رغم مواصلة الجزائر مخططها الإستراتيجي لعزل المغرب إقليميا وجهويا وقاريا.. مباشرة بعد سقوط نظام العقيد الليبي امعمر القدافي، مع سقوط العاصمة طرابلس، بدأ يتبدل واقع تحالفات عدة في إفريقيا، لدرجة أن تمة اليوم نقاشات سياسية حامية، حول استفراد عواصم بعينها (كانت حليفا استراتيجيا فوق العادة لنظام القدافي) بقرارات كبرى تعني كل أبناء القارة السمراء. وهذه العواصم تشمل محور جوهانسبورغ ? لاغوس ? الجزائر العاصمة، التي سعت لجر كل دول القارة الإفريقية إلى موقف تجاه الوضع الليبي ليس محل إجماع بالمرة. مما تسبب في تمهيش دور «الإتحاد الإفريقي» في مؤتمر باريس الحاسم لرسم خرائط طريق تنمية ودعم الشعب الليبي، عبر مجلسه الوطني، في تحقيق انتقال ديمقراطي سلس وآمن. ولعل من أهم القضايا التي بدأت تطل برأسها في عوالم السياسة الإفريقية، وضعية عدد من الملفات التي ليست محل إجماع، وكان للقدافي ونظامه دور في أزماتها. وفي المقدمة منها النزاع المفتعل حول أقاليمنا الصحراوية الغربية، وحصول البوليساريو على مقعد في منظمة «الإتحاد الإفريقي»، ومغادرة المغرب منذ سنوات لهذه المنظمة الإفريقية احتجاجا على ذلك الإعتراف غير المسنود بأي حجية قانونية ضمن القوانين الدولية ذات الصلة، سوى النفوذ القوي للعواصم المنافحة للحقوق المغربية، خاصة محور جنوب إفريقيا ? الجزائر. والجديد اليوم، الذي بدأت تتسرب عنه أخبار متواترة، هو أن عددا من العواصم الإفريقية الوازنة قد بدأت مبادرة فعلية لإعادة الأمور إلى منطقها السليم، من خلال العمل على جمع أكثر من ثلثي أصوات البلدان الإفريقية لعودة المغرب إلى منظمة «الإتحاد الإفريقي»، الذي تتحكم فيه العواصم الأنغلوساكسونية بقوة. وأيضا إلغاء الإعتراف بالبوليساريو ودعم المخطط الأممي لإيجاد تسوية سلمية للمشكل المفتعل. الأخبار الواردة تؤكد أن دكار تتحرك جديا في هذا الإتجاه بالتنسيق هذه المرة مع دول أنغلوساكسونية كانت تعتبر عواصم وازنة في المحور المناهض دوما للحقوق المغربية المشروعة. والتي كانت طرابلس على عهد القدافي مؤثرة فيها سياسيا. وعودة المغرب إلى الساحة الإفريقية تنظيميا، لن يكون سوى ترجمة لتواجد أكثر أهمية اليوم للرباط، بعدد من الجغرافيات الإفريقية اقتصاديا وأمنيا وتنمويا. والديبلوماسية المغربية ملزمة باستغلال جيد للتحولات التي تسجل في القارة السمراء، تبعا للتحولات السياسية المؤثرة في كل الشمال الإفريقي، بما سيقوي من الحضور المغربي في كل المنظمات الإفريقية. علما أن ذلك هو ما سيفشل ميدانيا المخطط الجزائري الإستراتيجي لعزل بلادنا عن محيطه الإفريقي والمغاربي وضمن دول الساحل. التي ليس آخرها السعي الحثيث لفرض واقع أمر أمني مخابراتي جهوي ودولي، تحت يافطة محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة، يترجمها اللقاء الذي احتضنته العاصمة الجزائرية منذ يومين، وأصرت السلطات هناك على عدم توجيه الدعوة لبلادنا للمشاركة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل نجحت الجزائر في مسعاها لتحييد المغرب وتهميشه في هذا الملف الحارق «لمحاربة الإرهاب»، من خلال عدم قبول حضوره في لقاء الجزائر الموسع المنعقد يومي الأربعاء والخميس الماضيين، والذي عرف مشاركة عدد وازن من الدول والمنظمات الدولية ذات الصلة بالملف؟.. أول الجواب ، في الحقيقة، كامن في الإهتمام الإعلامي الدولي بغياب المغرب كطرف وازن في محاربة الإرهاب دوليا، مما جعل الخطة الجزائرية تعطي نتائج عكسية. مثلما أن اللقاء نفسه تعددت التصنيفات حوله من قبل السلطات الجزائرية والصحافة الجزائرية، بين «ندوة دولية» و «لقاء موسع للتشاور» و»اجتماع دولي»، مما يجعل المتتبعين المختصين يحسمون الأمر بأنه نوع من «الندوة المفتوحة لتطارح الأفكار وبلورة أشكال عمل مشترك دولية لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل». وهو اللقاء الثالث من نوعه، بعد لقائي الجزائر في مارس 2010 ومالي في ماي 2011، وتم الإتفاق على عقد لقاء رابع في غضون الستة أشهر القادمة بإحدى الدول التي تطلق عليها الجزائر «دول الميدان»، التي تحصرها في أربع دول من دول الساحل وهي النيجر ومالي والتشاد وموريتانيا، إظافة إلى الجزائر وليبيا وتقصي منها المغرب. المسعى الجزائري، الذي يحاول فرض نوع من الأمر الواقع، يتغيى أساسا تحويل ورقة «محاربة الإرهاب» إلى ورقة ديبلوماسية حاسمة لجعل العاصمة الجزائر محورا وحيدا للتحرك في كل الشمال الإفريقي، مما يحقق لها طموحها الأزلي في أن تكون القوة الإقليمية الوحيدة بالمنطقة. ومن خلال هذه اللقاءات الموسعة فإنها نجحت في تجميع أكبر عدد من الأطراف الدولية المعنية بهذا الملف الحساس، لإقناعها بوجهة نظرها الإستراتيجية، التي تتحدد في منع أي تدخل أجنبي أمني بالمنطقة وأن تكون ما تطلق عليه «دول الميدان» سيدة القرار الأمني بكل الشمال الإفريقي، وأن تكون الجزائر العاصمة ومخابراتها وقواتها الأمنية، المحور المركزي الوحيد الناظم للفعل في هذا الملف ميدانيا. وأن تكون مشاركة القوى الدولية المعنية عاليا بهذا الملف الحساس، مشاركة داعمة على المستويين التقني والسياسي. بالتالي، كما أكد على ذلك البيان الختامي للقاء الجزائر منذ يومين بالحرف: « لاحظ البيان بارتياح اهتمام الشركاء وعلى رأسهم الولاياتالمتحدةالأمريكية بالطرح الذي قمته دول الميدان، وعلى رأسهم الجزائر، التي طالما نادت لتتكفل دول الساحل بمشاكلها بنفسها معتمدة على تعاضدها وعلى ما يمكن أن تأتي به الدول الشريكة من دعم معنوي ورأي سديد «. بل إن الوزير الجزائري عبد القادر مساهل، الوزير المنتدب المكلف بالشؤون المغاربية والإفريقية في الحكومة الجزائرية، كان أكثر وضوحا، حين أعلن في ندوة صحفية بعد اختتام الندوة، بحضور وزير خارجية مالي ووزير خارجية النيجر وغياب أي مسؤول موريتاني، أن بلاده يجب أن تكون طبيعيا المخاطب الدولي الوحيد في الحرب على الإرهاب في كل الشمال الإفريقي، بل وحاول أن يقلب المعادلة في ما يرتبط بموقف بلاده من تطورات ليبيا، من خلال التأكيد على أن المنتظر من الإخوة الليبيين العمل على إنهاء الإنفلات الأمني و»التسيب في تنقل السلاح» بما يخدم الأمن بمنطقة الساحل. مما يعني أن موقف الجزائر المتردد حول ليبيا له ما يبرره بمنطق التحليل هذا. إعلاميا، جندت الجزائر كل لوجيستيكها التقليدي في منابر صحفية دولية وازنة (لوموند الفرنسية والباييس الإسبانية والجزيرة القطرية وغيرها)، من أجل خلق نقاش عمومي حول ذات المصب الذي تريده الجزائر لمخططها الدولي هذا. ونجحت من خلال نوعية الحضور الغربي لندوة الجزائر، (خاصة الحضور الأمريكي والبريطاني والفرنسي والصيني) في أن تحدث تحولا في التعامل مع صورة الجزائر الخارجية بعد الإطاحة بالقدافي وما رافقها من تهم للحكومة الجزائرية بدعم نظامه ميدانيا (المرتزقة وصفقة الأسلحة الصينية والسماح بعبور بعض من عائلة القدافي إلى الأراضي الجزائرية). لكن ما يجب تسجيله، هو أن منظمات دولية وازنة في ملف محاربة الإرهاب عالميا، حرصت على أن يكون حضورها متتبعا في الميدان للنقاش الذي تريد أن تسمع صوته الجزائر دوليا، ولم يسجل عنها منح أي موقف حاسم للمخطط الجزائري. مما حول ثالث هذه اللقاءات إلى نوع من «النادي الدولي لتطارح أفكار» حول ملف حساس جدا مثل ملف الإرهاب والجريمة المنظمة. ومادام الأمر مرتبطا بملف حيوي أمني جد حساس، من حجم ملف «محاربة الإرهاب»، فإن من الأوراق الوازنة التي يحق للمغاربة طرحها، هي أننا كبلد ومجتمع ودولة ضحية نوع خاص من «إرهاب الدولة» تمارسه السلطات الجزائرية على حقوقنا المشروعة في الأمن والتنمية والديمقراطية واستكمال تحرير أراضينا من الإستعمار (مؤسف أن بعض الإعلام الجزائري هو الوحيد مع الإعلام الإسباني الذي ليس أنه لا يعترف فقط بحقنا في استرجاع صحرائنا الغربية، بل إنه يقف مواقف مخزية حتى من حقوقنا في استعادة سبتة ومليلية)، وذلك من خلال دعمها المادي لكل أشكال الخطر المهدد لحقوقنا المغربية المشروعة هذه. فكيف يستقيم خطاب محاربة الإرهاب مع الممارسة الميدانية الفعلية لخلق كل الأسباب للتوتر مغاربيا، من خلال بؤرة الخطر المتحركة في تندوف؟. إن محاربة الإرهاب تستوجب أولا تجفيف منابعه في تندوف.