في ذكرى رحيل الشاعر الكبير محمود درويش اعيد نشر هذه المقالة التي كتبتها في ذكراه الأربعينية لست أدري كلما علمت بوفاة شاعر مجيد إلا وأحسست: أن كوكبا مضيئا من هذا الكون قد انطفأ... وأن الظلمة قد أُعلنت في المساحة الشاسعة التي احتلها... وفي كل شبر ضيق تسللت إليه كلماته ثم طلعت منه ثانية في شكل نبات سماوي أريجه حروف... فليس غريبا أيها السادة أن نقارن الشعراء/الحكماء بالكواكب خاصة منهم الذين كانت أولى كلماتهم لا وآخر كلماتهم لا... كم كان الخبر موجعا مفزعا مروعا... وكأن النفس الشعرية «المحمودة» خرجت من أجساد كل الأجيال التي وشمها بحرفي اللام والألف الشامختين.. و التي كم تجرعت قوافيه و معانيه بلدة ولهفة... و جرت مجرى الدم في شريانأحمد العربي ومجرى الدمع في عيون ريتا العسلية وشخصت الأبصار في صورة محمد الدرة ... الى ان انكسرت كل المرايا في وجهنا فجأة.. غفلة.. خلسة ... ولم تُترك لنا ولو فرصة قصيرة لنتهيأ للحظة الوداع.. فأي مأزق هذا الذي ظلت فيه الحسرة أقوى من العبارة.. ولم يعد لنا من طريق نتحسسه غير البداية... ما دام لكل قارئِ له بداية... ولكل ميلاد وعيٍ بهمومه قصيدة... ولكل مدمنٍ لأشعاره أمسية ... ولمسجلاتنا الصغيرة -التي كانت تصدح بصوت خليفةو بقهوة وخبز جميع الأمهات- ذكراها أيضا .. كم تخيلناه وتخيلنا مرارة الفراق التي كنا نرهبها/ نخافها لأنا كنا لا نريد أن نَحِنَّ ولو لظفر من ظفر تلك الأم التي ربَّانا على حنانها فما بالك أن نحن لقهوتها وخبزها وصدرها ودموعها وفرحتها وجفنها الذي لا ينام إلا على عربدة مفتاح الباب الخارجي كي تتأكد بأنا رجعنا إلى حضنها سالمين... وكبرنا وكبرنا وكلما كبرنا اقتربت لحظة الفراق أكثر وغاب وجه الأم ولازالت قصيدته تلازمنا بحقيقتها وألمها ... ثم جاءت أوراق زيتونه لتمرغنا بدم القضية وأينعتْ فينا وعيا جديدا حين حدَّثَتْنَا: عن إنسان وضعوا على فمه السلاسل ... واخذوا طعامه والملابس... وطاردوه وطردوه من كل المرافئ... و اتهموه بكل شيء فهو القاتل والسارق واللاجئ حتى دمت عيناه وكفاه... لم يكن ذاك الإنسان إلا أنت أيها الشاعر الغائب/الحاضر درويشالذي تحققت فينا نبوءة حباتك فأصبحنا سنابل ملئ بشعرك تنحني كل صباح تواضعا لبحر كلماتك... و حوْلَنَا ظلك العالي يؤجج رؤيا البشاعة التي تركتنا لها... ها أنت تسمع أيها الشاعر العظيم بأنه ليس لنا من كلمات الرثاء غير بضاعتك التي نردها لك لأنك لم تترك من اللغة شيئا إلا وقرضته شعرا أو استهلكته نثرا..ولم تترك حتى فضلاتها لنعبر لك عما نعانيه برحيلك.. وعن أي رحيل أصلا سنتحدث؟ وأنت نفسك انتصرت على موتك بمقدار كلماتك وكل من صدق موتك فأكيد انه لم يقرأك أو لم يفهمك أو لم يحفظك...