هؤلاء يستغلون أجواء الديمقراطية والحرية في بلدان كثيرة ليحاربوا تلك القيم نفسها الشيخ عبد الله النهاري، الذي قرر الوكيل العام للملك متابعته بتهمة التحريض على القتل بعد فتواه التي دعا فيها إلى هدر دم الصحافي المختار الغزيوي، سافر للمرة الأولى إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لقضاء رمضان هناك. بصحتو... ولو أننا تعودنا عادة على سماع أخبار مشايخ المسلمين يقضون رمضان في مكةالمكرمة لقضاء مناسك العمرة. شيخنا المبجل فضل قضاء رمضان في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهذا حق له وحرية شخصية لا يمكننا أن نحاسبه عليهما. لكن سفره الأمريكي يثير مع ذلك بعض علامات الاستفهام التي تستحق أن نطرحها. إنها سياسة الكيل بمكيالين. أمريكا عدونا اللدود. إنها تساند الصهاينة. تكره المسلمين. أمريكا شيطان مارد تجب محاربته. أمريكا أخطبوط يهدد الإسلام والمسلمين. أمريكا، زعيمة الغرب، بلد الرذيلة والفساد وانهيار القيم الجميلة.... أمريكا العدو تتحول فجأة إلى بلد ضيافة نقوم فيه بالدعوة أو نستفيد منه سياسيا أو إعلاميا. كُرْهنا الدائم لهذا العدو اللئيم الذي نرفع ضده الشعارات، لا يمنعنا طبعا من التعامل معه متى كان ذلك في صالحنا، أو متى كان الأمر في خدمة أهدافنا الدعوية و/أو السياسية و/أو الإعلامية، حتى تلك المتطرفة منها. الشيخ الوجدي يوجد في الديار الأمريكية، لأنه، حسب الأخبار المتداولة، قرر تقديم خطبه هناك، وإرشاد مسلمي بلد العم سام إلى الطريق الصحيح. هل سيطالبهم هناك أيضا بقتل من لا غيرة له؟ هل سيدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله لنصرة دين الإسلام ضد العدو الأمريكي الذي هو في ضيافته، كما يفعل في بلده المغرب؟ هذه ربما إشكالية الديمقراطية والحرية اللتين تنعم بهما بلدان مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وغيرهما. باسم قيم الحرية والتعايش السلمي بين مختلف الديانات والأعراق والأنساب، يُنَظّر متطرفون كثيرون ضدها. باسم العلمانية وباسم حق الأقليات في ممارسة شعائرها وباسم حرية المعتقد، يطالب البعض بقتل هذه القيم نفسها. العلمانية المطبقة في بلدان غربية كثيرة ورياح الديمقراطية والحرية (بما فيها حرية المعتقد) هي التي تسمح للمسلمين في هذه البلدان بممارسة شعائرهم، بل وبالدعوة إلى الإسلام في تلك البلدان. هكذا، نسمع باستمرار عن أشخاص تحولوا إلى الإسلام في مختلف البلدان الغربية وعن مشايخ وأئمة يخطبون في الناس. قيم الحرية والديمقراطية والعلمانية هي التي سمحت في شهر يونيو بتدشين مسجد محمد السادس بمدينة سانت إيتيان الفرنسية، ومساجد أخرى كثيرة في بلدان علمانية أخرى، لا تخاف على زعزعة عقيدة سكانها. قيم الحرية تلك هي التي لا تعتبر صيام رمضان من طرف مسلمي تلك البلدان تهديدا لعقيدة المسيحيين المقيمين هناك، (لكن تلك خصوصيتنا المغربية الجميلة التي لا يمكن أن نصدرها لأحد، لأننا نحتفظ في شأنها بحق حصري لا ينازعنا فيه أحد). قيم الحرية والعلمانية والديمقراطية هي التي تسمح للأئمة والمشايخ المسلمين بتقديم خطبهم، سواء منها المعتدلة أو المتطرفة، في مساجد وفضاءات عمومية كثيرة. الحرية والعلمانية والديمقراطية، شأنها شأن أمريكا، كلمات عدوة وقيم شيطانية، كلما أردنا تطبيقها في بلداننا المسلمة. قيم ستنشر الفساد والرذيلة وستهدد قيم الإسلام وأخلاق المسلمين. لكنها تصبح فجأة قيما إيجابية حين نستفيد منها لنشر ديننا أو حتى فتاوانا المتطرفة. سألت يوما إماما مسلما مقيما في بلد أجنبي، اعتبرت خطابه متطرفا، كيف تنعت هؤلاء بالكفار، وأنت تقيم في بلدهم، تنعم من خيراتهم وتستفيد من حريتهم... سألته لماذا لا يقيم في بلد مسلم لا يرى فيه مظاهر الفساد والرذيلة التي تزعجه في تلك البلدان الشيطانة والشيطانية. أضفت حينها أنه، باستغلاله لبعض موارد البلد، يستفيد من مال حرام حسب وجهة نظره... كان جوابه عبقريا، عبقرية سفر شيخنا النهاري إلى أمريكا: "أموال وممتلكات الكفار حلال علينا"... نماذج مثل هذا الإمام الجليل وغيره كثيرة. تستغل أجواء الديمقراطية والحرية في بلدان كثيرة، لتحارب تلك القيم نفسها. نماذج لا ترهبها الحرية حين تخدم التطرف؛ نماذج لا تحارب العلمانية حين تسمح لها بممارسة حقها في الاختلاف؛ لكنها ترفضها حين تسمح بممارسة الحق نفسه في الاختلاف في بلدانها الأصلية... نماذج استغلت أجواء الحرية في تلك البلدان لتدمرها من قلب حريتها (لنتذكر التفجيرات الإرهابية في عواصم مثل مدريد، لندن، نيويورك...). نماذج تستغل الحرية لتنظر وتؤسس للعنف والإقصاء... نماذج لم تفهم أن الحرية وحدها تعطي للممارسة الدينية طابع النضج والاختيار، وبالتالي، أبهى تجلياتها وأصدقها.