أشعلت طنجة شموعها كما لم تفعل من قبل. أشعلتها, ولا يَحسُنُ أن تطفئها الآن لأن جراح المدينة لم تلتئم بعد .إنها محكية بفصول حزينة يشد بعضها بعقب بعض. وإذا حصل أن أدرك الناس اليوم حجم الظلم الواقع عليهم من جهة لازمين من لوازم الحياة ,فان للحياة في هذه المدينة لوازم شتى , ينبغي التنبه لها وللقصور الفادح الذي يعتريها. ولا يفوتَنّ أهل طنجة أن يشعلوا شموعا كثيرة بعدد الجراح التي أعيت أجيال المدينة وشاء القدر أن تنفجر غضبا مع جيل ما بعد الألفين. ليست (أمانديس) أول أحزان المدينة و أوحدها, فالمدينة تشهد أشد فتراتها عسرا و ضيقا وهي تُنهَك وتُستنفَد بفعل التشجيع الرسمي غير الرشيد لاستيطانها و التركيز عليها كبؤرة تصنيعية تتعدى القدرات الإيوائية للمدينة و جاهزية بنيتها التحتية و الخدمية ,حتى ساد الشعور بين أبنائها بأن مدينتهم أضحت مهربا اجتماعيا وتنمويا يهيأ – من جانب الدولة- لتحمل مآسي مدن و قرى الهامش المغربي العميق. يحدث هذا في الوقت الذي لا يكف فيه الطنجيون عن تعداد عقارات و أرصفة و شواطئ و غابات تحت السطو. يا أهل طنجة ! خذوا من كتاب الكبائر صفحة التعليم العمومي. إن وضع المدرسة العمومية قد بلغ من فداحته أن أضحى يستدعي منا إيقاد شموع كثيرة ! توازيها هبة شعبية حازمة تعري الوجه الأسود لمؤسسة ينتظر أن تصنع للمدينة رجالها,فيما هي الآن تغوص في مَوْحَلة من الآفات التي تبدأ بالإثقال الإداري و التربوي ودس المتعلمين في علب بشرية مهينة, وتنتهي بشبكات الدعارة و المخدرات النشطة حوالي مؤسساتنا. ألا يستحق الأمر خوض مسلسل احتجاجي راشد و حثيث من شأنه خلق رأي عام يتبنى هذا الملف المزمن و الراكد على عفوناته ؟ فلنبق الشموع موقدة . خذوا الآن صفحة العقار . تجدون أن الطبقة الوسطى بطنجة قد أبعدت عن سلة أمانيها امتلاك بقعة أرض وسط المدينة قريبا من مرافقها, ثم بناء مسكن خاص عليها. و ذلك بعد أن استحكم اليقين وسطها باستحالة الأمر في مدينة قيد السطو. و أن الخيار المتبقي أمامها لا يعدو شقة بئيسة في إحدى المجمعات السكنية الريعية و بقرض بنكي يلازمك كابوسا حتى يسلمك لقبرك جثمانا باردا. فقد أضحى الوعاء العقاري للمدينة امتيازا ريعيا لا يسمح بتوسعته إلا لصالح نخبة من أباطرة العقار المتنفذين بالمدينة وردفائهم من السماسرة و المضاربين . كلنا يعلم الأثمنة التي تفوت بها أراضي الدولة المختلفة لصالح مؤسسات عقارية عملاقة محلية و أجنبية . مهما استمر هذا التعامي الشعبي و المؤسسي عن هذه الكبائر فان أزمة العقار تحديدا – بل جرائمه – ستظل تؤذن بانفجار و شيك .ثم إن ظلال هذا الانفجار تزحف ناحيتنا بإلحاح ونحن نشهد فصول مذبحة جديدة تتهدد الحزام الغابوي المحيط بالمدينة وكذا الفضاءات الخضراء وسطها. فقد شرعت الدولة بداية الثمانينات بتفويت أجزاء من غابة (الجبل الكبير) للخواص ومحاصرة غابات الرميلات و الرهراه باستفزازت كان بطلها مؤسسات عقارية قطرية و إماراتية حازت حق التعمير على أراضي الغابتين . تعيش طنجة تشوها عمرانيا بالغا ; تصادف بها كازينو عملاقا و عشرات المراقص الفخمة و محلات أطعمة لا تنتهي, لكنك لن تجد بها خزانة حديثة ولا قاعة مطالعة تليق أو حتى معهدا موسيقيا ينسجم و عراقة المدينة. لا أحد من أبناء المدينة يستطيع اقتيادك لزيارة مرقد الرحالة العظيم أبي عبد الله بن بطوطة, و ربما قادك لمحل بيتزا يحمل اسم الرجل ! لا شواهد في المدينة, لا نصب ولا لوحات تعد معلما مميزا…حقا, خيرا فعل هرقل لما نحت مغارته ,فقد نحن للمدينة أيقونة. إليكم صفحة أخرى ; اتسعت المدينة و تعددت فيها الأنشطة الصناعية و الخدمية المشروعة و الريعية .فواكب ذلك عودة مشؤومة لحالات استرقاق بشري فاضح .نعم ! في طنجة عبيد يعملون بنظام السخرة مقابل فتات يسمونه أجرا شهريا, في شركات الأمن الخاصة و شركات النظافة و الأشغال العامة و مكاتب الجماعات المحلية . لا أحد يلتفت لهؤلاء. و لا شموع توقد لمأساتهم الصامتة . ومن معاناة هؤلاء يطل قرن الفساد ; رشوة و غشا و خيانة للأمانات المهنية . هل نستطيع إنصاف هؤلاء ؟ فلنبق إذن شموعنا موقدة. أحزانك يا طنجة كتاب كبائر مثقل الصفحات ,و قد جثم طويلا على صدور أهلك كابوس يقظة مارد,حتى ظهر بيومياتهم في شكل سلوكات اغترابية حينا انطوائية آخر و عنيفة في حالات كثيرة . طنجة ..! لا تكفي عن الغضب.