إلى كل من لا يهمه أمر تعليمنا، و إلينا نحن جميعا.... ذ.إبراهيم تيروز إن الانحسار و الانسداد الذي بات يعتم آفاق إصلاح حقيقي للتعليم المغربي، ليدعونا لمراجعة الوضع القائم ومساءلته مساءلة جذرية، هذا الوضع الذي يبدو انه ورغم كل المساحيق الاستعجالية أو" الاستعجاجية" على حد تعبير أحدهم لا يزداد إلا تفاقما وتأزما، إذ تقذف الشعارات المجلجلة والمخططات المهللة من هنا ومن هناك، ولا تفعل من شيء سوى أن تزيد الوضع سوءا و البركة الراكدة ترديا. إن الأمر يقتضي جرأة فلسفية من نوع ما، بحيث نستطيع القطع مع الضجيج واللغط الحالي المرتبط بأوضاع تعليمنا وسبل معالجتها. فلماذا كلما تحركت عجلات الإصلاح كلما غاص تعليمنا في أوحال الأزمات أكثر؟ و ما حقيقة هذا التعثر المتفاقم ؟ وكيف يمكن بلوغها؟ وقبل ذلك هل لدينا الإرادة الصادقة لامتلاك تلك الحقيقة؟ أم لا؟ وهل يتواجد الخلل في الحقيقة التي تستنير بها إرادتنا في الإصلاح؟ أم يكمن الخلل أصلا في إرادة الإصلاح لدينا؟ إذ سيكون حينها الخلل في الحقيقة التي تستنير بها هذه الإرادة مجرد تحصيل حاصل. 1- الخلل في الحقيقة التي توجه إرادة الإصلاح: ا- التصور العام: إن الاشتغال على إصلاح التعليم ضمن المستوى الوزاري أو الحكومي يجب أن يكون منبنيا على روح مؤسسية عميقة و شاملة، ذلك أن عدو المخططات ضمن أي مجال سياسي أو اجتماعي هو ما يتمثل بالأخص في نزوعات الأفراد وتوجهاتهم الخاصة. والمتأمل في صفحة مشاريع إصلاح التعليم المغربي لا يملك إلا أن يرجح الكفة الأخيرة على التي سبقتها، ألا وهي كفة التعويل على النزعات الفردية بدل التعويل على الهيكل المؤسسي. قد يكون قولا من هذا القبيل في حاجة إلى التدليل عليه، خصوصا و أنه يتضمن حكما بهذا الحجم. ولكن وحيث أن الأمور تعرف بخواتمها وحصيلتها النهائية، فلا شك أن الهيكل المؤسسي لتعليمنا لا زال مشروخا تخترقه النزعات الفردية من كل حدب و صوب. وما يثبت هذا القول أكثر، هو أن العديد من مواقع الهدر والتسرب والاختلال في جهازنا التعليمي - وهي مواقع شديدة الحساسية والخطورة- لا ترصد لها الوزارة الوصية ولا تجند سوى ما دأبنا على تسميته بالحبر على الورق أو بالوعد والوعيد. ب- معضلة الدخول المدرسي: وحتى لا يكون كلامنا فضفاضا لننظر إلى معضلة الدخول المدرسي المتعثر وبالأخص في الأقاليم الجنوبية،و التي مافتئت تتكرر كل سنة، وفي المقابل مافتئت السلطة التعليمية كذلك تسجل ذلك في مذكراتها، وتعدل من أجله إجراءاتها دونما جدوى تذكر. فلماذا يصاب عقلنا المؤسسي هاهنا بالضبط بالإجداب و بالعقم ؟ ألا يقول مثلنا الشعبي الذائع ما معناه: أن النهار يعرف من أوله؟ فتعليمنا كذلك يعرف من دخوله. فأي رهان سنربح إذا كانت الانطلاقة بهذا التراخي وبهذا الانحلال؟ صحيح أن الوزارة لم تألو جهدا في ضبط حضور الأساتذة والأطر العاملين معهم في الأوقات المحددة، لكنها تناست أن هؤلاء الأساتذة لن يدرسوا سوى الطاولات، لان لا شيء بتاتا يضطر التلاميذ للحضور منذ اليوم الأول، خصوصا وان منطق "إذا عمت هانت" هو ما يحرك التمديد الجماعي لعطلة الصيف. فأين هي الحملات الإعلامية التي من شأنها حث الرأي العام عموما، والآباء بشكل خاص، على إنجاح الدخول المدرسي؟ ومتى ستستحي القناة الأولى وتكف عن تصوير الدخول الناجح والمبكر ببعض المدارس دون أن تشير إلى أن الأمر يتعلق بمدارس خاصة؟ وكأنها تحاول إيهامنا بأن كل شيء على ما يرام، وفي الوقت نفسه تروج بشكل مستتر للتعليم الخاص؟ وقبل ذلك أين هو دور قناة العيون الجهوية بهذا الشأن؟ و أين هي الإجراءات القانونية الرادعة لمثل هذه اللامبالاة الجماعية من طرف التلاميذ وأوليائهم في التعليم العام؟ هل أصيب عقلنا المؤسسي بالإجداب إلى درجة أن لا يفكر على سبيل المثال لا الحصر في : إصدار مذكرة تنص على تكرار التلاميذ العشرة الذين كانوا آخر من التحق بالمؤسسة، بعد مضي أكثر من ثلاثة أيام على الدخول المدرسي، وبدون سبب قاهر ومؤكد، ومثلا في حالة المرض على ولي الأمر إحضار شهادة طبية بنفسه، موقعة من ثلاثة أطباء على الأقل. كما يمنح كل المتأخرين في الالتحاق 0 في المواظبة والسلوك دون استثناء. ج- معضلة الغش: و إذا انتقلنا إلى معضلة أخرى أفظع واشد هولا ألا وهي الغش، الذي عرف تفاقما ملحوظا، خاصة في الثانوي منذ التخلي عن نظام الامتحانات السابق ومع بداية وصول تكنولوجيا الاتصال الحديثة المتمثلة في الهاتف النقال. فلا يخفى على أحد أن مجرد وجود إمكانيات للغش، من شأنه أن يدمر مختلف جوانب وأسس العملية التعليمية، إذ بالفعل سيتدنى لا محالة مستوى اهتمام التلاميذ بالدروس، وستصبح علاقتهم بالأستاذ علاقة عداء، كلما كان أكثر جدية في دروسه وأكثر التزاما بمحاربة الغش. فلماذا لازالت سلطتنا التربوية تراهن على ضمير المدرس وهمته وحزمه ودهائه ؟ لماذا لا تولي هذا الأمر الاهتمام المؤسسي الذي يليق به؟ لماذا لا تمنع ستر الأذنين أثناء الامتحان ؟ فماذا عسى الأستاذ أن يفعل إزاء التلميذات المحتجبات أو التلاميذ الذين يطيلون شعرهم وينكشونه؟ هل يعتمد على رادار تخمينه الشخصي؟ ولماذا لا تفكر الوزارة في تحميل شركات الاتصال جزءا من المسؤولية على الأقل، قصد إمدادها بأجهزة تتحكم بها في الشبكة داخل المؤسسات التعليمية؟ ألا يمكننا التوجس من أن تكون هذه الشركات تتحين الفرصة للنزول بعروضها المغرية في الامتحانات الرسمية وذلك للزيادة في مبيعاتها؟.... هذه أسئلة مثل سابقتها لا نطرحها للقطع بحقيقة ما ولكن بالأساس لتوجيه التفكير في اتجاهات يبدو أنها مطموسة أو منسية تماما. د- معضلة العنف: ولعل ما جعل الغش يستفحل إلى هذه الدرجة هو معضلة أخرى أنكى واشد بأسا من الأولى، إنها معضلة العنف التي باتت تتربص بأساتذة التعليم خاصة الإعدادي والثانوي. ألم يعد مدرس اليوم يبحث عن سلامة يومه لا أقل ولا أكثر؟ أي صار يبحث كما يقول المثل " عن سلة بلا عنب"؟ لقد كان التلاميذ بالأمس معصومين نسبيا من العنف ضد أساتذتهم بفضل تأصل مزيج من الاحترام والخوف فيهم. أما اليوم فالحبل متروكة على الغارب، إذ لا خوف ولا حياء، خاصة بعد أن تنصلنا من جزء ليس بالهين من رأسمالنا القيمي التقليدي، دون أن نعوضه بما يملأ مكانه ويحول بين التلاميذ واستضعاف المدرسين، أي أن نعوضه بزاد معرفي يشدهم إلى الطريق السوي. كما تم التخلي عن السلطة العرفية للأستاذ وما كانت ترتكز عليه من عنف، دون أن تعوض بهيكل مؤسسي يمنع هذه الانفلاتات، و التي تحول معها التلميذ من الضحية إلى الجلاد للمدرس، و من ثمة لنفسه ولمجتمعه في نهاية المطاف. فبماذا عوضت المؤسسة التعليمية عنفها القديم المعتمد على الضرب؟ وهل التعويل على الخطاب الفكري ونظيره الوجداني كفيل بالحد من زحف العنف الحالي؟ و هل يمكن للمؤسسة أن تستغني عن العنف تماما؟ أم أن المؤسسة مجرد تحويل للعنف من طابعه الشخصي إلى طابعه المؤسسي؟ ألن يصنف أي اشتباك للتلميذ بالأستاذ بجريمة تبادل الضرب والجرح، وهي جريمة قد يصبح معها المسار المهني للمدرس على كفة عفريت في ردهات المحاكم؟ أليست بهذا، باتت كفة التلميذ راجحة قانونيا في علاقته بالأستاذ ؟ ألن يخاف المدرس من عواقب هكذا حادثة وان كان مجرد ضحية ؟ وماذا عسى المدرسين أن يفعلوا في الثانويات التي تستقبل تلاميذ من الأحياء الحبلى بالعنف والإجرام والمخدرات ؟ ماهي الحماية الخاصة التي وفرتها لهم الوزارة لإنجاح مهمتهم؟ ه- الإصلاحات غير تراكمية: أما كان من الأجدى ترك المنظومة التعليمية كماهي و تجنيبها هذه التراجعات المهولة وتجنيب ميزانية الدولة كل هذه الخسائر التي تكبدناها دون جدوى؟ ألم تسجل هذه الخيبة تقارير دولية، والتي اقل ما يزكيها التوافد المكثف للتلاميذ على المكتبات، قبيل الامتحانات، لتصغير الدروس بأحجام ميكروسكوبية؟ أما كان من الأفضل عدم التضحية بالخبرة التي راكمها كل من الأساتذة والتلاميذ والإدارة والآباء في التعاطي مع المنظومة كما كانت سابقا؟ إننا هنا نقف عند إحدى المشكلات الخطيرة التي لا يفوتنا التنبيه إليها، ألا وهي أن إصلاحاتنا غير تراكمية، فالتغيير على مستوى المقررات في هذا الإطار لا يأتي كتنقيح أو كتقويم وإصلاح وتعديل، يحتفظ بحسنات المقرر السابق ويتخلص من سيئاته، بل يأتي بمقرر مواز، قد يحتوي على حسنات جديدة، لكنه يسقط في الآن نفسه بعض حسنات المقرر السابق متضمنا عيوبا جديدة. فهل كان مجديا هذا التغيير الذي عرفته المقررات أم انه لم يتعدى كونه أرباحا إضافية لزمرة من المطابع؟ وهاهو على سبيل المثال لا الحصر مقرر الفلسفة للسنة النهائية من الباكالوريا خير شاهد على ذلك إذ تم تقديم مقرر اقل تماسكا من الناحية المنهجية من سابقه و أكثر افتقادا للمنطق الناظم لتسلسل الدرس داخله. وكأن المراد منه زيادة جرعات التعجيز و تياهان التلميذ بين أحضان هذه المادة. وحتى لا يكون كلامنا هذا مجرد حكم أجوف فأهم مهارة يتعلمها التلميذ من الفلسفة -ألا وهي القدرة على بناء الإشكالية- نجد هذا المقرر يقدمها جاهزة ماعدا أن يسبقها ببعض الكلام المهلهل والفضفاض دون أن يتبين كيف ولدت منه منطقيا. في حين كان المقرر السابق أفضل من هذه الناحية فعلى الأقل يستدرج المتعلم إلى التقابلات والتناقضات التي تسكن المفهوم موضوع الدرس ومن ثمة إلى الإشكالية. إن ما شخصناه سابقا يؤكد أننا نعيد إنتاج أزمتنا ضمن دوامة هدر شاملة وكأننا نحرق الأخضر لنغذي به اليابس الميت. فلماذا تسير إرادتنا الإصلاحية الوطنية في اتجاه مضاد لها هي نفسها؟ ألا تكاد تكون الإصلاحات المتوالية لقطاع التعليم مجرد: " زيادة للشحم في ظهر المعلوف" وبمعنى أدق مجرد صفقات ربح منها الفائزون بها أكثر مما ربحه التعليم نفسه إن لم تزده سوءا؟ فهل كان على سبيل المثال مجديا هذا التغيير الذي عرفته المقررات أم انه لم يتعدى كونه أرباحا إضافية للمطابع؟ و- العقل المؤسسي المغربي: إننا نخلص من الأمثلة السالفة - وددت لو أقول السافلة - إلى أن العقل المؤسسي الذي تشتغل به السلطة التربوية لدينا جامد ولا يتطور إلا ظاهريا، لأنه لا يفكر في المعضلات ومكامن الانفلات مؤسسيا وإنما شخصيا، أي بالمراهنة على إرادات الأطر و الأفراد واجتهاداتهم الشخصية. وهي اجتهادات إذا أردنا أن نقيسها وان نعرف ماذا ستطال؟ وكم ستطول؟ ما علينا إلا أن نقف في عطلة من العطل المدرسية أمام مديرية الموارد البشرية، لنرى بأم عيوننا جحافل من رجال التعليم، عبروا خريطة المغرب طولا و عرضا، آملين أن يعيرهم زملاؤهم في الداخل قليلا من الاهتمام والتعاطف لتحريك وضعياتهم الإدارية المجمدة. والسؤال العريض الذي يمكن أن نقرأه بوضوح في وجوه هؤلاء: أين هو دور النيابات والأكاديميات المزعوم؟ ولماذا لا تكفي الشكايات المسجلة في موقع المديرية الالكتروني؟ أي وباء هذا فشلت معه التكنولوجيا المعاصرة ليضطر موظف مغبون إلى تكبد سفر ماراطوني لقطع آلاف الكيلومترات؟ و أين تذهب طلباتنا الكتابية؟ هل من الضروري إلى هذا الحد أن نقتفى أثرها للحث على النظر فيها؟ ألا يسد ذلك في وجوهنا الأبواب، لنسقط في براثن التزلف للوساطات المشبوهة وغير المشروعة، للنظر في وضعياتنا الضائعة في دهاليز تلك المديرية البعبع؟ ألن نغدو بذلك مساهمين في نمو طغمة المتاجرين بأعطال وضعيات المدرسين وشؤونهم الإدارية؟ ماذا سيقاوم هذا المدرس و المركب تتهشم تحت قدميه ؟ ألن يفكر هو الآخر في انتزاع قطعة من ذلك المركب تحميه شر الغرق ؟ ز- وزارة التعليم على متن زورق من أجل "الحريك": هذه جميعا محطات تكشف أن سياستنا التعليمية تنتهج بصورة ما، ما يصطلح عليه المغاربة ب"الحريك" لا بمعناه الحرفي، وإنما بتمديده على سبيل المجاز، ليصبح صنف تكافؤ أو نمط مثالي يضم بين جناحيه ظواهر أخرى كثيرة، مجسدا بذلك الخيط الناظم لها والباراديغم الرابط بينها. فمثلا مافيات الاقتصاد الوطني تقوم بنوع ما من الحريك إلى البرلمان ( بر الأمان) للحصول على الحصانة والحضانة. وكذلك التلاميذ يفرون من المقررات الضخمة والامتحانات التعجيزية عن طريق مراكب الغش. و بالمثل يمكن القول بأن السلطة التعليمية ببلادنا تستنجد بهمم الأفراد لتواجه ثغرات المؤسسة الفجة. ألا تركب بذلك مركبا أو زورقا هشا طامحة إلى تجاوز الأمواج المتلاطمة، إلى شاطئ تعليم جيد؟ إن ذلك هو عين الحريك أي هدر الطاقات الوطنية وإحراقها هباء منثورا، بل في اتجاهات لا تزيد ألا من تعميق الأزمة، خاصة وان المعول عليه الأساس سحب من تحته البساط وقذف بالنعال وبما هو أفظع…. 2-الخلل في إرادة الإصلاح: ا - أزمة القيم: إن كل هذا الكلام يؤكد إننا لا نملك الإرادة الحقيقية من أجل الإصلاح كمجتمع عموما وكسلطة تربوية خصوصا. وينبع أس هذه المشكلة من تخلي مجتمعنا في عمومه عن روح قيمه التي كان قد ورثها بشكل شكلاني دون أن تكون مؤطرة نظريا ومؤسسة فلسفيا و مؤصلة عمليا و هو ما كان سيعطيها الحصانة والمرونة في تلقي واستيعاب صدمة الحضارة الغربية. ومن تلك القيم الشرف الذي كان يحظى به العامل الذي يكد ويجتهد في تحصيل قوت يومه دون غش أو اتكال على الغير مهما حاصرته الفاقة، ومن تلك القيم نجد القناعة والزهد في كماليات الحياة وإيثار فعل الخير ونبذ الإسراف بدون وجه حق. تلك القيم أصبحت غريبة عنا و أصبحنا نتعامل معها بحساسية الماضي المهجور والمتجاوز، خصوصا بعد أن اختزلناها وابتذلناها بما يكفي لتصبح في منظورنا الحالي مضادة للحياة أو لا تعدو أن تكون مجرد عزاء لمن لم يستطع إحراز القدر الكافي من متع الحياة. و حتى نتخلص من تلك الحساسية لنتذكر مثلا الربط الذي قام به رائد علم الاجتماع ماكس فيبر بين نشأة و نمو النظام الرأسمالي الذي سيطرت معه الحضارة الغربية على العالم و بين الأخلاق البروتستانتية وما تقوم عليه من زهد و تقديس للعمل. ولنتذكر من جهة أخرى أن رغباتنا تجرنا أحيانا كثيرة في اتجاه السراب كلما سعينا إليه كلما ازدادت رغباتنا عطشا وابتعادا عن الارتواء، خاصة مع التلاعب النفسي الذي تمارسه الرأسمالية المعاصرة بواسطة الإشهار، لاشراط المستهلك على اللهاث المتواصل خلف المنتجات التجارية الخالية في الغالب من أي قيمة حقيقية. ألا يؤكد هذا أننا في حاجة للسيطرة على رغباتنا، أي باستعادة قيم القناعة والزهد كمناعة ضد استعباد الإنسان؟ ب- الصدق أس القيم المفقود: إن أس القيم هو الصدق و الصدق مع الذات أولا و قبل أي شيء. فالذات التي تضع نصب عينيها و باستمرار تحري الحقيقة في النفس وفي ما حولها، وكلما رأت أنها عثرت عليها انضبطت لها واجتهدت في الالتزام بها، هي حتما ذات تمتلك النية الصادقة في فعل ما هو خير للنفس وللغير. وهذا هو أساس الأخلاق الفاضلة لأن تلك النية الطيبة ستحث على إعمال العقل في اتجاه البحث عن الخير و السعي إليه، لكن دون إعطائه صلاحيات مطلقة بهذا الخصوص، لأن العقل يمكن إن يزيغ وأن يصبح لعبة في يد الأهواء لذا يجب أن تحتفظ الإرادة دائما باستقلاليتها عنه، وبإمكانية تجريب اتجاهات أخرى قد لا تبدو معقولة إلا بعد الانخراط فيها. خلاصة القول إن اهتراء رأسمالنا القيمي والأخلاقي جعل العقل لدينا مجرد أداة طيعة في يد النزوع السلطوي الفاسد والمتفشي بين ظهرانينا، و لذلك كان لزاما حتى نتجاوز سيئات الحاضر، أن نعيد بناء الإرادة بتأسيسها على الصدق و السعي الدؤوب إليه، وبتدعيمها بدعائم الإيمان وتقويتها بعبادة الرحمان، و صيانتها بقيم الزهد والإحسان. ولنبق هاهنا الإرادة كما سبق أن اشرنا مستقلة عن العقل، لأنها إن خضعت إليه كلية فسدت كما إذا خضع هو إليها فسد، و لعل الإنسان ليس إلا ذلك المركب الجدلي منهما معا لا يستوي ولا يستقيم إلا بالحفاظ على استقلاليتهما و على تكافؤ الحوار بينهما. ج- أمثلة للتوضيح: فلننظر بعد هذا الكلام في آفة الغش أليس علاجها القويم يكمن في تقديس وتمجيد الكد والكدح وفي قيم الزهد؟ أليس الغش إنما هو تعبير عن سيطرة للأهواء على النفس ووقوع في إدمان الإسراف في الزائف من متع الحياة، لأن لا متعة أكبر من متعة الإبداع والإنجاز الذاتي والعصامي؟ ألا يقع المتعلم المتراخي والمراهن على الغش للنجاح ضحية الفراغ والضجر، ومن ثمة ضحية فقدان الثقة في الذات، وربما إدمان سلوكات منحرفة لتعويض ذلك الفراغ، مما يجر إلى آلام نفسية أخرى لا مفر منها؟ إن الحياة معادلة محكمة ومن أراد أن لا يتألم بالعمل الجاد سيتألم بالملل والسأم و ما يجرانه من انحرافات و آلام أخرى مضاعفة... ولنتأمل أكثر في أمثلة إدمان الإسراف هذا، وكيف يتحول معها الإنسان إلى عبد لما تجره عليه أهواؤه و نزواته من آلام، فلا هو أرضاها ولا هو ارتضى بتركها. لننطلق من أبسط هذه الأمثلة، ألا و هو مثال المدمنين بشكل مفرط على ازدراد الطعام. وللنظر إلى ما يقعون فيه من سمنة، تجعلهم يعرفون تغيرات فيزيولوجية كتوسع المعدة والأمعاء، مما يزيدهم إدمانا على الطعام ويدخلهم تلك الحلقة المفرغة التي لا مخرج منها إلا بالجهد الجهيد، ليصبحوا مهددين بأمراض عديدة وخطيرة. ولو أن أمثال هؤلاء يلتزمون بما نص عليه ديننا الحنيف: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع" لحافظوا على توازنهم ولما صاروا عبيدا لأوزانهم الثقيلة والموجعة. ولو أن نفس الحديث الشريف طبقناه ليس فقط في الطعام، وإنما تعدينا به إلى النوم والجنس و الترويح عن النفس... لما أصبحنا مدمنين على فسادنا الأخلاقي والقيمي. فمن لا يتوجه إلى النوم إلا إذا أحس بالحاجة الشديدة إليه، وإذا نام فلا يفرط، لا أظنه سيعاني الأرق... ومن لا يقبل على زوجه إلا إذا أحس بوطأة الحاجة إليها، و إذا اقبل لا يفرط ، فذلك سيجعل رغبته فيها لا تنطفئ ، وسيحمي نفسه وأسرته من شرور الخيانة الزوجية وعواقبها. ومن لا يخلد إلى الراحة من عمل أو دراسة، إلا إذا كان في أمس الحاجة إليها، فسيحمي نفسه من أمراض الضجر والكسل وما يرتبط بهما من أمراض صحية ونفسية واجتماعية واقتصادية... د- نحو البديل: إن الزهد في متع الحياة هو وحده ما يحافظ عليها ممتعة و زكية، أما الإقبال الايجابي عليها وحده وبشكل متواصل، يجعلها تفقد طعمها ويجعل النفس تنظر إلى ما هو ابعد منها ( أي إلى التفاحة التي أخرجت آدم من الجنة) ومن ثمة شيئا فشيئا إلى الانحراف عن الفطرة السوية، وهكذا يتحول المرء في حياته إلى ذلك الظمآن الذي يطارد سرابا، كلما ظن انه بلغ ما يروي عطشه، كلما وجد انه إنما زاده عطشا و نهما، وهكذا إلى أن يجد نفسه في ما لا تحمد عقباه. وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)" (الأعراف). إن الذي لا يفقه ديالكتيك الحياة والموت، ديالكتيك اللذة والألم، سينظر إلى الحياة من منظور ايجابي أحادي، ويقع من ثمة في الإسراف القاتل وما إدمان الرشوة و المخدرات و الديون و مختلف أشكال الفساد الاجتماعي في مجتمعنا، إلا صور من ذلك الإسراف البغيض. أما إذا تعاملنا مع الحياة بمزاوجة الإيجاب والسلب ومجادلة الإقبال والإمساك فإننا سنكون قد عانقنا الزهد في معانيه واشراقاته العميقة والسديدة. إن ما نتخبط فيه اليوم من أزمات ليس على مستوى قطاع التعليم وحسب وإنما على جميع الأصعدة من طب و قضاء و أمن... إنما يعود بالأساس إلى أزمة إنسان وأزمة مجتمع، لقد فقد الإنسان المغربي رغبته في الصدق، لأنه انغمس في متاهات حياته اليومية، وانجرف مع تيارها الهادر، وهو عار من كل ما يمكن أن يسنده ويشد عوده، فقيمه منسي أصلها وممحو عقلها، وعقله بالإضافة إلى حاجته العميقة إلى العلم والفكر مسلوبة إرادته وفي كل واد يهيم، تعبث به الأهواء وتأخذه ريحها في كل اتجاه. فهكذا هو المدرس وهكذا هو التلميذ وهكذا هو ولي الأمر أبا وغيره إلا من رحم ربي... فمن أي باب سيدخل علينا الإصلاح و نحن نعمل حرفيا بمثلنا القائل: "جئته بفأس، أعينه بها في حفر قبر أمه ليواريها الثرى، فإذا به هرب لي بتلك الفأس." 3-الحصيلة والخلاصة: إن الأزمة كما شخصناها في هذه الورقة متعددة الأبعاد: فهي عموما أزمة إنسان تاهت بوصلته وخبت إرادته وتاه عقله خلف سراب الأهواء، لا لشيء سوى لأن قيمه تقليدية وغير مؤطرة فلسفيا وغير مؤصلة عمليا بشكل أعمق مما هي عليه. ولأن الحقيقة التي يستنير بها في إصلاحاته مفلسة، ولا تجعله يبصر وضعه الذي يشبه فيه المستجير بالنار من الرمضاء، أو ما اصطلحت عليه عموما ومجازا بممارسة "الحريك". ولأنه من جهة أخرى خضع للاستهداف من طرف الإمبريالية الرأسمالية العالمية سواء عسكريا أو سياسيا أو أيديولوجيا، ولم يكن مهيئا لذلك، مما جعل الأمر يشكل له صدمة. ولأنه من جانب آخر يفتقد التدبير المؤسسي المحكم الذي من خلاله سيحقق القدرة على المراكمة التقدمية أي ما يصطلح عليه بظاهرة الترس و السقاطة، كناية عن القول بان التقدم الذي يحرز لا يمكن التراجع عنه أبدا. و هذا هو جوهر عمل المؤسسة فهي شبيهة بالترس الذي يدور فقط إلى الأمام لأن السقاطة تسقط لتمنعه من العودة إلى الخلف. وهكذا ينبغي أن يكون حراك المؤسسة بأن لا يكون رهينا بتدافع الأفراد بل العكس، تدافع الأفراد هو ما يجب أن يكون رهينا بحراك المؤسسة.... لهذا كان من اللازم أن يعيد الإنسان المغربي بناء إرادته، عن طريق التربية القويمة بذلك، وخاصة بإعادة صقل البعد الديني فيها، وإحياء روحه العميقة والأصيلة، وكذا بالانفتاح على رحاب الفكر والعلم، وبالتشبث بسياسة مؤسسية رصينة ومانعة للانفلاتات الفردانية الهدامة.