أستاذ النحو واللسانيات كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة. توطئة : عادة ما تستعمل جملة من المصطلحات من قبل بعض المثقفين بكثير من التجوز والترخص، دونما التفات إلى جملة من الأصول، فالمصطلح يعبر عن مفهوم ما، والمفهوم منتزع من المَاصَدق، فالمفهوم يحكي عن الماصدق،ولهذا يتعين قبل استعمال المصطلحات أن يكون المستعمل على بينة بما تحكيه هذه المصطلحات. ولأن الأمر على جانب كبير من الخطورة فقد أولى العلماء العرب عناية بالغة له، فقد افردوا للمصطلحات معاجمَ وموسوعاتٍ ، بعضها مبسوط وبعضها وجيز وبعضها في منزلة بين المنزلتين، ومن الكتب التي ألفت في هذا الشأن، على سبيل المثال، كتاب "التعريفات" للشريف الجرجاني وكتاب "كشاف اصطلاحات الفنون "للتهانوي وكتاب "مفتاح السعادة" لطاش كبري زادة و"مفاتيح العلوم " للخوارزمي ... ولعل عناية العلماء المتقدمين بضبط المصطلحات يدل على أنهم كانوا على وعي بخطورة هذا الجانب، ذلك أن أي استعمال فاسد للمصطلح لا بد أن يترتب عليه فساد المعنى وذهاب الفائدة. وعندما نتحدث عن المصطلح ، لا يعزبنَّ عن البال أن المصطلح من الاصطلاح، والاصطلاح هو التواضع على أمر ما أو دلالة ما، وهذا يعني أن ثمة فرقا بين الدلالة الاصطلاحية والدلالة اللغوية، وقد تنبه علماؤنا في التراث العربي إلى هذه المسألة، و جرت العادة أن يميزوا بين الدلالة اللغوية والدلالة الاصطلاحية، ومثال ذلك قول النحاة" الفاعل لغة من يقوم بالفعل واصطلاحا( أي في علم النحو ) هو كل اسم أسند إليه الفعل أو ما يقوم مقامه مقدما عليه، فهنا نكتة طريفة، وهي أنهم ميزوا بين الفاعل لغة، وهو الذي يفعل الفعل، والفاعل اصطلاحا (في صناعة النحو)، ذلك أن الفاعل( في النحو ) قد لا يقوم بالفعل، بل قد يتصف به فقط، ومن ذلك قولك: (مات زيد أوسقط الجدار) فزيد فاعل في المثال(اصطلاحا أي قياسا على صناعة النحو) وإن لم يكن فاعلا لغة، لأنه لم يقم بفعل الموت، وقس على ذلك المثال الآخر(سقط الجدار). هذا الأمرفي غاية الأهمية لأنه يكشف أن المصطلح يكتسب دلالته في إطارالصناعة المعينة، وقد تختلف دلالة المصطلح من صناعة إلى أخرى ،ولهذا ألف التهانوي كتابه "كشاف اصطلاحات الفنون"، وعيا منه بخطورة هذه المسألة، فقد تختلف دلالة المصطلح الواحد بين صناعة وأخرى، فمصطلح"الكلمة" في المنطق يختلف عنه في النحو، ف"الكلمة" عند المناطقة هي"الفعل عند النحاة ، و الكلمة عند النحاة هي اللفظ الدال على معنى مفرد، وتشمل (الاسم والفعل والحرف )، وكذلك مصطلح "الكلام"، فالكلام لغة هو غير الكلام في اصطلاح النحاة وهو غير الكلام في اصطلاح المتكلمين، وكذلك "الحد"، فالحد لغة هو غير الحد في صناعة المنطق، وهو غير الحد في اصطلاح الفقهاء، فالحد لغة هو الطرف، وفي المنطق هو نوع من التعريف، وفى الفقه هوالعقوبة ومنه حد الزنا وحد القذف وحدالسرقة. نخلص مما سبق الى مايلي : أ أن ثمة فرقا بين دلالة اللفظ اللغوية و دلالته الاصطلاحية. ب أن الدلالة الاصطلاحية قد تختلف بين صناعة وأخرى. ج أن عدم مراعاة الدقة في استعمال المصطلحات يترتب عنه فوضى معرفية مما يؤدي إلى اشكالات كبيرة على رأسها فقدان جسر التواصل بين القارئ والكاتب. د أن المصطلح يعبر بالضرورة عن مرجعية محددة . بناء على ما سبق أكد أريسطو في منطقه على أهمية مبحث التعريف وخطورته في البحث العلمي، فعرض، في إطار دلالة الألفاظ، الكليات الخمسة (الجنس، النوع، الفصل، الخاصة، العرض العام )، وهذه الكليات الخمسة هي السبيل لضبط المفاهيم والحقائق، وتابعه في هذا المسعى الفلاسفة المشاؤون، وأبرزهم فورفوريوس صاحب إيساغوجي ( المدخل) الذي حظي باهتمام كبير من قبل الفلاسفة المشائين المسلمين (ابن سينا ،الفارابي ،ابن رشد ، الكندي ) ولم يقتصر الأمر على الفلاسفة بل تعداهم الى غيرهم من العلماء فى الحقول المعرفية الاخرى كالنحو والفقه والاصول والبلاغة، فقد خص المتقدمون مبحث الحدود بمؤلفات قيمة التزموا فيها على نحو صارم شرائط التعريف الاريسطية، وهذا في اعتقادي وجه من أوجه عظمة هذا التراث، ولعل الناظر في ألفية ابن مالك وهي غنية عن التعريف يمكنه أن يقف على الصرامة المنطقية التي انتهجها ابن مالك على امتداد ألفيته في تعريف المصطلحات، فهو يعرفها تارة بالحد التام و أخرى بالحد الناقص، و تارة بالرسم التام و أخرى بالرسم الناقص، وقد يعتمد التعريف بالقسمة في بعض الأبواب، ولا بأس بإيراد أمثلة دالة على ما نقول، فابن مالك يقول : كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم فالكلام نوع ، وقد عرفه بالجنس القريب و بالفصل فقولنا الكلام : لفظ مفيد جنس قريب فصل يماثل قولنا :الانسان: حيوان ناطق جنس قريب فصل ولتقريب الفكرة، على نحو أدق، لننظر في الشكلين التاليين، حيث يمثل الشكل(1) شجرة فورفوريوس والشكل(2) تصور ابن مالك : (1) الجوهر الجسم الجسم النامي الحيوان الانسان سقراط (2) مقولة (الكيف) الصوت اللفظ الكلام الكلمة الكلم اسم فعل حرف لقد عرف ابن مالك الكلام بواسطة الحد التام، فقد ذكر الجنس القريب الذي يعلوه وهو اللفظ، وذكر الفصل، وهو الكلي الذي يكون جوابا عن السؤال"أي شيئ هو في ذاته"، فاللفظ جنس يشمل "الكلام والكلمة والكلم " و"مفيد" فصل يفصل الكلام عن قسيميه: الكلمة والكلم، و كذلك الشأن في تعريف الانسان في قولنا "حيوان ناطق "، ف"حيوان " جنس قريب يشمل الإنسان وسائر الأنواع الحيوانية الأخرى، و" ناطق "فصل يفصل الإنسان عن باقي الأنواع الحيوانية الأخرى التي تشترك معه في الحيوانية . وقد يعتمد ابن مالك ضروبا أخرى من التعريف الأريسطي، كقوله مثلا في تعريف الفعل : بتا فعلت و أتت ويا افعلي ونون أقبلنْ فعل ينجلي فقد عرف الفعل هنا من خلال ذكر خواصه (التعريف بالرسم)، والخاصة هي في التعريف المنطقي "الكلي الذي يجاب به عن السؤال: أي شيئ هو في غير ذاته "، ف"الخاصة"تميز الشيئ خارجيا أي أنها ليست مقوما ذاتيا في الشيئ، ومثال ذلك أن نعرف الإنسان بأنه "حيوان ضاحك"، ف"ضاحك" في هذا التعريف ليست مقوما ذاتيا في الإنسان خلافا ل"ناطق " في قولنا الإنسان : حيوان ناطق . وفي التعريف السابق للفعل، سلك ابن مالك مسلك التعريف بالرسم، بحيث إنه لم يأت على ذكر ماهية الفعل، واكتفى بذكر خواصه التي تميزه عن قسيميه: الاسم والحرف، فخواص الفعل هي: تاء الفاعل، تاء التأنيث الساكنة، ياء المخاطبة، نون التوكيد، فهذه الخواص لا تحكي شيئا عن ماهية الفعل و حقيقته، ولكنها تميزه بما هو خارج ذاته وفي الوقت نفسه لازم له، تماما كما هوالشأن بالنسبة ل"ضاحك" في قولنا :الانسان: حيوان ضاحك . هذا مثال على مبلغ الدقة في التعريف عند المتقدمين، وهذه الدقة مصدرها تشبع المتقدمين بالثقافة المنطقية التي أسعفتهم كثيرا في تحقيق مطالبهم العلمية، وأكسبتهم صرامة لا ينكرها إلا جاحد، ولعل الأمر كما أشرنا إلى ذلك لا ينحصر في حقل معرفي بعينه في تراثنا العربي، بل يكاد يمتد إلى سائر الحقول المعرفية . ثبت إذن من خلال ما سبق ما يلي : 1- إن المتقدمين كانوا على وعي بخطورة المفاهيم، ولهذا قالوا "الحكم على الشيئ فرع تصوره " وهي قاعدة على جانب كبير من الأهمية. 2- إن المتقدمين ميزوا بين الدلالة اللغوية للفظ والدلالة الاصطلاحية. 3 - إن المتقدمين تنبهوا إلى إمكانية اختلاف دلالة المصطلحات بين حقل معرفي وآخر، ولهذا ألفوا في اصطلاحات الفنون. 4 - إن المتقدمين توسلوا بالآلة المنطقية الأريسطية حرصا منهم على ضبط المفاهيم، وقد أسعفتهم كثيرا في تحرير مطالبهم وتحقيقها. 5 - إن المتقدمين اعتمدوا مختلف أنواع التعريف الأريسطي. - فوضى المصطلحات عند المحدثين: إذاكان " الحكم على الشيئ فرع تصوره " كما تواضع على ذلك المتقدمون، وهي قاعدة بديهية التزم بها علماؤنا الكبار في التراث العربي ،وأسسوا عليها مطالبهم العلمية، فإن المحدثين، وفي غمرة الفوضى الاصطلاحية الكاسحة، لم يلتفتوا إليها، بل لم يعملوا بمقتضياتها، وهذا جر عليهم الكثير من التخبط والضبابية في الرؤية والتهافت في استعمال المصطلحات . سأورد هنا جملة من المفاهيم التي تتداول على نطاق واسع والتي تستعمل كيفما اتفق دون مراعاة للمرجعية، ولأبسط الأساليب العلمية . الحريات الفردية: شاع في السنوات الأخيرة استعمال هذا المصطلح، من قبل بعض أدعياء الحداثة، ولعل السؤال الأول الذي يفرض نفسه: ما المرجعية التي يستند إليها هؤلاء الأدعياء عندما يستعملون هذا المصطلح؟ فالمصطلح لا تستقيم دلالته إلا داخل مرجعيته، وهو ما سماه المتقدمون "اصطلاحات الفنون" هل هؤلاء الذين يستعملون هذا المصطلح يشيرون إلى مرجعيتهم ؟ هل يحددون المجال المعرفي الذي يمتحون منه ؟ هل يتحدثون انطلاقا من مذهب معين واضح المعالم ؟ أسئلة تبقى معلقة، ذلك أن معظم من يجري المصطلح على ألسنتهم هم جهلة لا يعرفون من الثقافة الحديثة إلا القشور، وبذلك اجتمعت فيهم السوأتان :سوأة الجهل بالتراث، وسوأةالجهل بالثقافة الحديثة، فصارت المصيبة أعظم. مصطلح "الحريات الفردية "مصطلح مركب، وبتعبير المناطقة هو مصطلح مقيد وليس مطلقا، وذلك لأنه يتألف من كلمة "الحريات " مقيدة بصفة "الفردية ". ولنا أن نتساءل: ماالذي يمنع أن يكون الفرد حرا؟ هل الإسلام يصادر حرية الفرد؟ أوليس الإسلام هوالذي يكفل حرية الفرد في أسمى وأبهى معانيها؟ أوليس الفرد في عبوديته لله عز و جل يمارس أقصى أنواع الحرية أمام غير الله؟ أوليست الحرية كامنة في العبودية لله ؟ الحرية إذن لاتتعارض إطلاقا والعبودية لله، بل العبودية للخالق سبحانه وتعالى هي منشأحرية الفرد. هكذا نفهم الحرية، نحن المسلمين، انطلاقا من مرجعيتنا، وأؤكد على كلمة مرجعية لأنها ضرورية جدا لصوغ المفاهيم وتحقيق المطالب. أما بالنسبة لأدعياء الحداثة، فهم لا يحددون المرجعية التي يستندون إليها في دعاواهم، فهم يدافعون عن "الحريات الفردية " وقصارى همهم إشاعة الانحلال الخلقي، والتحريض على الرذيلة وتبخيس المقدسات، والدعوة للإفطار العلني في شهر رمضان المبارك، وإلغاء عقوبة الزنا والسكر، والتطبيع مع الشذوذ الجنسي والسحاق،وتعطيل الدين في كل مناحي الحياة العامة والخاصة . هذا قصارى مايفهمه هؤلاء الجهلة من مصطلح "الحريات الفردية"، فهم أولا لا يمتلكون مرجعية فلسفية واضحة المعالم، وثانيا يتحدثون خارج مايسميه الفيلسوف د.طه عبدالرحمن " المجال التداولي العربي الاسلامي" لقد أوضحنا أن المفاهيم ترتبط بالمرجعية التي على أساسها يتم إنتاجها، أما عندما تغيب المرجعية فإن المفاهيم تصبح عرضة لما يسميه د.عبدالوهاب المسيري رحمه الله "السيولة "، والمقصود أنها تفقد شرط الجمع والمنع بحيث تتسع لكل شيئ. الحداثة: هذا المصطلح يستعمل على نطاق واسع من قبل جمهور عريض من "المثقفين"، ولا بد من التنبيه هنا إلى أنني لن أعرض للمساعي الجادة الرصينة للتأسيس لهذا المفهوم داخل المجال التداولي العربي الإسلامي، كما هو الشأن بالنسبة للفيلسوف الألمعي الدكتور طه عبدالرحمن، فلا إشكال مع هذاالمنحى العلمي؛ إنما الإشكال مع الاتجاه الغالب في أوساط "المثقفين" الذين يفتقرون للحس العلمي، ولأبسط شروط إنتاج المفاهيم أو بناء الاستدلالات، ومصدر الإشكال هو مايلي : 1 الحداثة مرادف للقطيعة مع التراث العربي. 2 الحداثة هي خرق الثوابت الدينية. 3 الحداثة هي استنبات الآخر في التربة العربية الإسلا مية. 4 الحداثة هي أن يصبح كل شيئ نسبيا، بمعنى نفي المطلقات. 5 الحداثة هي الحق في الاختلاف، وفي إبداء الآراء في أي قضية كانت بدون رقيب أو حسيب. هكذا يفهم" دعاة الحداثة" هذا المصطلح، والذي يمكن تسجيله هنا بهذا الخصوص : أولا: إن الغالبية العظمى من هذه الشريحة ليست على اطلاع واف بالظروف التي أنتجت هذه الحداثة في الغرب الامبريالي. ثانيا : إن الغرب الامبريالي عندما يروج لهذا المفهوم ولغيره من المفاهيم كالحرية والمساواة وحقوق المرأة، إنما يقصد بذلك استكمال فرض التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية على الدول الأخرى، بوصفه المركز وبوصف الدول الأخرى مجرد هوامش، وإلا فنحن نسأل : ماذا جنت هذه الدول المتخلفة من هذه الحداثة، هل ثمة تنمية اقتصادية؟ هل ثمة اكتشافات علمية كبرى؟ هل ثمة سيادة لهذه الدول المتخلفة على مقدراتها وثرواتها ؟ لقد دلت التجربة أن الغرب الاستعماري ليس همه حرية الشعوب ولا حداثة الدول ولا كرامتها، بل همه الأوحد أن تدور هذه الدول المتخلفة في فلكه وأن تأتمر بأوامره، وتنصاع لمصالحه. بناء عليه فالغرب الاستعماري بوصلته هي مصالحه، ولا يهمه بعد هذا حرية أو حقوق إنسان أو حقوق المرأة، أو ماشابه من الدعاوى الفارغة من المصداقية، وإلا فالمنطق يقول إن أشنع الجرائم ضد البشرية هي التي ارتكبها هذا الغرب الامبريالي، وهذا أمر بديهي لا يحتاج إلى استدلال لأن الوقائع والتجارب تؤكد ذلك. ثالثا: إن "الحق في الاختلاف" ليس، كما يفهمه أدعياء الحداثة، حقا مطلقا لكل من هب ودب في الإدلاء بدلوه في أي مسألة شاء، وإن لم تجتمع فيه الشرائط، فهذا ليس حقا في الاختلاف، بل هو دعوة صريحة للفوضى، وإلا فكيف يحق للجاهل بأمر ما أن يدلي بدلوه فيه، والقاعدة تقول : "الحكم على الشيئ فرع تصوره "، فكيف يحكم جاهل على ما يجهل، وهذا حال الغالبية العظمى من أدعياء الحداثة، فهم يهاجمون الدين والمقدسات من موقع الجاهل بالدين، فهل يسوغ لمن هو على هذه الشاكلة أن ينتقد الخطاب الديني متذرعا بمقولة "الحق في الاختلاف"؟ رابعا: هؤلاء الأدعياء وهم في آخر المطاف ليسوا سوى دمى يحركها الغرب الاستعماري يقعون في تناقضات عجيبة غريبة، وما ذلك إلا لجهلهم بأبسط المعارف المنطقية، فقد جرت العادة عندهم أن يرددوا العبارة التالية : "كل شيئ نسبي"، وهي عبارة يهدفون من وراء استعمالها إلى إلغاء المطلقات والثوابت محاولة منهم للنيل من الخطاب الديني القائم على الثوابت والمطلقات، ولكن جهلهم الفاضح بالمنطق أوقعهم في تناقضات صارخة، فهم من ناحية يستندون إلى هذه المقدمة لإبطال المطلقات، ولكنهم من حيث لا يشعرون يقعون في المحذور، فالعبارة في حد ذاتها تفيد الإطلاق لأنها مقدمة كلية موجبة كما يقول المناطقة، ونظيرها قولك "كل إنسان حيوان"، فهذه كلية موجبة تفيد الإطلاق، لأن المحمول فيها يستغرق الموضوع، ومعنى استغراق الموضوع أن كل أفراد الموضوع داخلة في المحمول، وهي بناء على ذلك تفيد الإطلاق . فقولهم: "كل شيئ نسبي" هو من هذاالقبيل، فالعبارة هنا كلية موجبة تفيد الإطلاق، فقولنا: ( كل x y ) معناه منطقيا أن y تستغرق كل أفراد x و لايخرج عنها فرد من أفراد x ونحن نسألهم بناء على هذا، كيف تنفون المطلق بالاستناد إلى عبارة تفيد المطلق؟ أليس هذا ضربا مكشوفا من التناقض؟ هذا على مستوى الصيغة، أما على مستوى ما يقصدون إليه من أغراض فنحن نسألهم، هل القضايا التالية مطلقة أونسبية : أ النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. ب المعلول لا بد له من علة. ج الكل أكبر من الجزء. د الشيئ لا يمكن أن يوجد في مكانين مختلفين في الوقت نفسه. هذه بعض القضايا العقلية البديهية، فهل هذه القضايا مطلقة أو نسبية؟ أما إذا قالوا إنها نسبية وليست مطلقة، فمعنى ذلك أن قواهم العقلية سقيمة،ومن كان هذا حاله فمفاتشته مضيعة للوقت. الخلاصة: أدعياء الحداثة يقعون في أخطاء فاضحة على مستوى استعمال المفاهيم، وعلى مستوى الاستدلال، فلا هم يحسنون تعريف المفاهيم، ولا هم يحسنون بناء استدلالاتهم، وذلك يعزى إلى فقرهم المعرفي الكبير، وعدم اطلاعهم على الآلة المنطقية التي قال عنها حجة الإسلام أبو حامد الغزالي : "من لا يعرف المنطق فلا ثقة في علمه " وبناء عليه فلا ثقة في ما يقوله هؤلاء "الحداثيون"، لأن معارفهم هشة لا ثقة فيها . ولعل أول ما يستشنع عليهم أنهم لا يمتلكون مرجعية واضحة المعالم، أي قاعدة معرفية تحدد مصطلحاتهم ومقاصدهم، وغياب القاعدة المعرفية يفتح المجال للفوضى والسيولة على حد تعبير الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله تعالى. يضاف إلى ذلك أن المقدمات التي يبنون عليها آراءهم هشة تنتقض بسهولة بالنظر إلى غياب الإطار المرجعي الواضح، وضحالة الأفق المعرفي . اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. الدكتور عبدالقادر لقاح أستاذ النحو واللسانيات كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة.