الأسطوري يندرج ضمن الحيوانات التي مسخها الله عقابا لها على ما اقترفته من آثام. وهكذا فقد كان اللقلق في الأصل بحسب رواية قاضيا فاسدا قبل أن تمسخه القدرة الإلهية إلى طائر، بغرض تعذيبه. وما ريشه الأسود سوى السلهام الذي كان يلبسه القاضي عند مسخه، بينما الريش الأبيض الذي يغطي بطنه وظهره هو الدفينة [سُتْرة]. وأما قطقطة صوت اللقلق فهي مسخ لضحكات القاضي، التي كان يسخر بها من عذابات اليتامى والأرامل. وفي أسطورة أخرى، أن طيور اللقلق كانت في الأصل عصابة قطاع طرق، مسخها الله عقابا لتجرؤ أفرادها على نهب قافلة حجاج كانوا في طريقهم إلى البيت الحرام. لكن أكثر الأساطير التي رواها المغاربة عن (بَلاّرج) غرابة هي تلك التي تعتبر اللقالق رجالا يأخذون هيئة طيور خلال فترات معينة من السنة [في مواسم الهجرة]، ليتمكنوا من السفر من الجزر البعيدة التي يسكنون فيها إلى المغرب. ثم يسترجعون هيئتهم البشرية حين يعودون إلى موطنهم، ليعيشوا في هيئة بشر حتى العام الموالي. ومن حاصل الاعتقاد في الأصل البشري لطائر بَلاّرج أنْ حرّم المغاربة قتله، كما حرصوا عبر القرون على رعايته وحمايته، حين يأتي ليقيم مؤقتا كل عام إلى جوارهم. ومن مظاهر ذلك الاحترام، انفراد المغرب منذ القدم بإنشاء مؤسسات لرعاية هذا الطائر. ففي مراكش مؤسسة ثقافية ما زالت تحمل اسم «دار بلارج». وكانت قبل قرون وفي الأصل عبارة عن فندق جرى تحبيسه من قبل أحد المحسنين ليكون مشفى تعالج بداخله طيور اللقلق. فقد أخذت الرأفة بالطائر الزاهد في نفس مولاي عبد السلام [خال السلطان المولى سليمان العلوي] أن حَبّس الفندق المذكور لفائدة علاج الطيور الجريحة وخاصة اللقلق؛ بحيث كان القاطنون بالفَندَق، الذين يمارسون فيه تجارة ملزمين بالعناية بما يحمل إليهم من طيور جريحة. وخلال الربع الأول من القرن التاسع عشر، بلغت مداخيل أربعة حوانيت [دكاكين]، حَبَّسَها محسن آخر قدرا كان يغطي مصاريف علاج ورعاية الطيور الجريحة وخصوصا منها بلارج. كما تفيد إشارات تاريخية متفرقة بوجود سابق لمشفى مماثل خاص باللقالق في فاس، وكان مجاورا لضريح مولاي إدريس وملحقا بمارستان سيدي فرج للمرضى العقليين، الذي يعود إنشاؤه إلى العهد المريني. وقد وقفت خلف إنشائه وتخصيص عقارات محبسة باسم بلاّرْج أساطير تعليلية كثيرة، هذه إحداها: سرق طائر بلارج ذات يوم من قصر السلطان تاجا من الذهب المرصع بالجواهر وأخذه إلى عشه الذي كان أقامه فوق سور عتيق مجاور لضريح مولاي ادريس. وحين رأى الجيران الطائر ينزل من السماء حاملا في منقاره شيئا لمّاعا، صعدوا إلى عشه فاندهشوا كثيرا لرؤية التاج، ورأوا في ذلك الأمر علامة مميزة على مشيئة الله. فتم بيع التاج، وبالمال المحصل عليه تم إنشاء مؤسسة خيرية [مارستان سيدي فرج ]في مكان العش. وحدث أن أصيب طائر بلارج بكسر أو جرح في قدمه، فطار صوب المارستان ونزل في فنائه الداخلي ثم استحم بماء النافورة الرخامية. وفي غضون لحظات طار وقد شفي تماما. وتذهب أسطورة أخرى مذهبا مختلفا، إذ تقول: أثناء بحث طائر بلارج عما يقتات به في وادي الزحون بقلب مدينة فاس العتيقة، عثر على قطع من الذهب والجواهر. فأخذ ينقلها من النهر إلى عشه الكائن فوق المدرسة البوعنانية. وأثناء تنظيف الصومعة عثر على تلك المجوهرات التي بيعت وتم شراء عقارات بثمنها، خصصت مداخيلها لإطعام ذلك اللقلق. وبلغ الأمر أن تم شراء أي بيت أو موقع من المواقع العالية يحط عليه طائر لقلق، ويُحَبَّس له. وتقول رواية ثالثة: اشترى تاجر منزلا من زميله. وأثناء ترميمه وتنظيفه عثر على عش لطائر بلارج فوق السطح، وجد فيه عقدا من الياقوت، اتضح أنه لم يكن للبائع. فقصد التاجر قاضي المدينة في حي القطانين وقص عليه الحكاية، فأمر القاضي ببيع عقد الياقوت واشترى بثمنه دارا سميت «دار بلارج» ومعها متاجر حُبِّست في اسم الطائر وعين ناظرا لتدبير أمورها والسهر على تأمين إطعامه وعلاجه متى أصابه مصاب. وبسبب عقد الياقوت ذاك سميت الدار «دار بلارج الياقوتي».