من دون أن ندخل في لعبة الأرقام عن الحجم الكمي للجمعيات بعمالة المضيقالفنيدق والفورة التي عرفها هذا الإطار التنظيمي، الذي صدر أول نص منظم له سنة 1958 في المغرب، بحيث تقدره الكثير من المصادر ما بين 800 و1000 جمعية، ينبغي الاعتراف بأن هذه العمالة الفتية تعرف عددا مهما من الجمعيات. وبطبيعة الحال، يوجد ضمن هذه الإطارات الغث والسمين، الفاعل والجامد، الناجع والمجرد من كل تأثير، ذو المصداقية وفاقدها، المنضبط للقوانين والمستهتر بها، الذي يخدم الصالح العام والذي يخدم مصالح خاصة وفئوية، الانتهازي والمتجرد من الذاتيات... وهلم مطابقات ومتناقضات.. غير أن ما لا يمكن أن ينكره ملاحظ موضوعي وباحث نزيه هو أنه بقدر ما توجد جمعيات تخدم الأهداف النبيلة التي تأسست لأجلها، توجد جمعيات خلقت للانتفاع ونهب المال العام تحت غطاء جمعوي، وانتهاز الفرص لتسلق المراتب وخدمة أفراد وتطلعات مرضية، واتخذت وسيلة للارتزاق وتوسيع النفوذ وما أكثرها. ومن مفارقات المغرب أنه في الوقت الذي لم تكن السلطات العمومية قد وضعت يدها بعد على الجمعيات، حين كان المجتمع المغربي يعرف فورة نضالية حقيقية لإرساء دولة المؤسسات والقانون، ويؤدي ضريبة النضال سجنا واختفاء واختطافا وقتلا... كانت هذه السلطات تضيق الخناق على تأسيس الجمعيات. بل لم تتوان نفس السلطات عن تأسيس إطارات جمعوية مخدومة ومتحكم فيها ومبرمجة لغايات محددة. ويكفي أن نذكر بما عرف، في فترة من تاريخ المغرب الحديث، بجمعيات "الجبال والسهول والوديان". وحين نتكلم عن عمالة المضيقالفنيدق باعتبارها احدى العمالات الحديثة التأسيس بالمغرب والصغيرة المساحة حيث تضم ثلاث جماعات حضرية وجماعتين قرويتين فقط فقد حطمت الرقم القياسي أو كادت في ما أضحى يعرف بالفساد الجمعوي وتشكل مدينتي مرتيلوالفنيدق البؤرة الاكثر قتامة وسوادا في هذا المجال اذ أضحى تأسيس الجمعيات فيها خلال السنوات الأخيرة، بعد انشاء العمالة واستقلالها عن تطوان تمرينا سهلا ووسيلة للتموقع واقتناص الفرص والتقرب إلى الماسكين بزمام القرار في مختلف المواقع. وقد كان لمشروع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية دور كبير في تفريخ العشرات بل المئات الجمعيات مثل الفطر والكثير منها صوري ومفبرك وطوع بنان خالقيها ونافخي الروح فيها. فيما يتواصل التضييق بكل الطرق على الجمعيات غير الخانعة والنتيجة أننا أصبحنا أمام مظهر جديد من مظاهر الفساد يمكن تسميته ب"الفساد الجمعوي"، الذي أضحى مصدر ريع للكثيرين، ينالون المنح والتمويلات لمشاريع لا تنجز إلا على الورق وأحيانا بالشفهي فقط، طبقا لمعايير "الوزيعة" وتقاسم المنافع والنسب المائوية. لذا، يكفي تفحص ملفات تمويل هذه الجمعيات لاكتشاف العجب العجاب، بل للوقوف على فظاعات نهب ممنهج للمال العام. وهذا ما توجد بشأنه تقارير في مؤسسات عديدة بعضها في المتناول وكثير منها قد نجده في أدراج مظلمة وقد لا يستعمل إلا لأغراض مبرمجة أو يعلق سيفا مسلطا على الرقاب في انتظار حلول أوان استعماله أو حين تغيير الموازين أو الاضطرار لوقف تمرد أو تنصل من مهام قذرة. ومن أمثلة هذا الفساد الجمعوي ما عرفته وتعرفه عملية رصد المنح وتمريرها من لدن قطاعات رسمية، وبعشرات الملايين، وما يتفجر بين الفينة والأخرى في الجماعات المحلية التابعة للعمالة المشار اليها من اتهامات متبادلة بين المستشارين حول تمويل جمعيات بعينها لكونها محسوبة على هذا الرئيس أو العضو أو أقاربه وحماته أو متقاسمي المنافع معه. وغالبا ما تستعمل هذه الأساليب للابتزاز ونيل نصيب من "الوزيعة" لكنها لا تذهب أبدا إلى حد فضح الفساد في أفق قطع دابره. وهكذا، يتمأسس هذا الريع الجمعوي مادام الجميع ينال نصيبه، وحين يتم الإخلال بهذه القاعدة تتحرك آلة الابتزاز حتى لا يتوقف صبيب الريع الجمعوي نحو الجيوب. وثمة أسلوب آخر يساهم في مأسسة هذا الفساد الجمعوي، يتمثل في منح صفة المنفعة العامة، بعيدا عن المعايير الموضوعية بل وفي خرق فاضح لها، مما يوسع آفاق الحصول على الموارد من الداخل والخارج، يضاف إلى ذلك الإطارات الجمعوية التي لا تعرف الممارسات الديمقراطية حيث الجمعيات العائلية التي لا تضم إلا أفراد الأسرة أو تكون أجهزتها المسيرة عبارة عن تكتل أسري في الأجهزة المسيرة، والجمعيات التي يخلد فيها الرئيس لعقود، ولا يغادرها إلا نحو دار البقاء، والجمعيات التي لا يعرفها ولم يعرفها الرأي العام والمهتمون إلا باسم رئيس واحد أوحد منذ إحداثها، ولم يبق ينقصها إلا أن تتحول إلى أصل تجاري، علما أن قانون الجمعيات يمنع تأسيس الجمعيات لأهداف ربحية ينضاف الى ذلك الجمعيات ذات الغطاء الحزبي والتي يتفاوت دعمها المالي من جمعية لاخرى، حسب نفوذ القائمين عليها ودرجة قربهم من الجهات الرسمية والمؤسسات المنتخبة، ومدى توفرهم على غطاء حزبي، سواء كان في الحكم أم في المعارضة. لقد تحولت بعض الجمعيات في عمالة المضيقالفنيدق (مرتيلوالفنيدق نموذجين) والتي تحظى بحصة الأسد في الدعم المالي الممنوح لها إلى "محميات خاصة" فيما يتعلق بالانتماء لها أو الاستفادة من نشاطها سواء كانت اجتماعية أو رياضية أو ثقافية أو فنية على الخصوص، رغم أن قانون تأسيس الجمعيات يعطي الحق لكل مواطن حق المشاركة والعضوية فيها والاستفادة من نشاطها. وفي هذا السياق، لاحظ المتتبعون والمهتمون، أن العديد من الجمعيات أصبح يحكمها منطق "ثقافة الحزب الوحيد" فيما يتعلق بتحمل المسؤولية فيها والحصول على العضوية فيها، حيث يسيرها نفس الأشخاص ولسنوات، وتخضع لنفس الممارسات، ولايتم أبدا التدوال على تحمل المسؤولية فيها، مما فتح المجال للعديد من الممارسات سواء فيما يتعلق بالتنظيم أو فيما يخص تدبير الدعم المالي الممنوح لها، وبغض النظر عن نشاطها مما يطرح ضرورة التدقيق في حساباتها وأوجه صرفها لهذا الدعم من طرف المجلس الأعلى كهيئة قضائية مالية أناط بها المشرع المغربي مراقبة مالية الدولة وطريقة تدبيرها. إن خطورة ظاهرة الفساد الجمعوي الذي أضحى يستشري في هذه المنطقة هو مأسسته وتحوله إلى أخطبوط يعيث فسادا في المجتمع ويزرع سلوكا انتفاعيا يضرب في الصميم القيم النبيلة والأصيلة للعمل الجمعوي ويهدمها. لكن الأمل معلق على الجمعيات المواطنة رغم قلتها والتي تناضل حقيقة في المجالات التي تشتغل فيها وتصمد أمام المضايقات والإغراءات والانحرافات متشبثة بقيم العمل الجمعوي وفلسفته ومراميه الراقية والنبيلة التي حمتها تضحيات مناضلات ومناضلين شرفاء على مر السنين، جمعيات تحترم الممارسة الديمقراطية وتؤسس لها بإصرار وصمود ونكران ذات.. والأمل معقود أيضا، وقبل كل شيء وبعده، على إعمال القانون في وضع حد لهذا الريع السرطاني الذي لا ينخر مقومات العمل الجمعوي فحسب، بل ينخر قيم المجتمع ويهدمها ويسمم إحدى أهم خلاياها التي هي الجمعيات...