قال تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ". صدق الله العظيم [المائدة:90] (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). حديث
إنه لغريب جدا ونحن في القرن الواحد والعشرين أن يبقى لعناكب الجهل أعشاش وأوكار في عقول الكثيرين من الناس الذين يخضعون لسلطان الخرافات. لقد عاشت الشعوب في بدائيتها وجاهليتها أجيالا كانت تعبد فيها الظلام والوهم ثم أشرقت شموس المعرفة من سماء الدين والعلم ففتحت عيني الإنسان على الحقيقة وسلحته بالفهم ولكنه أبى إلا التطلع إلى الوراء ومعانقة الضلال، وكرّت الأجيال تلو الأجيال والإنسان عبد خاشع لسيادة التقاليد، فهو برغم امتيازه عن أهل القرون الغابرة بالعلوم والفنون والاختراعات يكاد لا يمتاز عنهم في إيمانه بالخرافات. فحضارتنا اليوم مع إشراقها وسموها ممتزجة بها، وما من أمة إلا ولها طائفة من المعتقدات الخرافية التي لا تستند إلى شيء من الفهم والحقيقة مهما حاول بعض المخدوعين البسطاء أن يجعلوا لها أساسا من الصحة.
خرافات تملأ حياتنا وتسمم أفكارنا وتستنزف أموالنا... "ارمي بياضك" وشوش الدكر"أسيادنا طالبين ديك أحمر به ريشة بيضاء"... تعبيرات وكلمات كهذه كثيرا ما نسمعها من محترفي الخرافات. وفي الأحياء الشعبية نجد مثل هذه الخرافات شائعة راسخة في الأذهان، وهي خرافات تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل، ورغم أننا في عصر التكنولوجيا والتقدم العلمي فإن هذه الخرافات مازالت تجد سوقا رائجة لها. يتحدثون عن الجن وعن مقدرته في كل شيء: يعلم الغيب، يحل العقد، يأتي بالغائب، يكشف عما خفي، يعالج المرضى، يجمع الأحباب ويفرقهم... هذه الخرافات استغله بعض المحتالين لصالحهم فأشاعوا أنهم على اتصال وثيق بالجن، وأن الجن ينفذ كل ما يطلبونه منه نظير بعض النقود أو الملابس أو الطعام.. عدد من الحمام والأرانب والدجاج.. كل هذا يقدم طبعا إلى الجن لقاء خدماته الجليلة. والحقيقة أن الجن الذي سيأخذ كل هذه المطالب معروف. انه المحتال أو قل "الجن الادمي". ولكي يحبك هذا المحتال تمثيليته جيدا يذكر أن الجن يريد ديكا أحمر به ريشة بيضاء، أو خروفا به بقعة سوداء وسط رأسه، المهم أن تلبى كل هذه المطالب من أجل عيون الجن الذي سيفعل المستحيل. ولكن – هل الجن قادر حقا على فعل شيء؟ الواقع أنه ليس سوى مخلوق مثل بقية المخلوقات، وليس في يديه ضر ولا نفع. فإذا كان الجن غير مرئي لنا، وإذا كان الله قد خلق منهم الطيار والغواص والقادر على تشكيل نفسه بأشكال وصور عديدة، فليس معنى ذلك أن الجن يعلم الغيب ويكشف الخبايا ويشفي المرض، لأن الله ذكر ذلك في سورة سبأ في موقف سليمان عندما وافته المنية. كان سليمان جالسا يراقب الجن وهي تعمل، وأخذت تعمل وهي تحسبه حيا: "فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ". صدق الله العظيم [سبأ:14]
إن بين المتمدنين كثيرين يؤمنون بقراءة الكف والتبصير وكشف البخت والعرافة؟ كما يؤمن الأولاد بقصص الجن والعفاريت. ما أكثر الأشياء التي نفعلها أو لا نفعلها امتثالا لأوامر السعد والنحس. ما أغبانا نحبس أرواحنا وعقولنا في قماقم الفأل والشؤم فنحطم حياتنا تحت كابوس الهم والألم. إن من يدرس تاريخ الأدب العربي يبدو له الشاعر ابن الرومي شخصية مريضة شوهاء لكثرة ما استبدت به الخرافات والأوهام ومن اعتقاداته الخرافية الكثيرة التي سممت حياته، انه كان يعتذر عن ركوب نهر دجلة، لأنه يرى في الأمواج المتحركة تتلامع تحت نور الشمس – فرسانا يهزون سيوفهم تحديا له وتوعدا إن هو ركب الماء فيقول:
ومما يروى عن اعتقاداته الخرافية ان بعض إخوانه – وقد علم ما به من الطيرة – أراد أن يخفف عنه فبعث إليه خادما اسمه "إقبال" ليتفاءل به فلما أخذ أهبته للركوب قال للخادم: انصرف إلى مولاك فأنت ناقص ومعكوس اسمك "لابقا". إن ابن الرومي برغم ذلك يبدو سليما عاديا إذا نحن قابلناه بمن يعيشون اليوم في عصر العلم وهم صرعى الخرافات والأوهام. في أيامنا هذه مثلا يخرج الرجل من داره فإذا اعترضه في طريقه قطيع من الغنم فهذا فأل وسعد. وإذا اعترضه قطيع ماعز فهو شؤم. الجرة الفارغة شؤم والملأى سعد. الطيور المزدوجة خير وسعد، والمفردة شؤم ونحس. ولعل خرافة الاعتقاد بالطيور هذه تعود إلى جاهلية العرب يوم كانوا يؤمنون بالعيافة وزجر الطير إذ يرمونه بحجر فإن طار يمينا فذلك خير، وإن طار شمالا فذلك شؤم. ومن هنا جاء الدعاء للمسافر بالسلامة بقولهم: "على الطائر الميمون" أي الطائر الذي إن زجرته بحجر طار يمينا. أليس الكثيرون منا قبل أن يقدموا على صفقة تجارية أو سفرة ما أو أي عمل من الأعمال يقومون بأعمال الخيرة بالورق أو بالمسبحة ليروا إن كان في ما هم قادمون عليه فشل أو نجاح؟ والتبصير بالقهوة، هذا الزي الحديث من الخرافات ألا نراه منتشرا في جميع البيوت والصالونات وبصورة أوسع بين العائلات الراقية المثقفة.
إذا دخلت بيتا من باب فاخرج من الباب ذاته. أما إذا خرجت من آخر فإنك تجلب الويل على أهل ذلك البيت. إذا قلت لشخص كم أنت متمتع بالعافية فاتبع عبارتك بنقرة على الخشب وإلا فقد تحل مصيبة لذلك الشخص. أما خرافة الخرزة الزرقاء فهي كثيرة الشيوع بين الشرقيين وتستعملها الأمهات لوقاية أطفالهن من إصابة العين. التعاويذ والتمائم والحجابات والرقي ضرب الرمل والحصي والمندل وحرق البخور وكثير من أمثال ذلك. أليست ضروبا من الاحتيال لكسب العيش عند بعض الدجالين اللاعبين بعقول السذج والبسطاء.
ما أكثر ما يتحدث الناس في المدن والقرى عن أثر الخرافات وحسبانها حقائق لا تقبل جدلا. وإذا حاول شخص أن يشكك في صحة هذه الأخبار فويل له من غضبة المؤمنين بها، سمعت إنسانا يتحدث عن شخص يصيب بالعين، ويروي خوارق عن أعماله ومنها أنه كان مرة بين جمهور من الناس تحت دالية كبيرة ملأى بعناقيد العنب فكان هذا الإنسان يقول لهم: اختاروا أي عنقود تريدون أن تأكلوه وعندما يشيرون إلى العنقود ينظر إليه محدقا هنيهة فيسقط حالا بين أيديهم. وإذا نظر إلى شجرة خضراء يبست على الفور أو تطلع إلى ثور أو كبش أو جدي مات لتوّه. إن الإيمان بالخرافات ليس وقفا على السذج فقط بل نعرف ان كثيرين من العلماء وعظماء الناس كانوا واقعين تحت تأثيرات أوهام وأضاليل. فنابليون بونابرت كان يعد ما تقع عليه عينه من أغراض كالمقاعد والكتب والطاولات وحتى أعمدة الشوارع أو شبابيك الأبنية حتى إذا جاءت مفردة تشاءم. هذه هي نماذج من الخرافات المسيطرة على العقول وإننا نأمل أن يكون هدمها مقدما لتحرر العقل الإنساني من كل قيد آخر يحد من انطلاقه وحريته. *.-.*.-.*.-.* والله الموفق 2016-11-25