حالات الانحراف والعنف وتعاطي المخدرات إعلان صريح على إفلاس المؤسسة التعليمية ظاهرة العنف داخل المؤسسات التعليمية بالرغم من أنها تبقى حالات استثنائية ومعزولة حسب ما يصل إلى المتلقي عبر وسائل الإعلام، إلا أنها في الواقع مؤشر قوي على أننا نسير في اتجاه تزايد حالات العنف والانحراف بشكل يعلن على أننا بصدد ظاهرة بكل تداعياتها الاجتماعية والتربوية والنفسية والاقتصادية، والتصدي لها رهين بقدرة كل الفاعلين والمهتمين على تكوين جيل وتنشئته على التسامح ولغة الحوار ونبذ العنف بكل أشكاله. وبهذا الصدد تقول الأستاذة أمينة بعجي رئيسة الجمعية المغربية للانصات والتحاور؛ أن المشكلة لاتكمن في حصول اعمال عنف متفرقة بين الطلبة أنفسهم وبينهم والمدرسين، إنما في تفاقم هذه الحالات وتحولها إلى مايشبه الظاهرة وهو صلب المشكلة، وبالتالي فإن الاعتراف الرسمي بأن ثمة مشكلة يجب معالجتها بالطريقة التربوية الصحيحة وبذل المزيد من الجهود العلمية.. للوقوف على أسباب هذا التدهور الحاصل في المؤسسات التعليمية. فالاعتراف بوجود المشكلة هو أصل الحل فيما تأتي المعالجة الجدية لتكمل ما هو مطلوب من الجهات المختصة لمواجهة هذه الآفة التي يبدو أنها تكبر من دون الشعور بخطورتها على الطلبة والمجتمع معا. والخطوة الأولى لمعالجة حوادث المدارس وعنفها هي وجود طاقم قادر على التعاطي معها بشكل صحيح بعيدا عن المزايدة والدخول في مراجعةجادة ينخرط فيها المجتمع ممثلا في كل القطاعات المهتمة. وأولياء الأمور الذين يتطلعون إلى مستقبل مشرق لأبنائهم بعيداعن المناوشات اليومية التي تقض مضاجعهم. إذن عن العنف داخل المؤسسة التعليمية وتداعياته على سير العملية التربوية تطلعنا الاستاذة أمينة بعجي على فصول تجربة مثيرة وجادة وهادفة، انخرطت فيها بغيرة المربي على المصلحة العامة، وأعطت جهودها نتائج تعلن أننا بصدد كفاءة نسائية وعصامية امرأة، لا تهادن في سبيل إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح. س) السؤال الموجع الذي يطرح نفسه ونحن بصدد الكلام عن هذه الظاهرة الخطيرة: العنف داخل المدرسة؛ هو لماذا كل هذا العنف؟ كيف أصبح فضاؤنا التعليمي يحبل بكل هذه الحمولة من العنف والإنحراف وكل المظاهر التي كانت المدرسة هي من يحاربها بأساليب تربوية تقويمية، لكنها اليوم أصبحت مرتعا للكثير من السلبيات؟! ج- من المؤكد أن أية ظاهرة اجتماعية لا تأتي من فراغ، بل تكون هناك دائما تراكمات وأشياء تمرر في غفلة، لنستفيق على خلل يَرُجُّ السواكن ويشكل الحدث، عندها نحس أننا أمام ظاهرة ومشاكل حقيقية تستدعي منا دق ناقوس الخطر وتدارك الخرق بالرقع قبل فوات الأوان. لذلك أقول إن العنف داخل المدرسة حين الكلام عن أسبابه وتداعياته لابد من تحديد عوامل عدة مترابطة ومتداخلة فيما بينها كانت الأرضية لتفريخ الكثير من مسببات هذه الظاهرة... ففي مجتمعنا وتبعا للكثير من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والأخلاقية كان لابد من حصول تحول في تقاليد وبناء وأسس التربية في عصر الفضاءات المفتوحة وإدارة شؤون الحياة عموما بعقلية وتمثلات مختلفة لم تعد تستقي وجودها من ثوابت وقيم ألفها المجتمع وتربى عليها؛ أي أن المربي داخل الأسرة وبعدها المجتمع لم يعد معروفا ولا محدد الهوية؛ حتى أنه يمكن طرح السؤال... من يربي داخل الأسرة المغربية: هل الأب... أم الأم... أم المدرسة... أم الشارع... أم الأنترنيت... وكل هذه المستجدات الطارئة على المنظومة التربوية داخل المجتمع لم تواكبها تطورات أو بالأحرى استعدادات لدى المربي الكلاسيكي إن صح التعبير - الأسرة والمدرسة - فهؤلاء لم يستطيعوا مواكبة التحول الفجائي الحاصل؛ فالآباء الذين تلقوا أبجديات تربية مختلفة وفي حدود معينة لم يستوعبوا التحول الحاصل حولهم وأنهم كما يقال: يربون لزمان غير زمانهم؛ وهكذا يجد المراهق نفسه مجردا من أي محفز لحب محيطه؛ ابتداء من البيت إلى المدرسة.. من الأب إلى الأستاذ؛ الكل بالنسبة إليه لا يمثل إلا السلطة وفرض الآراء بالأمر والنهي؛ في البيت مثلا لم نعد نتوفر على فسحة زمن مخصصة لتجمع الأسرة، حتى مائدة الطعام التي كانت غالبا مناسبة لاجتماع أفراد الأسرة ويتجمع حولها الكل للكلام أثناء الأكل وتجاذب أطراف الحديث وطرح بعض الأسئلة حول ما يجري حولنا، هذا التقليد أيضا تلاشى من حياتنا، وهكذا وفي غفلة منا وتحت ضغط رحى الحياة واللهاث من أجل كسب لقمة العيش وتوفير الرفاه المادي للأسرة؛ دون التفكير في الجانب العاطفي أو النفسي، ولا الفراغ الروحي الذي قد يعيشه أبناؤنا بسبب غياب قطبي الأسرة المستمر عن متابعة ما يجري وما يتربص بالأبناء؛ وغاب في لجج هذا الضغط شيء من حياة الأسرة اسمه تقنية التحاور وفضيلة الإصغاء والاستماع إلى بعضنا البعض، وهذا ما جعلنا في جمعية الإنصات والتحاور نضع ضمن الأولويات، ضرورة التحسيس بأهمية الحوار والتواصل والإنصات داخل الأسرة لردم هوة الخرس التي يغرق فيها كل أفراد الأسرة.. كل في عالمه الخاص، وكل لا يسمع إلا صوته... وعلى أرض الواقع نصادف في كثير من الأحيان نماذج أسر تحاول ما أمكن مسايرة الحياة العصرية مظهريا فقط، وتتصرف بتناقض صارخ مع الأبناء. فنجد الأسرة، -خصوصا ما يعرف بالأسرة النووية- تتعامل مع الطفل بنوع من المرونة في التربية، وقد تطلق له الحبل كله كما يقال فهي تمكنه من مصروف قار يتصرف فيه كما يشاء، تمكنه من كل وسائل الترفيه المتاحة من غير رقابة مثل التعامل مع الأنترنيت وغيرها، لكن حين يصل إلى سن المراهقة تغير الأسرة أسلوبها التربوي بصورة فجائية وتسحب كل البساط من تحت قدم هذا الطفل الذي صار مراهقا، تتشدد في متابعته، تمنع عليه الكثير من الأشياء التي كانت تبيحها له من قبل وتضيق عليه الخناق في فترة المراهقة بحجة مراقبته في هذه السن الحرجة... وتنسى هذه الأسرة أننا اليوم أصبحنا بصدد جيل آخر يعيش في فضاء من الحرية والحقوق؛ لذلك نحن مطالبون، بل مجبرون على التعامل معه بلغة الحوار والإنصات، أيضا يغيب على الكثير من الأسر أننا بصدد جيل ذكي ومتقد الذهن ومدرك لما يجري حوله... ونحن حين نلغيه ونلغي مطالبه وخصاصه العاطفي والنفسي والروحي من حسابتنا بحجة أنه في سن عليه فقط الانصياع للأوامر وتقبل الأشياء كما هي بدون مناقشة أو الاعتراض على ما يطلب منه... نوسع الشرخ ونجعله يبحث عن المحاور البديلة خارج الأسرة، هذه الأخيرة التي تصير غير مرغوب فيها. هذا إذا لم يتحول كل الحب الذي كان يكنه لها في صغره إلى عزوف أو كره يترجم مع الوقت إلى تصرفات عنيفة ورفض لهذا الفضاء الأسري ككل... أما إذا انتقلنا إلى المدرسة كشق ثاني في التربية مكمل لعمل الأسرة، فهي أي المدرسة ليست أحسن حال من الأسرة... للأسف الفضاء المدرسي فقير وفقير جدا، فهو لا يقدم للتلميذ أي تعويض، أكثر مدارسنا لا توفر للتلميذ فضاء خصبا لمزاولة الأنشطة التي تعوض خصاصه التربوي داخل الأسرة... تعاني أغلب المدارس والثانويات إلا ما ندر، من المكتبات للمطالعة أو ملحقات لممارسة أنشطة ترفيهية، مؤسسات فارغة قاحلة ويستفحل الأمر إذا ما ابتليت المؤسسة التعليمية بنماذج من المدراء الذي هم موظفون بآفاق ضيقة لا علاقة لهم بالعملية التربوية أو التأطير وغالبا بمستويات تكوينية بسيطة، بل منهم من لازال يتعامل بعقلية فقيه الكتاب «أنت ذبح وأنا نسلخ» لتبرير ممارسة العنف على التلاميذ وإهانتهم وإذلالهم عن طريق الإقصاء والتهميش والعنف اللفظي يضاف إلى كل هذا إغراق مؤسساتنا التعليمية في مناهج بيداغوجية كلاسيكية، ومقررات تجعل الأستاذ في صراع طيلة السنة وحيرة كيف يتمكن من إنهاء المقرر في الوقت المحدد، أي صراع مستمر مع هاجس الغلاف الزمني واكتظاظ الفصول وهذا يجعل المدرسة همها هو الكم المعرفي بدون تأطير ولا مراعاة لظروف التلميذ لتكوين شخصية قوية قادرة على الاستيعاب والمواجهة واتخاذ القرار السليم؛ وفي جو كهذا كان لابد من خلق جسور للتواصل بين التلميذ والمدرسة، بين التلميذ والأستاذ للارتقاء بالمنظومة التعليمية في جو بعيد عن المشاحنات والضغط، وهذا ما نحاول القيام به داخل جمعية الانصات والتحاور عبر جلسات حوار وحلقات تكوين للأساتذة. س) جلسات الحوار كما تتبعنا من خلال جرد أنشطة جمعية الإنصات والتحاور والتي أعطت أكلها مع التلاميذ ووصلت بالبعض منهم إلى بر الأمان والرجوع من غياهب الإدمان والضياع مثل حالة التلميذ «البويه بطل فيلم حين غاب التواصل»... هل حاولتم تجربتها مع بعض الأسر حتى تكتمل الحلقة...؟! ج) بالطبع نظمنا جلسات كثيرة مع أولياء أمور التلاميذ، لأنه خلال الجلسات مع التلاميذ اتضح أن الخلل بالأساس موجود داخل الأسرة، ففي كل الجلسات الجماعية وجلسات الاستماع سواء الجماعي أو التتبع الفردي كان التلميذ أو التلميذة في إطار تفكيك معاناته مع الإدمان أو العنف أو كل الظواهر السلبية التي نتصدى لها في أعمال الجمعية؛ أقول كان يحيل بالدرجة الأولى على الأسرة ويلقي اللوم على الوالدين، وعلى المحيط الذي انحدر منه، ولذلك وبناء على معطيات كثيرة تم تجميعها، ارتأينا خلال السنة الفارطة وهذه السنة أن تكون الجلسات مع الأسرة، وكانت تجربة ناجحة بكل المقاييس فيما يخص التجاوب والاستماع واستيعاب مشاكل الأبناء، واتضح أيضا أن الآباء بدورهم في حاجة إلى التكوين والتحسيس ببعض الأساليب الخاطئة في التربية والمتابعة.. من مثل الضغط على المراهق أو المراهقة، المبالغة في المنع، وبالفعل لدينا نماذج ناجحة من جلسات الاستماع والتحاور مع أولياء الأمور في ثانوية عمر الخيام، وإعدادية كنزة ويوسف بن تاشفين وبسام.. حقيقة قد تصادفنا بعض المشاكل إما بسبب مستوى وعي الآباء، أو الفقر أو عدم تعاون مدير المؤسسة وجمعية الآباء.. س) على ذكر جمعية الآباء ألا ترين أن هذه المؤسسة أيضا أصبحت جهارا دون محتوى إلا ذلك الوصل اليتيم الذي يتلقاه كل تلميذ مع ملف التسجيل بداية كل سنة..؟ وغيابها للأسف طمس دورا مهما للمتابعة في العملية التربوية داخل المؤسسة... إلى أي حد ترين هذا الكلام؟ ظاهرة العنف داخل المؤسسات التعليمية كما هي حاصلة اليوموبدرجات متفاوتة ، في حاجة إلى تضافر عدة جهود من لدن المتدخلين في قطاع التربية والتكوين، من أجل الحد منه، فجمعية الآباء وأولياء الأمور باعتبارها الشريك الرئيسي للمدرسة، عليها أن تلعب دورا كبيرا في التحسيس ومعالجة أشكال العنف بين التلاميذ أنفسهم وبينهم وبين مدرسيهم، وتحسيسهم بواجباتهم وحقوقهم. مثلما على المؤسسات أن تبرمج في أسابيعها الثقافية، ندوات فكرية عن ظاهرة العنف، كظاهرة اجتماعية ونفسية، للوقوف عند أسبابها ومسبباتها، وتأثيرها على السير العادي للدروس، وعلى تفكك العلاقة بين المدرس والتلميذ، وعلى الجو العام للقسم المفروض فيه أن يسوده جو العمل والاجتهاد والتنافس الشريف بين التلاميذ من أجل التحصيل الدراسي. التحسيس كذلك بمسببات العنف وخاصة تناول الأقراص المهلوسة من قرقوبي وغيره، الذي يتسبب كثيرا في التهيج وإثارة الأعصاب، والدفع بالتلميذ إلى ارتكاب أفعال وأعمال غير واع بها، عند اقترافها، إلا بعد صحوة. والخطورة القصوى أن بعض التلاميذ أصبحوا يْصَنّعُونَ المادة المخدرة بأنفسهم مثل «المعجون» مثلا الذي يتكون من مواد سامة لا يعون خطورتها، ثم إن الخطوط الحمراء لم تعد موجودة عند التلميذ الذي أصبح يعيش من غير هدف، من غير نموذج يحتذى... من غير مثل أعلى.. هذه الرموز للأسف التي لم يعد يمثلها لا الاب ولا الأستاذ جعلت من الضروري أن يبحث التلميذ امام هذا الفراغ العاطفي والنفسي عن محتضن.. او متعاطف، وأي أحد يفهمه وتكون له القدرة على احتوائه وهذا المراهق المقصي داخل الاسرة والمقموع داخل المؤسسة التعليمية بفعل سلطة غير مفهومة ولامقبولة لديه، يمارسها عليه الاستاذ داخل القسم إما بالضرب او الاقصاء او التهميش داخل الفصل؛ لأنه مشاغب او غير متوفق، ما يجعل طبيعيا لدى هذا التلميذ او المراهق أن يبحث عن وسط يفهمه، وهنا نكون قد وصلنا الى مرحلة يصعب فيها كثيرا على الاسرة اعادة الابن الى احضانها ولا اعادته إلا طاولة التحصيل المدرسي، لانه يكون قد وقع بين ايدي عصابات خطيرة أصبحت للاسف تتشكل داخل الفضاء المدرسي من العناصر المسخرة من طرف عصابات خارج المدرسة.. س) ألا ترين مع كل ما تقدم من أسباب أن غياب المثل الأعلى ونموذج يحتذى لدى المراهق ساهم أيضا في إذكاء الفراغ النفسي والعاطفي وكان سببا آخر للانحراف والضياع والخواء الروحي بالدرجة الأولى؟ ج - كل ما سبق وقلناه عن افلاس المنظومة التربوية داخل الاسرة والمدرسة يغذيه أيضا فراغ روحي صعب على مثل هؤلاء التلاميذ والمراهقين ملأه، وهكذا يحاولون البحث عن بديل يملأ ويعبأ هذا الفراغ الروحي ؛ الأسرة المغربية اليوم لم يعد لديها ذاك التشبع الديني لتربية أبنائها على القناعة الدينية والجو الأسري الحميمي، لأن الاسرة بنفسها تعاني التفكك، حتى بين الاخوة داخل نفس الاسرة، ثم بعد ذلك غياب التناغم والانسياب في العلاقة (فهذا التلميذ أو المراهق ليس له نموذج الاخ الاكبر. ليس لديه العم ولا الخال والجد ولا الجدة..) الشيء الذي أذكاه أكثر تراجع مؤسسة الاسرة الممتدة لصالح الاسرة النووية ويصبح التلميذ أمام غياب قطبي هذه الاسرة اما بسبب اكراهات الحياة العمل السفر الطويل من أجل كسب اللقمة.. التفكك الاسري بسبب الطلاق أو عدم اتفاق الابوين يجد نفسه وحيدا ليس هناك من يستمع ولا ما ينصت لآلامه.. ومنهجية الاسرة النووية في التربية تقوم على الماديات فقط، فالأب أو الام داخل الاسرة النووية يعتقد أن ما يفتقر له التلميذ أو المراهق هو الاشباع المادي.. مصروف الجيب، وسائل الترفيه - المختلفة ويغيب عن دهنها أن التلميذ يعاني خصاصا نفسيا وروحيا لا يعوض ماديا، وعدم اشباع هذا الجانب الروحي يجعل التلميذ يرى كل الاشياء به غير ذات قيمة... والابناء وصلوا الى مرحلة خطيرة تتطلب من الاسرة الكثير من اليقظة والحزم، فهذا التعويض المادي الذي كان يحل مشكلة في غياب الحوار والتواصل داخل الاسرة اصبح اليوم مرفوض من قبل الابناء الذي هم في حاجة لمن يحاورهم ويضع الأصبع على مكان الداء لا الى من يقايض على مسووليته التربوية بالمادة..! وهذا هو ماحاولنا ايضاحه وتجسيده عبر فيلم «حين غاب التواصل»