وهذا الاسم يثير تلك المفارقة الغريبة بين الدين ورجال الدين. فقد بعث الله بالدين لسعادة البشر بدعوتهم إلى المحبة والتسامح والتكافل، وتحول هذا الدين على أيدي رجال الدين في كثير من حقب التاريخ إلى أداة قمع رهيبة جبارة تفتقر كل الافتقار إلى المحبة والتسامح والتكافل، وترتكب كل الجرائم تحت اسم حماية هذه المبادئ ! وهذه المفارقة لا تقتصر على الدين ورجال الدين بل تمتد إلى أي مبدأ، ورجال هذا المبدأ، فقد أثبت التاريخ أن أشنع الجرائم ترتكب باسم أنبل المبادئ وعلى يد رجال هذه المبادئ أنفسهم والداعين لها ! فقد ارتكبت "جرائم عهد الإرهاب" في فرنسا على أيدي أصحاب مبادئ الحرية والإخاء والمساواة، وارتكب "بول بوت" جرائمه في كمبوديا باسم نفس المبادئ التي تدعو إلى حرية الإنسان الاقتصادية والسياسية، ويرتكب الحكام السياسيون جرائم اضطهاد الرأي المعارض تحت اسمي المبادئ الإنسانية وشعارات حماية مصالح البلاد وحريتها وكرامتها بل باسم حماية الديمقراطية. محاكم التفتيش Inquisition، اصطلاح مشتق من كلمة لاتينية هي Inquirere، ومعناها: يبحث، يتقصى، يفتش، وقد أسسها البابا لوسيوس الثالث ثم انوسنت الثالث، وخاصة في المجمع اللاتيراني الرابع سنة 1215، واستمرت في قمع الفكر المخالف بالحديد والنار والإرهاب عدة قرون.
ويرتبط اسم محاكم التفتيش في أذهان الشرق الإسلامي باضطهاد المسلمين على يد الكنيسة في إسبانيا، وهذا غير صحيح، فقد نشأت محاكم التفتيش أصلا لاضطهاد المسيحيين المخالفين لرأي الكنيسة، ثم انتقل الاضطهاد إلى المسلمين. وفي سنة 1478م قام كل من الملك فرناندو والملكة ايسابيل الكاثوليكيان بطلب من الفاتيكان لإنشاء محكمة التفتيش بإسبانيا فحظي هذا الطلب بالموافقة من طرف البابا سكستو الرابع (Sixto IV) إلى أن ألغيت سنة 1834م.
ويرجع اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لرأي المخالفين لها في أوائل العصور الوسطى، ففي سنة 385 قبض على المفكر الإسباني بريسيليان، وأدين بسبب آرائه، ثم أحرق بأمر الامبراطور ماكسيموس في بلدة تريف. وقد اتسمت سياسة الامبراطور فالنتيان الأول (عُيّنَ سنة 364-375) وثيودوسيوس الأول (عُيّنَ سنة 378-395) باضطهاد المخالفين لرأي الكنيسة، ودمغتهم السلطة الكنسية بلفظة "الهرطقة" HEREJES وهي كلمة يونانية الأصل معناها "الرأي المستقل أو الاجتهاد الفردي"، وقد استخدمتها الكنيسة لدمغ من لا تتفق آراؤه مع قانون الإيمان الكنسي، وما اتفق عليه في المجامع الكنسية المبكرة. وفي بداية القرن العاشر، بدأت موجات الاضطهاد ضد الهراطقة، وتصاعدت هذه الموجات حتى القرن الثاني عشر، حين أكد فقهاء القانون الكنسي ما ورد في مجموعة جستنيان إدانة للهراطقة والحكم عليهم بالموت، على أن أول قرار بعقاب الهراطقة بالموت حرقا كان في سنة 1197م على يد بطرس الثاني ملك أراغون بإسبانيا. ويهمنا هنا أن نبرز أن تصاعد العنف ضد أصحاب الرأي المخالف قد تواكب مع تصاعد الفساد وتزايده داخل الكنيسة. فالعنف هنا ليس ظاهرة دينية لحماية الدين بقدر ما هو ظاهرة فساد ترتكب باسم الدين. وهذا شأن العنف في كل زمان ومكان. إن النظم الصالحة لا ترتكب العنف أبدا.
يرجع الفساد في الكنيسة إلى القرن الحادي عشر عندما اشتبكت مع السلطة الزمنية في صراع دموي حوّل صعيد أوربا إلى ساحة من التوتر الدائم، وفي أثناء هذا الصراع بين الأمير والكاهن خرجت البابوية عن حدود صلاحياتها، فدخلت المعارك ولطخت يدها بالدسائس، وذهل الناس عندما رأوا كاهن الله في زي قيصر، ممسكا بالسيف وبيارق الحرب، فراحوا يترحمون على السلام العالمي وعلى "مدينة الله". ومن الأمثلة، يذكر كيف كان الأسقف ليبولد من ورمز رجلا عسكريا ظالما حتى ان أخاه خاطبه في إحدى المرات قائلا: "يا أخانا الأسقف، إن فرسان العالم الإقطاعي أقل ضراوة منك في مسلكك. لقد كنت تخاف الله قليلا قبل دخولك سلك الدين، ولكني أراك اليوم لا تخشى السماء"!. فرد عليه الأسقف قائلا: "عندما نلتقي يا اخي أنا وأنت في جهنم، قد أبادلك مقعدك"! كما يذكر كيف فاحت في سنة 1198م رائحة فضائح كبير أساقفة بيزانسون، المدعو جيرارد دي روجيمونت، وكذلك مخازي "ما هي دي لورين" أسقف تول، الذي كان غارقا حتى أذنيه في الرشوة ورحلات الصيد، بل انه قام في سنة 1217 باغتيال خصمه "رينوه دي سنليس". وقد عرف عن مندوبي البابا (القاصد الرسولي) أن جيوبهم باتت تحشى بالفضة والذهب في رحلاتهم التفتيشية، حتى شكا رهبان الداوية إلى البابا اسكندر الثالث بأن القاصدين الرسوليين باتوا يعبدون صنم المال. وقد صاح روبرت جروستيست في إحدى المرات في وجه البابا انوست الرابع قائلا: "الويل لكم من صنم المال، ها هو ذا يشتري كل شهوة مادية، حتى في بيت الفاتيكان". ويذكر عن مخازي البابا اسكندر السادس (بورجيا) أنه كان مغرما بالنساء، وكان يحيط نفسه بالراقصات، حتى أنه لم يكن ينام في فراشه بمفرده، وكان للبابا اسكندر السادس أبناء كثيرون من سفاح، خاصة من السيدة فانوتزا التي رزق منها بكل من: قيصر، وجان، ولوكريس، وجوفري. كما رزق من أخرى بكل من:جرومين، وإزابيل، وبيارلويس، ولورا. وكان من خليلاته السيدة جوليا فرانيزي. وكان البابا اسكندر السادس لا يتورع عن مسلك الفجور في وجود بناته وأفراد حاشيته الفاسدة، حتى لقد اشارت بعض الأصابع إليه بالاعتداء على المحارم. كما اشتهر عن بورجيا مثلما قيل عن سلفه سكستوس بالولع بالغلمان. وكان هذا البابا يبيع منصب الكرادلة بالمال، وقد بلغت الرشوة في هذا المنصب مبلغ مليون ومائتي ألف مارك من الذهب. ولم يكن بورجيا يتورع عن دس السم لمن يريد التخلص منه من معارفه ليرث أملاكه. ولم يسلم من هذا الجرم علماني أو رجل دين في روما. وقد ذاع عن "سم" بورجيا اسم خاص هو "كانتا ريللا"، وكان بعده صيادلة مرموقون في روما.
يتبع... *-..-*-.-.*-..-* والله الموفق 2016-08-24 محمد الشودري