ملاحظات حول تقرير الحالة الدينية في المغرب قرأنا باهتمام بالغ فصول ومواد التقرير الذي يصدره مركز الدراسات الإستراتيجية حول الحالة الدينية في المغرب، وهو مجهود توثيقي لا بد من الاعتراف بأهميته، سيما أنه التقرير الوحيد الذي يهتم بموضوع التدين والحقل الديني في بلادنا، ويتابع بشكل تراكمي أنشطة ومواقف كل المنتمين إلى الحقل الديني.لقد استرعت انتباهنا جملة من الملاحظات الشكلية والموضوعية، المرتبطة بالتقرير، خاصة في الفصل المتعلق بالزوايا والطرق الصوفية، وتحديدا أنشطة الطريقة القادرية البودشيشية، والتي رغم تنوع أنشطتها، وتصدرها للمشهد الصوفي ومساهماتها الجلية في الحياة العامة، تم تحجيم دورها والتعامل معها ومع مكانتها وأنشطتها بكثير من الاختزال، وإصدار الأحكام القيمية والجاهزة في حقها، وهو الأمر الذي سنحاول توضيحه والرد عليه فيما سيأتي. فمن بين الملاحظات الشكلية، التي سجلناها حول التقرير، أنه ينزع نحو الذاتية، مع تغييب واضح للموضوعية، وللمنهجية العلمية الصارمة، والتي من المفترض أن تكون قاعدة لتحرير أي تقرير، دينيا كان أم دنيويا، وقد ظهر لنا ذلك من خلال تثبيت الانطباعات، والقناعات الذاتية، وعدم اعتماد المصادر والمراجع الداعمة لمواقف التقرير من القضايا والإشكالات المثارة. كما أن فريق صياغة التقرير لم يكلف نفسه عناء استقراء رأي أصحاب الشأن في الطريقة من خلال إعمال تقنيات علمية متداولة في هذا الشأن، من قبيل اعتماد أسلوب الاستجواب المباشر أو الاستمارة وغيرها من الوسائط المتعارف عليها في هذا المجال. كما لاحظنا أن التقرير ينزع نحو تغليب رأي واحد كما وكيفا، مما يوحي لدى القارئ المهتم بإحساس أن التقرير يدافع عن اختيار سياسي، وليس رصدا موضوعيا للحالة الدينية في المغرب، ويظهر ذلك من خلال اختزال الأنشطة وتقليص حجم الاهتمام الكمي في التقرير بمؤسسات معينة، بينما حظيت مؤسسات أخرى مقربة من منجزي التقرير بعناية خاصة كما وكيفا. كما انتقص التقرير من حق الزوايا الأخرى التي تؤثث المشهد الصوفي واختزل دورها وأنشطتها في جمل ومواقف مسكوكة وجاهزة، من قبيل أنها مجرد أدوات في يد السلطة، وأنها لا تملك قرارها، كما لو أنها تدار بجهاز للتحكم عن بعد. وقد وقفنا أيضا عند ملاحظة أخرى تتمثل في الترويج لمواقف جاهزة من دون تمحيص أو تقديم أدلة موضوعية بشأنها، كما هو الشأن بالنسبة إلى التصوف الذي نال نصيب الأسد في ما يتعلق بالأحكام الجاهزة. واعتبارا لأهمية التقرير، وقبل ذلك لأهمية الحوار وفضيلة التواصل، اللتين تعتبران منهجا راسخا في التربية الصوفية، فقد ارتأينا الرد على بعض العناصر الواردة في التقرير، من باب تنوير الرأي العام، وإبعاد الشبهات، وتصحيح المعلومات. وقد قسمنا منهجيا هذا الرد إلى ثلاثة أقسام: أ- أنشطة الطريقة خلال سنتي 2008 و 2009 وهي الفترة التي يغطيها التقرير. 1 - الانشغال بالعمل السياسي 2 - تمويل الزاوية أ- أنشطة الطريقة القادرية البودشيشية: قامت الطريقة القادرية البودشيشية بتنظيم مجموعة من الأنشطة الاشعاعية والداخلية نذكر من بينها: . تنظيم الأيام الدراسية الموازية للاعتكاف الصيفي . إحياء ليلة الإسراء والمعراج، بحضور 800 من الأئمة والوعاظ. . تنظيم الملتقى الوطني الأول للشباب المنتسب للطريقة القادرية البودشيشية، المنعقد في مدينة بوزنيقة بحضور أزيد من 10 آلاف شاب من مختلف مناطق المملكة، تحت شعار «التصوف منقذ الإنسانية». . استقبال العديد من الوفود الدولية من فرنسا واسبانيا والفيتنام والسعودية ومصر، وتونس ومالي والسينغال ودول أخرى. . تنظيم اعتكاف شهري رمضان وشهري غشت. . تنظيم الملتقيين العالميين الثالث والرابع للتصوف بمناسبة الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف. . تنظيم حفلات السماع الصوفي في العديد من المدن المغربية، أحيتها الفرقة الوطنية والفرق الجهوية والمحلية. . إحياء ليالي الذكر والاعتكافات الأسبوعية في كل الزوايا عبر التراب الوطني. 1 - الانشغال بالعمل السياسي دأبت الزاوية القادرية البودشيشية منذ نشأتها على الابتعاد عن العمل السياسي، وقد أكدت في أكثر من مناسبة انشغالها بأدوارها التنويرية والإرشادية وابتعادها التام عن التدافعات السياسية وعن الخوض فيها، وقد عبرت عن ذلك صراحة من خلال تصريحاتها العديدة. وفي كل مرة تجد الطريقة نفسها ملزمة بالدفاع عن موقف مبدئي لديها، متهمة في ذلك من طرف ذوي النيات المبيتة، بأنها تمارس العمل السياسي، بينما يعلم الجميع أن في المغرب قانونا للأحزاب السياسية لا تستجيب الزاوية لمواده وفصوله. وبالتالي فليس من حقها القيام بعمل لا يدخل في نطاق اختصاصها. إن الذين يريدون أن يحشروا الزاوية في خندق التدافعات السياسية، هم أحد اثنين: فريق يعتقد واهما أن الزاوية أداة في يد الدولة تحركها، متى تشاء ووفق أهوائها، وهو بذلك يخاف على نفسه من قوة التعبئة والحشد التي تتوفر لدى الزاوية، والانضباط التنظيمي الذي يميز مريديها، وبالتالي فهو يلجأ إلى إخفاء ضعفه من خلال التلويح باستعمال الدولة للزوايا في مواجهته، فتراه تارة يلجأ إلى نصوص مبتسرة من التاريخ، ليؤكد مقولته، وتارة يمارس رياضة ليّ أعناق النصوص والمواقف، لينتصر لموقفه من دون أن يمحص أو يتبين، أو يُعمل قول الله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين". وفريق يريد استئصال التصوف من التربة الدينية، فيلجأ إلى التخويف من الزوايا، فيجد ضالته لدى ضعاف النفوس، ولدى المستشعرين بسطوة التربية الصوفية، على حد سواء، فيجدون ضالتهم في بعض النماذج التي اختارت عن قناعة أن تتحول إلى جمعيات سياسية، وأعلنت موقفها بوضوح. بينما أعلنت الطريقة في أكثر من مناسبة وبأكثر من لغة وعلى أكثر من لسان، وطيلة عقود من الزمن عرف فيها المغرب تحولات سياسية كبرى كانت الطريقة دائما تعلن دفاعها الدائم عن المقدسات الوطنية، دون الدخول في التدافع السياسي الذي تحترم أهله، كما تؤكد في كل وقت وحين أنها لا تشتغل بالسياسة، وليست لديها النية مطلقا في الحال والاستقبال أن تمارس هذا العمل، ولا أن تقترب منه، فلكل مجال رجاله، وهي من هذا المنطلق تحترم كل الأحزاب السياسية، وليس لديها موقف من أي جهة، سوى موقف المحبة المطلقة للجميع. أما ما قد يفسر على أنه "مواقف سياسية"، من قبيل المساهمة في بعض التظاهرات الوطنية مثل نصرة الرسول (ص) ونصرة المسجد الأقصى، ودعم الوحدة الوطنية، أو التعبير عن دعم الدستور من خلال مسيرة وطنية، فهذه مواقف لا يختلف أو يتدافع حولها المغاربة، بل يوجد إجماع حولها، وبالتالي فهي مواقف غير قابلة للمزايدات السياسية، بقدر ما أنها مواقف وطنية تساعد على لم شتات الأمة وتوحيد صفها. ولقد دأب الصوفية عبر التاريخ على هذا النهج، بل منهم من جاهد أو دعا إلى الجهاد، كلما أحدق بالأمة خطر خارجي، ومنهم من ساهم بالرأي و بالرجال وبالمواقف كلما احتاجت الأمة ذلك. لكنهم أجمعوا على ترك السياسة لأصحابها واهتموا بتربية المواطن الصالح، من خلال تنشئة صوفية ربانية طاهرة، منفتحة على مختلف الفاعلين. الزاوية البودشيشية تمول نفسها بمساهمات أعضائها يعتقد البعض خطأ أن الزاوية تتلقى دعما من قبل الدولة، أو بعض جهاتها، وهو الأمر الذي يكذبه واقع الحال، فميزانية الدولة واضحة وأسطرها المالية ناصعة، فهي لا تتضمن بنودا لتمويل الزاوية، بينما تتضمن أسطرا لتمويل الجمعيات والأحزاب السياسية، وهيآت ومؤسسات أخرى. كما أن الإيحاء الدائم بوجود تمويلات سرية يكذبه الواقع، فالزاوية لم تستطع منذ أزيد من 20 سنة من بناء مسجدها الكبير، الذي من المنتظر أن يضم مجموع أنشطتها، بينما العديد من الجمعيات والأحزاب والحركات استطاعت في «ظروف» وجيزة بناء مقراتها الوطنية والجهوية، علما أن تمثيليتها بالكاد لا تتجاوز عشر ما تضمه الزاوية من منتسبين، في المدن والقرى التي توجد فيها. إن مسألة التمويل تتضمن الكثير من المغالطات، ولعل دافعها في الأغلب الأعم الرغبة المذمومة في تلويث سمعة الزاوية، مما يكشف عن سوء نية كبير. ومن هنا لابد من التأكيد مجددا أن الزاوية البودشيشية تمول نفسها بنفسها من خلال مساهمات أعضائها، الذين ينفقون بسخاء عليها، فكما أنها تمتلك قرارها في كل المواقف التي تعبر عنها وتتخذها، فإنها كذلك تستقل بقرارها المالي عن أي جهة كانت، ولعل هذا ما سمح لها بالاستمرار والتطور منذ عقود خلت. لقد تضمن التقرير عن الزوايا نوعا من التلميح المضمن إلى هذا الموضوع، دون تقديم دليل على ذلك، بل كان من الأجدر تحكيم الموضوعية وإعمال الدليل وليس إطلاق الكلام على عواهنه، ولو من باب "تبينوا" أن تصيبوا أهل الزوايا ب "جهالة". وختاما، فقد نصّب التقرير، أو بالأحرى أصحابه، أنفسهم وصايا على الحقل الديني بأكمله، وعلى الزوايا بشكل خاص، بحيث تجاوز التقرير عمله التجميعي والتوثيقي، إلى وصي يرسم الحدود لعمل الزوايا، ويقرر بدلا عن أصحاب الشأن، ويطلق الأحكام الجاهزة، ويلصق صورة سلبية عنها، مع سعي غريب إلى خلق نوع من التأزيم في علاقة الدولة بمختلف مكوناتها، مما جعل منه "تقريرا" أقرب إلى الأدبيات الحركية، ذات الخلفية السياسية الواضحة والفاضحة.