جنة النفاق هذه أم جهنمها؟! كنا في وليمة جامعة، وأقبل الناس زرافات. وكنت أقف بجوار صاحب، ننظر إلى هذا الفيض الذي يأتي به الباب، باب البهو الكبير. ودخل رجل.. وظن صاحبي اني أعرفه. قلت من هو ؟ قال هذا أقذر خلق الله، فعل وفعل. وحدث بعد ذلك أن مر بنا هذا الرجل في تجواله بين الحاضرين. فلما اقترب منا أقبل عليه صاحبي. وعرفني به. قال وهو يقدمه إلي، هذا رجل من أفذاذ هذا الجيل، صفته وصفته. لم يبق كلمة حلوة، ولا تحية مستطابة، إلا منحها هذا الرجل. ويمضي الرجل عنا. وأنظر إلى صاحبي مستفهما. فإذا على وجهه ابتسامة عريضة، انفجرت بغتة فكانت قهقهة طويلة. فطن للذي بي. فقال: - الحياة تريد هذا. ذممت الرجل فقلت حقا. ومدحته، فهل أنت صدقتني وأنا أمدحه؟ قلت: أحسب لا. قال: وهل أنا صدقته ؟ قلت: أحسب لا. قال: ولكن هذا الرجل مضى عنا وفي نفسه شيء من سرور. وكسبنا من ذلك سلاما. قلت: وهل نحن في حرب ؟ قال: وأي حرب ! ! إنها الحرب الباردة، لا تفتأ راقدة بين الناس جميعا، ولكنها متهيئة دائما لأن تستيقظ. قلت: تقول حرب بين الناس جميعا !! فهل بيني وبينك حرب؟ قال: ذلك لأننا لم نشترك بعد في منافع ومصالح. قلت: فإن اشتركنا ؟ قال: فما أسرع ما تبذر بذور الشقاق بيننا. ولا أكون أنا باذرها، ولا تكون أنت. هي تسقط هكذا من السماء، من ذات نفسها، كما يسقط المكروب لا تدري من أين جاء.. إنها لازمة من لوازم الحياة. قلت: فماذا يكون بعد الشقاق ؟ قال: الحرب الصريحة أو... قلت: أو النفاق. توارى وأوارى، وتضحك ونفسك عابسة، وأضحك ونفسي متجهمة شديدة التجهم. قال: وبذلك تفوت على أنفسنا معركة. ويفوت الناس المعارك.. فذلك كظم الغيظ الذي نصح به الحكماء.. أفتريد سلاما خيرا من هذا السلام. وبدأت الوليمة فافترقنا. والتقينا من بعد وليمة. كانت السيارة واحدة، والفندق الذي نعود إليه واحد. وانتحينا في الفندق جانبا، خشية أن نستعجل النوم فيسوء الهضم. قال لي صاحبي قبل الوليمة عن النفاق ما قال، وانتهز الفرصة ليعود فيتم حديثه. قال: أتؤمن بالله وبخلق الله. قلت: نعم، أؤمن بالله وبخلق الله. قال: وهل تؤمن أن الله هو خالق الخير وخالق الشر جميعا. قلت: أما الخير فهو خالقه... قال: وإن يكن النفاق شرا أو خيرا فهو خالقه. قلت: دليلك ؟ قال: ألست ترى أن الله خبأ الأنفس فوضع عليها، ومن حولها، ستارا يخفيها فلا تنفضح. وجعل الفكر من وراء إغلاق. فأنا الآن قد أفكر في قتلك، وأدبر له، وأنت لا تدري. قلت: ما أظن أنك تفعل : قال: ما تظن، ولكنك لا تثق بأني لا أفعل. فهل جعل الله النفس من وراء حجاب، وجعل الفكر من وراء إغلاق، الا ليمكنني من أن أخفي عليك وأن تخفي. أخفي رضاي عنك أو غضبي. أخفي حبي إياك أو كرهي. أخفي تدبيري لك أو عليك. وكل إخفاء ستر. والناس تدعو الله فتقول يا ستار، وما أصدقها من دعوة. قلت: وهل الستر نفاق. قال: ما بين الستر والنفاق إلا خطوة. إنه يمهد للنفاق. إنه لولاه ما كان نفاق. واستطرد يقول: تصور لو أن كل هذه الحجب عن الأنفس قد أزيلت، وأن كل هذه الاغلاق على الفكر قد فتحت، وأن الناس اطلع بعضهم على ما يدور في رؤوس بعض، إنها والله إذن معركة شاملة دائمة متصلة، وحرب لا هوادة فيها، حرب لا يحمي منها إلا تعطيل الفكر، تماما كما يعطل الساسة الصحف ليستتب الأمن. فالنفاق يا عزيزي هو المخلص. فكر فيّ وتصورني اللص، وتصورني الكذاب، أو تصورني الكسول الذي لا فائدة منه في شيء من هذه الحياة، ولكن بادرني فقل لي ما آمنك، وما أصدقك، وما أنشطك وما أنفعك في الحياة. إنك بذلك لا تخسر شيئا. ونكسب جميعا من ذلك الأمن والسلام. ألست ترى بعد هذا الذي ضربت من أمثال أن النفاق ضرورة من ضرورات الحياة. قلت: أنت تنصح الناس بالنفاق إذن ؟ قال: وهل أحد في هذه الدنيا بحاجة إلى هذه النصيحة. كل يمارسه. قلت: وكل ينكر. قال: والإنكار يا سيدي هو بعض هذا النفاق. وهم ينكرون مؤكدين. وهم يحلفون في أتفه الأمور، وهل الحَلِف جرى بين الناس هذا المجرى الواسع إلا سترا للحق. قلت: فمن أكثر الناس نفاقا ؟ قال: الضعيف أمام القوي. الخادم أمام المخدوم. المرؤوس أمام الرئيس. المأجور أمام الآجر. سائق السيارة أمام الشرطي. المتهم أمام القاضي. الرجل أمام المرأة. قلت: تقصد المرأة أمام الرجل. قال: هذا يتوقف على أشياء. إن كانت زوجتك فالمرأة أمام الرجل. وإن لم تكن زوجتك فالرجل أمام المرأة. التي لا تعرفها، أنت تداهنها وتمالقها، وتسبغ عليها ما لا تسبغ على القمر البدر ليلة تمامه. وأنت إن وجدت من امرأة، زوجة أو غير زوجة، ما تكره كتمت والكتمان نفاق. وهي تكره ما تكره. فلا تذكر ما تكره منك إلا بالحمد. أنفك هذا إن كان أفطس، فهو عندها أنف روماني. وعينك هذه إن كانت عمشاء، فاسمها عندها الدعجاء. وجسمك هذا إن كان السمين البطين، فهو عندها قنا الرمح اعتدالا واستقامة. وأنت تسر بما تصف منك المرأة، والسرور خير. ولو صدقت لكان الصدق شرا. ألم يقل المتنبي: ويصدق وعدها والصدق شر ** إذا ألقاك في الكرب العظام تصور ما يحدث بين الرجل وبين امرأته لو أنها صدقت فقالت له يا أفطس يا بطين ! أقل ما يحدث الطلاق. والطلاق حرمان. والحرمان شقاء. وهو شقاء جاء لإهمالها حق النفاق عليها. إنك لن تجد نفاقا واجبا كنفاق امرأة. قلت: والرجل ؟ قال: نفاقه شائع، ولكنه غير واجب، لأنه الكاسب. لهذا هي تتزين له وهو لا يتزين. قلت : حتى الزينة نفاق ؟ قال: أم النفاق يا صاحبي، وهو الصنف من النفاق الذي رضيه الناس، ورضيته على الزمان الأجيال. إنه نقص في جمال تقوم الثياب بوفائه، ولن تجد كالثياب أداة نفاق. تقصر المرأة فتتخذ من الثياب المخطط، وتلبس الخيوط قائمة لتكسبها طولا، زورا. أو تطول المرأة فتلبس الخيوط نائمة، لتكسبها قصرا، زورا وبهتانا. والثياب تسمن الرفيعات من النساء، وترفع السمينات. والثياب يكون فيها إيجاز فتكشف عن محاسن، أو يكون بها إطناب فتحجب مساوئ. والثياب من بعد ذلك ألوان. إن المرأة تستطيع أن تختفي في ثيابها اختفاء فلا تجد منها إلا ثيابا جميلة. قلت: والموضة. إن أكثر الرجال ترى انها البدعة المرذولة. قال: تريد أن تقول إنها البدعة الثقيلة على الجيوب. وما هي ببدعة. إنها قديمة قدم الدهر. ولو أن الرجال حقا لم ترضها باطنا مادامت. إن المرأة تعرف من الرجل الملل على الطراز الواحد، فهي لا تفتأ تغير طرازا بطراز هي فلسفة الأطرزة. قلت: الأمر إذن خداع في خداع ؟ قال: وأنت تعلم أنه الخداع في المرأة، أثوابا وأصباغا، ومع هذا أنت تستمتع به. ثم تكتب فتنكر، لأن هذا حصتك من خداع. هل تدري يا عزيزي أن العمش أكسب للمتعة عند صاحبه، وأن حدة البصر مضيعة لها. وأن الله أعطى الإنسان البصر بمقدار حتى يرى في هذا الكون بعض جماله، ولو أن الله زاد على ما أعطى، فأعطى العين حدة المجهر، لم ير في خدود الحسان، وهي ناعمة، غير النقر والحفر. إن الطبيعة تنافق فتخدع الناس بتقصير أبصارهم. قلت: وماذا تقول في هذا لرعاة الأخلاق الكريمة، وحماة الفضائل، والنفاق عندهم موضوع في رأس القائمة، قائمة الرذائل ؟ قال: إن هؤلاء رجلين، رجل يصدع بما يرى انه الحق، فهذا هو الشقي بدنياه. وهو كحامل العلم الذي انفض من حوله جنوده. والناس قد تحترم مثل هذا الرجل حيا، ولكنهم أكثر احتراما له من بعد موت. وينقص من احترامهم له حيا النفاق والتقية، فبهما يدفعان المضرة. وهذا الرجل من رجال الأخلاق قلة، يجود بهم الدهر من حين لحين. وقد يصاحبهم الحظ الطيب فيكونون قادة، بسبب هذا الشذوذ. ثم هم لا يلبثون أن يتزعموا الدنيا على ما هي، والجماهير على ما هم، فيضطرون إلى المخاتلة فيخاتلون. أو، لا، فتنقصم ظهورهم فيسقطون، صرعى، لا أرضا قطع قاطعهم، ولا ظهرا أبقى. ورجل آخر من حماة الأخلاق، يؤمن بحكمتي التي تقول: إن النفاق ضرورة من ضرورات الحياة. وهو يأتيه، ويسمى هذا حسن التحيل والتلطف في المدخل. قلت: المدخل إلى أين ؟ قال: إلى الخير طبعا. وطبعا إلى خير الناس لا إلى خيره هو. وعنده أن الدنيا شر، والشر دائما تصحبه في هذه الحياة القوة. فلكسر حدة هذه القوة لابد أن يلقى المرء صاحبها بالملاينة. والملاينة تبدأ بالمدح، وبمدح الشر إن لزم. وهذا مدح غير مقصود لذاته، ولكنه مقصود لأمر يأتي بعده. قلت: تعني انه النفاق في سبيل الخير ؟ قال: وما ضر أن يكون الباب قذرا، إذا هو أدى إلى المائدة العامرة يجلس عليها الناس. قلت: لو أن الناس ساروا على هذا لخربت الدنيا. قال: ومن قال انها غير خربة. هات ألفا من الناس، واحص عليهم في اليوم الواحد ما قالوا، وكم صدقوا، وكم نافقوا. وسوف تجد أنهم صدقوا كثيرا فيما لا يؤذي.. كم الساعة... وما تاريخ اليوم... وهل غدا عطلة. أما فيما قد يؤذي فنفاق على طول الخط تستمد منه العافية، إلا في قلة قليلة من الناس، تصدق وتخاطر بالسوء أن يكون جزاءها. قلت: ولكن تاريخ الخلق مفعم بقصص من الصدق والصراحة بالغة. قال: نعم، نعم. ولكنك تنسى يا عزيزي أن التاريخ ما أثبتها إلا لندرتها. لو كان شيئا شائعا ما استحق إثباتا. قلت: إنك وصفت الدنيا بأنها خربة. فكيف ترضى نفاقها ؟ قال: هذا الوصف من بعض نفاقي. إنها تخرب على الصدق والصراحة، وإزاحة الحجاب عن الفكر الذي يدور في رؤوس الناس. ولكنها على النفاق جنة. قلت : لقد سمعت: هذا النعت قبل هذا. قال: نعم. شاب نشأ على الصراحة والخلق الطيب، طالبا. فلما دخل إلى الحياة ليعمل ويكتسب، صادفته صنوف من النفاق لم يكن به صبر عليها. فآثر الخروج من السوق، والانزواء، والاكتفاء بما خلف له الآباء من رزق. وكتب شعرا، أسماه "جنة النفاق". أما اسم الشاب فنسيته. قلت هاته شعرا: قال: ما دمت في جنة النفاق ** فاعدل بساق ومل بساق ولا تقارب ولا تباعد ** ودر مع الثور في السواقي وضاحك الشمس في الدواجى ** وداعب البدر في المحاق ولا تحقق ولا تدقق ** وانسب شاما إلى عراق وقل كلاما بغير معنى ** واحلف على الإفك بالطلاق ولا تصادق ولا تخاصم ** واستقبل الكل بالعناق فأي شخص كأي شخص ** بلا اختلاف ولا اتفاق وأي شيء كأي شيء ** ما دمت في جنة النفاق وأردف صاحبي يسأل: فهل اقتنعت ؟ قلت: بماذا ؟ قال: بضرورة النفاق لصلاح الدنيا. قلت: إن كنت تصف حالا عليها الدنيا، فأنا أوافق على الكثير مما وصفت. اما أن تبشر بالنفاق صلاحا للدنيا، فإن صح أن الدنيا هي كما تصف، فليست هي والله بحاجة إلى تبشير. وأنا أفهم أن يتخذ الفقير والضعيف والعاجز من النفاق تقية يتقي بها الشر، حتى لا يزداد فقرا أو ضعفا أو عجزا، ولكن هذا يكون في البيئات التي يسود فيها الشر ويسود الظلم ويستكين الناس فيها إلى الباطل. أما البيئات التي تنتشر فيها حرية القول، ويسود فيها العدل، فيقل فيها النفاق بمقدار ذلك. قال: صاحبي: ويبقى بها بعضه. قلت نعم. ما بقي في الناس تفاوت، وما بقي الظلم في الناس شيمة. فالنفاق لا يمكن أن يكون مما يبشر به الناس للناس، فهو شر يتقون به شرا، وما هو للإنسان بغاية. قال : إنما أصف لأحذر وأفقه الناس. قلت: أما هذا فلك منه ما تشاء. *.*.*/*.*/*.*.* والله الموفق 2015-03-31