كلمة تأبينية في الذكرى الأربعينية لوفاة الأستاذ عبد اللطيف الخطيب - عبد اللطيف الخط المستقيم - بقلم : ياسين الخطيب
كان لوفاة والدي وقع شديد الأثر على نفسي، وعلى جميع أفراد أسرتي. فقد تملكني حينها شعور غريب هو مزيج بين الحزن ونوع من الطمأنينة، حيث شعرت بخسارته الجسيمة التي لا تعوض بأي ثمن، وفرحت لاستكماله رسالة حياته، زاهدا، عابدا، طالبا لقاء ربه، لم تغره دنيا، و لم يزغ عن أصله و مبادئه، ولكن الإيمان بقوة الخالق ورحمته دائما تجعل القلوب تطمئن لقضاء الله وقدره. وبعد تفكير، وددت أن أكتب كلمات في حقه ترحما عليه، واستجلاء بعض ما كان يتميز به من أعمال وأخلاق ومواقف شريفة، لأضم صوتي إلى من تفضلوا بالكتابة عنه في ذكراه الأربعينية. و اخترت كعنوان لهذا النص ما لقب به من طرف تلامذته في قسم الجغرافية و التاريخ: "عبد اللطيف الخط المستقيم". *********************** لقد ودَّعَتْ مدينة تطوان مؤخرا أحد رجالاتها الأجلاء، المخلصين لدينهم و لوطنهم، هو الأستاذ عبد اللطيف الخطيب، وفقدتُ فيه، أنا الابن البكر، الأب الحنون، و السند المتين، ومع رحيله، انتابني إحساس رهيب تمثلتُ كأن مدرسة أخلاقية وارفة العطاء قد هجرتنا، في وقت كنا نتردد عليها بلهف وشوق، مستمتعين بدروسها ومستمدين منها القيم والمبادئ السامية في الحياة. يحضرني في هذه الآونة حدث معبر مرت أطواره خلال الفترة التي قضاها سفيرا للمملكة المغربية لدى البرازيل، حيث اشترت والدتي، حفظها الله وأطال عمرها، قطعة صغيرة من الرخام ، ملونة و شفافة، تزخر بها البرازيل، لتزيين ركن في غرفة الاستقبال والاحتفاظ به كتذكار عن هذا البلد. وقد ارتأت أن تخط على القطعة آيات من القرآن الكريم من اختيار رفيق دربها، فٱختار رحمة الله عليه، الآيات الثلاث التالية، وأصر أن يكون ذلك بخط يده، على أن يتولى مختص نسخها بماء ذهبي.
{ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، { إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} ، {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} و لعل هذه الآيات، بالإضافة إلى ما تثيره في قلبه من سكينة، تلخص رؤيته و ما سار عليه طيلة حياته، فما طلب يوما، رحمه الله، جاها و لا تطلع إلى سلطة ولا تسابق إلى مسؤولية ،و إنما كل ما حققه و وصل إليه ،كان قدرا وتوفيقا من الله عز وجل، الذي أنعم عليه بقوة الإرادة، وبالتفاني في العمل الجاد، وببذل الكثير من التضحيات، مقرونة باستقامة وإخلاص قل نظيرهما، وحب جارف لوطنه وتعصب للغته، جُبِل عليهما منذ نشأته. مستحضرا ذكراه، رجعت هذه الأيام، إلى بعض كتاباته، و استوقفني مقال كتبه وهو في سن السابع و العشرين تحت عنوان "لو لم أكن مغربيا"، حينئذ كانت كل المنطقة لا تزال ترزأ تحت الاستعمار و السلطان محمد الخامس، طيب الله ثراه، في المنفى. في هذا المقال الذي نشر بجريدة الأمة سنة 1954 يجري كاتبُه حوارا افتراضيا، مستلهما مما قد يدور في خلد السلطان و هو في منفاه بعيدا آلاف الكيلومترات عن الوطن، في جزيرة معزولة ،بين النفس الأمارة، التي قد توسوس بالاستسلام و الخضوع إلى الواقعية، وبين النفس اللوامة التي تحث على التضحية و الكفاح، محاولا، من خلال تساؤلات ذات عمق فلسفي ووجودي، أن يخلص فيه إلى الأمل الذي يمنيه الشعب في تحرره، محيلا على وجوب التضحية من أجل الوطن و حريته، ومعانقة الاستقلال. ويشاء القدر لكاتب المقال، الذي لم يكن يتصور أن ذلك التخاطر الذي كان حبرا على و رق، و في أقل من خمس سنوات ، سيقوده إلى ديوان الملك الراحل محمد الخامس، والمغرب ينعم باستقلاله.
وعندما قلت إنها مشيئة الرحمان، فلأن التحاق المرحوم بالديوان الملكي، بعد تجربته بوزارة الخارجية، جاء على خلفية رسالة توصل بها القصر من الجنرال فرنكو، ترجمها أمام الملك بكفاءة عالية، تم على إثرها إصدار الأمر المولوي ليلتحق فورا بالديوان، بل وزاده القدر شرفا فيما بعد أن يكون، بمشيئة الله، أحد اثنين قبَّلا جثمان محمد الخامس قبل أن يوارى الثرى. و قد استمر عضواً بالديوان الملكي، و حظي بتقدير و ثقة الملك الراحل الحسن الثاني، رحمه الله، إلى أن عينه رئيسا لديوانه خلال ست سنوات، حيث تفرد بأن يكون أول وآخر من تقلد المهمة. و لكن الفترة التي عاشت في ذاكرة كل من عرفه أو سمع به هي مدة السنتين والنصف التي قضاها كعامل على إقليمتطوان حين كان هذا الإقليم يمتد على مساحة 10.000 كيلومترا مربعا، وهي مساحة بلد كلبنان، و يضم مدن شفشاون و العرائش، ووزان، وأصيلة و القصر الكبير ... ما زال عالقا بذهني، حديث كان لي معه، حيث أخبرني أنه بعد تقلده هذا المنصب الرفيع، بمسؤولياته العظيمة، قام رفقة صديق له بزيارة إلى مقبرة تطوان و ترحم خلالها على كل الموتى، و أخذ عهدًا على نفسه مقسما ، من هذا المكان المفعم بالدلالات، أن يضطلع بمهامه خدمة لأهلها. فصدق الله في ذلك و وفّقه سبحانه في مسعاه، و حقق رؤية المرحوم الحسن الثاني ، الذي خاطبه عند تعيينه قائلا، "أعرف تطوان و لي اليقين أنك ستأخذ العصا من الوسط". و اليوم يذكر بين أهله و ذويه بالرحمات على استقامته، و عدالته و تواضعه و احترامه للناس على اختلاف مستوياتهم دون تمييز بين الفقير و الغني منهم. تشهد له بذلك مواقفه و قراراته وأعماله الدؤوبة خدمة لمدينته، وهي أكثر من أن تحصى و لكن هناك أموراً ٱستقرّت في ذاكرتي منها ما يلي: الأمر الأول، توفي الرجل بعد سن التسعين و هو إلى آخر أيام حياته ينعم بصحة جيدة، كان سر ذلك في نمط حياته المنتظم، رغم أن تقلده المسؤوليات نال منه أحيانا، ففي سن الخامسة والأربعين وفي قمة قوته وعطائه، كاد أن يغمى عليه مرتين من الإرهاق، لكن لم يتوان أبدا في خدمة سكان مدينة أجداده و مسقط رأسه. الأمر الثاني، لم يرتد الرجل، يوما مدة قيامه مسؤولا على مدينة بحجم تطوان، اللباس الرسمي عند مباشرة مهامه، مما يدل على تواضعه وتفرده وقوة شكيمته ، وذاك فضل من الله حباه به. أما الأمر الثالث، فلا يزايد اثنان في نزاهة الرجل ونظافة يده. ورغم موقعه كرجل سلطة لم يكن ليسمح بأن يقتحم كبرياؤه أو تخدش عزة نفسه. فحين جاءه أحد أثرياء تطوان، من العائلات اليهودية المغادرة البلاد آنذاك ، لعلمه أن الفقيد لا يمتلك منزلا شخصيا في مدينته، عرض عليه بيع مسكنه الفخم بالمدينة، بثمن مغر لكنه، رفض العرض جملة وتفصيلا دون تبرير، استقامة منه و شعورا بالمسؤولية المناطة به. و من شدة حرصه على بنات و أبناء مدينتنا، أتذكر أنه في يوم من الأيام جاءته مجموعة من الشابات، قدمن طلبا للحصول على جواز السفر، مدعوما بعقد عمل بإسبانيا، وقد أثار ذلك شكوكه نظرا لسنهن و حسنهن، فاستدعى أولياء أمورهن ليشرح لهم سبب رفضه، حتى إنه دمعت عينا أحد الآباء حينما علم بسر مخاوفه، على أن يكون ظاهر العقد فرصة عمل و باطنه تغرير. و رغم محاولة تدخل أحد كبار رجال الأعمال على أعلى مستوى بالوزارة الوصية لإصدار تلك الجوازات ضدا على إرادة السيد العامل، إلا أنه رفض رفضا قاطعا أن يرضخ لكل المساومات، مجيبا أن الجوازات تصدر بإمضاء عامل الإقليم و هذا العامل لن يوقعها. و من الأمور التي تذهب في نفس السياق، وتشهد للرجل بدماثة خلقه وعدالته، حدث أن جاءه مسؤول سامي من وزارة المالية، في مهمة لإلغاء بيع تذاكر اليانصيب من طرف مكفوفي البصر وتمريرها لفائدة مؤسسة وطنية . فقد رفض مرة أخرى و انتصر لفئة المكفوفين مشددا على شرح حيثيات و ظروف تأسيس هذا البيع، لافتا الانتباه أن ذلك يعد بمثابة المورد الوحيد لهؤلاء، فكان مقنعا في مسعاه، و طلب منه ألا تكتب في صحيفتهما قطع الرزق، فما كان على المسؤول المعني، لما رأى من صدق كلام الرجل و صفاء نيته، إلا أن وجد مخرجا قانونيا متجنبا ما جاء من أجله.
بعد انتهاء مهامه بتطوان، عينه الملك الحسن الثاني، رحمه الله، سفيرا بمدريد، فكان رجل الاستثناءات بامتياز حيث استقبله، على غير العادة رئيس الدولة، غداة وصوله، في الرابع من أبريل سنة 1973. و للتاريخ، يعين الرجل ممثلا لوطنه ببلد تطلع يوما و هو شاب يافع أن يتم به دراسته، لكن، وهنا سخرية القدر، منع من ذلك بدعوى الخوض في أنشطة سياسية تنادي بالاستقلال، الأمر الذي لم يمنعه أن يكون من كبار المختصين في اللغة الإسبانية و في العلاقات المغربية الإسبانية.
وتجدر الإشارة أن حياته المهنية ارتبطت بالقضايا المتعلقة بالجارة الإسبانية، حيث تتذكر والدتي أيضاً أنه أثناء استرجاع طرفاية، سنة 1958، حجز أسيرا لمدة عشرين يوما، و هو حينذاك مبعوث رسمي لوزارة الخارجية. و اكتملت الدائرة وأكمل مهمته سفيرا بمدريد بكل وعي و تفان، خبر أثناءها نوايا إسبانيا وما هي بصدد القيام به ضد وحدتنا الترابية ، فكان لكل ذلك بالمرصاد بتوفيق من الله، و دوره في هذا الصدد مشهود له به من البعيد قبل القريب.
كما أتذكر حدثا طريفا معبرا عن صدق وإخلاص وطنيته. بعد قرابة نصف قرن لم تطأ قدماه المدينة السليبة سبتة ، قرر أواخر التسعينيات أن يزورها و يقف على المعالم الإسلامية المغربية فيها، فدخلها من الجزيرة الخضراء، ثم بعد انتهاء زيارته عاد إلى المدينة المذكورة ليرجع إلى الوطن على متن باخرة من الجزيرة الخضراء إلى طنجة و منها إلى تطوان، ورغم أنه التقى صدفة بأحد الأقارب، الذي عرض عليه أن يقوده بسيارته مباشرة إلى تطوان، فضميره لم يسمح له أن يعبر خطا فاصلا بين الوطن و جزء من الوطن السليب، فما أروعه من درس لرجل رضع الوطنية جرعة واحدة دون تفصيل ولا مساومة.
يصعب علي والحالة هاته أن أختزل الرجل في كلمات، كما لا يمكن احتواء فكره و عمله في موقف أو موقفين، فمناقبه أوسع من أن تحتويها مجلدات. والمسؤولية تقع على عاتقنا اليوم من رجال هذه المدينة، و هم كثيرون، من علمائها، وأدبائها و أساتذتها وباحثيها، وصناعها وحرفييها.... و أرى أن ذاكرة رجل من أهلهم آثر مصالح وهموم مواطنيه على مصلحة شخصية ضيقة، حيث عاش أبي النفس متنزها عن أطماع فانية، فلم يطل جاها و لا ثروة، همه دوما كان إرضاء خالقه و لم يترك وراءه سوى الأثر الطيب و القدوة الحسنة، وهذا أرفع إرث ورثته عنه أسرته الصغيرة.
لقد كتب الله له، و هو العابد الزاهد في الدنيا أن تكون أواخر أيامه، و هو على فراش الموت، تلاوة القرآن ، ليل نهار، خلال أربعين يوما، رافضا أحيانا شرب الماء رغم الوهن، ربما حتى لا يلهيه عن ذكر الله، فصدق فيه قوله تعالى باسم الله الرحمان الرحيم {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}. فبقي، بفضل الله، على العهد و لم يزغ عن طريقه المستقيم، و لقي ربه و هو يكرر دعاء، تراه إلهاما من الخالق سبحانه، ' اللهم أمتني على دينك الحنيف، و كتابك الحكيم و سنّة نبيك الكريم، المبعوث رحمة للناس أجمعين، اللهم خذني إليك برحمتك و مغفرتك و حلمك واحشرني في ظل ظليل لأنظر إلى عظيم جلالك".
فرحمك الله يا أبي، يا عبد اللطيف بن علال الخطيب، يوم ولدتَ وأخذ بيدك على أقرب وأسرع طريق إليه، صراطه المستقيم، ورحمك يوم موتك، فمنّ عليك الحنان بالتوجّه إليه و ذكره، و يرحمك يوم تبعث حيا فيسكنك في الجنان الخضر التي بُشِّرت بها في رُؤْياك قبل أن يقبضك إليه، و أبقانا الله على العهد إلى أن يجمعنا بك و يلحقنا بالنبيين والصديقين و الشهداء، اللهم آمين.