تميزت ثورة السابع عشر من فبراير بليبيا بكونها الأطول زمنا والأكثر كلفة ماديا وبشريا بالنظر إلى الثورات من شمالها ويمينها ، كما تعتبر إحدى الثورات التي مرت عبر كافة المحطات والمراحل: مجلس الأمن، التدخل العسكري لحلف الشمال الأطلسي، وفي ذات الوقت هي الثورة التي تحفظت مجموعة من الدول على أساليب المعالجة الدولية لأسلوب قمع العقيد لها في بدايتها السلمية: منها التحفظ الأفريقي داخل مجلس الأمن متمثلا في جنوب أفريقيا التي صادف قيام الثورة عضويتها فيه ، تحفظ الإتحاد الأفريقي للاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي لعلاقات القدافي مع القادة الأفارقة وكذا تحفظ الصين وروسيا المتمتعين بعقود نفط بأفضلية مع نظام القدافي. إلا أن الموقف المثير لدهشة واستغراب المجتمع الدولي والخبراء هو ذاك السلبي الذي أبدته الجزائر منذ بداية الثورة إلى حين سقوط طرابلس في أيدي الثوار بل وإلى غاية المؤتمر الدولي لمساندة ليبيا الجديدة التي احتضنته فرنسا بباريس الفاتح من شتنبر 2011 وإلى الآن وحتى الآن . فما هي الدوافع التي تفسر هذا الموقف الشاذ في المنطقة وما هي القراءات التي استحضرتها الجزائر ورتبت عليها موقفها المؤيد للقدافي؟ بدءا لا بد من الإشارة إلى طبيعة الموقف الجزائري الذي لا يتسم بالغموض خلافا لما ذهبت إليه الصحافة الغربية الانجليزية خاصة كما أنه موقف غير ملتبس خلافا للوصف الذي نعته به وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه في تصريح للتلفزة الفرنسية (إر تي إل )RTL قبيل انطلاق أشغال المؤتمر الدولي لمساندة ليبيا الجديدة ، فالجزائر اتهمت صراحة من قبل الثوار الليبيين بدعمها المادي المباشر للعقيد القدافي من خلال سماحها بمرور السلاح و شاحنات حاويات البترول أو من خلال إرسالها لمقاتلين من مرتزقة البوليساريو للقتال بجانبه ضد الثوار، تبعا لرواية أحد أعضاء المجلس الوطني الانتقالي لوكالة المغرب العربي للأنباء باعتقال الثوار ل 556 من أعضائها وهي تقاتل إلى جانب الكتائب وأن اصطياد الآخرين مستمر من أجل اعتقالهم . وقد كانت الجزائر تؤمن باستحالة زحزحة العقيد من كرسي الزعامة وهو الذي اعتلى عليه لأكثر من أربعين سنة ، وهو الذي أخضع كافة رفاقه في الثورة لإرادته ومشيئته وسرقها لنفسه وسخر عائدات البترول الليبي لنزواته وسفهه ونزوات وسفه أبنائه، فهو ليبيا وليبيا هو ، وهو الذي واجه المعسكر الغربي وخاصة أمريكا بخطابات طويلة و مستفزة ملؤها طزاته المشهورة ،والتي لا شك عجلت بمرض رونالد ريجان و وقفت أمريكا عاجزة عن قتله ولا إسقاطه ، فزاده ذلك غرورا واستهتارا وتكبرا واستعلاء بالمجتمع الدولي فبادر إلى التحريض وتمويل عمليات عنف مست بصورة العرب والمسلمين ونالت في ما بعد من مالية الشعب الليبي كما شجعه صموده في وجه أمريكا على الغطرسة بشعبه ومعارضيه و زاده جرأة لإهانة الرؤساء والملوك فلم يسلم من سلاطة لسانه واستهزائه أحد دون استثناء . فامتدت مغامراته إلى الإقدام على منافسة الغرب في مناطق نفوذه عبر شراء مواقف القادة الأفارقة ، الذي أغدقهم بالأموال فحولوا وجهتهم وقبلتهم من باريس ولندن وواشنطن إلى طرابلس ، بشكل أحست معه وخاصة فرنسا بالمهانة والقزمية والاستصغار في محمياتها القديمة في إفريقيا . فنصب القدافي رسميا وبطقوس وزي أفريقي ملكا لملوك أفريقيا و أجبر حسني مبارك على مخاطبته بتلك الصفة ولا ندري ما إذا كان ذلك سخرية منه أو تملقا من مبارك أو فرض عليه كرها عليه. كما أنتخب رئيسا للإتحاد الأفريقي بعد أن سعى إلى تغيير تسميته القديمة منظمة الوحدة الأفريقية وانتخبت ليبيا عضوا في مجلس حقوق الإنسان ورئيسا للجمعية العامة للأمم المتحدة . وكل ذلك ليس لما تبديه ليبيا القدافي من اهتمام بحقوق الإنسان و حرص على السلم العالمي والتعاون الدولي ولا بمشيئة ورغبة من الغرب ، بل بسبب عائدات البترول التي انفرد بها القدافي وعائلته الصغيرة ، ففرق ذات إفريقيا ما تحت الصحراء و أمريكا الجنوبية لشراء الذمم والأصوات في مقابل تجويع وتعمد عدم تعليم الشعب الليبي . و لم يخف القدافي يوما حقده للغرب ولمصالحه فحضت الشركات الروسية والصينية بأفضلية وامتياز في عقود إنتاج النفط الليبي على حساب الشركات الغربية وخاصة الفرنسية والانجليزية والأسبانية والأمريكية . وهي الأشياء التي جعلت فرنسا لم تترد في إعلان مساندتها للثوار منذ الوهلة الأولى ، من اندلاعها الثورة في 17/فبراير2011 ، إذ استقبل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي محمد جبريل عضو المجلس الانتقالي يوم 10مارس 2011 بقصر الإليزيه ، كما اعترفت فرنسا وهي الأولى بالمجلس الوطني الانتقالي ممثلا شرعيا للشعب الليبي وتعاملت معهم على أساس ذلك . وقادت فرنسا حراكا دوليا لاستصدار القرار عدد 1973 من مجلس الأمن بتاريخ 18/مارس 2011 الذي فرض بموجبه حظر جوي لطيران العقيد على أجواء ليبيا، و اتخذت إجراءات عسكرية قمعية لحماية المدنيين فيها، بما في ذلك ضرب قوات القذافي البرية والبحرية. كما زودت فرنسا الثوار في جبل نفوسة بالأسلحة ووفرت لهم دعم استخباراتي وأرضي حتى سقطت طرابلس واختفى القدافي وعائلته ومعاونيه. فما الذي تتوجس منه الجزائر خيفة يفسر بها موقفها بعدم الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي ، وهي ترى طرابلس تسقط وهي التي صرحت صحافتها أن الرئيس بوتفليقة تعمد عدم الرد على اتصالات القدافي عندما حاول الأخير الحصول منه على إذن لدخول الأراضي الجزائرية ، وهي التي شاركت في مؤتمر دولي حول مستقبل ليبيا الجديدة بباريس يوم الفاتح من سبتمبر2011 ؟ للنظامين الجزائري والليبي قواسم مشتركة مرتبطة أساسا بطبيعتهما العسكرية الديكتاتورية وموالاتهما وتبعيتهما للمعسكر الشرقي الاشتراكي طيلة الحرب الباردة كما يشتركان في عدائهما للمغرب، فالقدافي من المؤسسين لجبهة البوليساريو الانفصالية والمحرض الأول لأعضائها، لما يضمره ويعلنه من عداء دفين للأنظمة الملكية عامة و المغربية خاصة ، و هو الممول ألأساسي لأنشطتها وعملياتها الدبلوماسية والعسكرية ولو بعد اتفاقية وجدة بين العقيد والحسن الثاني1984و (قد اعترفت له جبهة البوليساريو بدعمه وجميله من خلال قتال كتائبها بجانبه لقمع الثوار)، كما أن الجزائر تؤوي البوليساريو وتوفر لهم الدعم والدعاية الدولية والقارية بأفريقيا وأمريكا الجنوبية . كما أنهما يشجعان الشركات الصينية والروسية في إنتاج النفط على حساب الشركات الفرنسية وغيرها من الشركات الغربية. ولهما حسب الخبير في قضايا الشرق الأوسط روبرت فسك الكاتب في صحيفة الأندبندنت اتصالات غامضة جدا بين الأجهزة العسكرية. و مرد تردد الجزائر يكمن في إيمانها بأن انتصار الثوار المدعمين من طرف فرنسا لا محالة سيؤدي إلى إقامة نظام ديمقراطي يرتبط بفرنسا وباقي دول العالم بعلاقات جيدة ملؤها التعاون، خلافا لما ألفته الجزائر في ليبيا القدافي بتعاونهما في إثارة القلاقل والأزمات وافتعال وخلق التوترات منها توتر الصحراء للمغرب ، وقد ينقلب ذلك إلى قلاقل جزائرية داخلية بفعل الأزمة الاقتصادية بالجزائر وانتشار البطالة وتفشي الفساد بكافة أنواعه وأشكاله ويغذي ذلك رؤية الجزائريين للديمقراطيات تنشأ وتترعرع على حدودهم وبقوا استثناء في المنطقة لا مبرر له. وفقدان الجزائر حليف وشريك في كل شيء بهذه الصفات والطباع يجعلها تنعت ليبيا الجديدة بأن فرنسا ستجعل منها غير مستقلة في قرارها. وبالنتيجة فالثورة فرصة لعودة فرنسا إلى الساحة والمجال الأفريقي ،الذي تدحرجت منه بسخاء العقيد للقادة الأفارقة وللأفضلية الممنوحة للشركات الصينية والروسية في عقود النفط وبمساهمة ومشاركة جزائرية، وهي العودة والتواجد الذي تنظر إليه الجزائر بعدم الارتياح ، تكهنا واستنباطا منها للضغط الذي قد تمارسه فرنسا عليها في ظل غياب الديمقراطية والحكم الرشيد وخروقات حقوق الإنسان فيها ، وهي على كل حال الأسباب والذرائع والمنافذ المباشرة التي يتخذها الغرب للتدخل ضد أي نظام مستبد وطاغ ويمس بمصالحه كما فعل بالعقيد من ذي قبل، وهي طباع لم يستطع نظام الجزائر التخلص منها ولا تقويمه منها . أما المخاوف الجزائرية الأخرى المضمرة مردها أساسا أن استرجاع فرنسا لمكانتها في الساحة الأفريقية تقرأ فيه استقواء المغرب بفرنسا للعلاقات المتميزة بينهما قد يقوض دوليا دعم ومساندة الجزائر لخليقتها البوليساريو ، بعد أن فقدت الأخيرة حليفها الاستراتيجي القدافي بسقوط نظامه ،المتمتع بتأثير كبير في القارة ، الحليف الذي كانت تجد فيه سندا قويا ماديا و تعتمد على علاقاته الدولية الكبيرة أكثر من مشبوهة، والتي تراكمها ونسجها بدفع وصرف أموال الشعب الليبي من أجلها ، الحليف الذي خسرته في ليبيا الجديدة بسقوط نظام القدافي الذي راهنت عليه ولموقفها السلبي ضد الثوار لصالح المغرب ، باعتبار المغرب البلد الإفريقي الوحيد الذي شارك في اجتماع 19 مارس بباريس وكذا في جميع اجتماعات مجموعة الاتصال حول لبيبا منذ إنشائها في 29 مارس الماضي بلندن. و هو ما تأكد لها من تصريحات أكثر من عضو في المجلس الوطني الانتقالي منها المنسوب مؤخرا لجمعة القماطي المتحدث باسم المجلس مفاده أن مستقبل الصحراء لا يمكن أن يكون إلا تحت السيادة المغربية. كما أن موقف الجزائر بعدم الاعتراف بالمجلس الانتقالي قد لا يبقى حبيس تسجيل فقدان و غياب القدافي المحرض الثاني بعد الجزائر ضد الوحدة المغربية وتحول ليبيا الجديدة إلى مناصر لموقف المغرب الثابت في وحدة أراضيه. بل إن الموقف الجزائري السلبي مرشح لأن يتحول ويتطور إلى توتر مستقبلي بين الجزائر وليبيا ، يدل عليه أكثر من تصريح منسوب أعضاء المجلس الوطني الانتقالي من سلوكيات الجزائر : انتقاد الجزائر لعمل وتدخل حلف الشمال الأطلسي بليبيا ، اتهام المجلس الوطني الانتقالي للجزائر بدعم القدافي بالسلاح ، واتهامها بإرسال مقاتلين من البوليساريو للقتال بجانب الكتائب، إيواء و استقبال أفراد من عائلة القدافي عدم الاعتراف بالمجلس الانتقالي... وفسره بعض الأعضاء أنه موقف عدائي من الجزائر، ولا ننسى أن أعضاء المجلس الوطني الانتقالي الحاليين يعتبرون المرشحين المحتملين جدا للرئاسة والحكومة الليبية المستقبلية بعد عشرين شهرا من الآن ولمؤسساتها الدستورية والإدارية. وتخشى الجزائر أن يكون ذلك حافزا لعقد تحالفات ثنائية مثلا بين المغرب وليبيا على حساب الإتحاد المغربي المشلول أصلا والذي زاده الموقف الحالي السلبي الجزائري إزاء الثورة الليبية والموقف القديم المستمر من الوحدة المغربية شللا وآنذاك ستحس ليبيا بالعزلة ، ناهيكم عن ما قد ينجم عن ذلك من احتجاج داخلي قد لا يقوى النظام لجزائري السيطرة عليه، لما انكشف للجزائريين من سلوك قادتهم إزاء أشقائها وجيرانها المثيرين للقلاقل فيها، ولن ينفع معه آنذاك اتهام المغرب الباطل ولا أي عذر أو حجة تأتي بها من قبيل مناصرة الشعوب أو تقرير المصير، المصير الذي قرر ويبقى للجزائريين أن يقرروا مصيرهم مع نظام جوعهم وهو يتوفرون على ثروة بترولية يقتسمها العسكريين فيما بينهم. أما التخوف الثالث الذي تعلنه صراحة الجزائر للتغطية على الهاجسين الأول والثاني ، وهوا المرتبط بتسلح أكثر من ستة مليون مواطن ليبي من فئات وقبائل وأعمار مختلفة وخشيتها أن يتسرب ذلك السلاح إلى القاعدة في الصحراء ما بين دول الساحل والصحراء ،تنذر الجزائر مواطنيها والمجتمع الدولي أن فوهاته قد تتحول صوب الجزائر لزعزعة استقرارها وضرب مصالحها الحيوية باستخدامه في عمليات إرهابية داخل أراضيها ، وهي إحدى الفزعات بالإضافة إلى فزاعة عنف الإسلاميين التي دأب النظام الجزائري على تخويف الشعب الجزائري لتحويل مطالبهم الاجتماعية الاقتصادية والسياسية إلى تمني توفير الأمن لهم . بها بالرغم من الريبة والتشكك الذي ما فتئ مجموعة من الخبراء يبدونه عن وجود القاعدة أصلا بالصحراء الأفريقية وماهية منشئها والتساؤل عن مدى جدية الجزائر في التعاون للقضاء على الإرهاب، وهي التي أقصت المغرب من المشاركة في قمة تجمع دول الساحل والصحراء في الجزائر في 17/3/2010. في الوقت الذي اعتبر فيه توسيع دائرة التعاون الدولي الطريقة المثلى للقضاء على الإرهاب وفق توصيات الخبراء الدوليين ومجموعات العمل التي اشتغلت على الموضوع. أما الاحتمال الرابع، هو أن يتحول مؤيدي العقيد معمر القدافي إلى مقاومين ضد مناوئيه، أعضاء المجلس الوطني الانتقالي ومؤيديه من القبائل على غرار ما حدث في العراق، بعد الإطاحة بالرئيس صدام حسين بحجة التواجد الأجنبي في ليبيا (النيتو وبالضبط فرنسا)، ولانتشار السلاح بين اللبيبين وشساعة التراب الليبي ووعورة تضاريسه الصحراوية، وما يخلقه ذلك من تحد مادي ولوجستيكي لمراقبته وصعوبة ضبطه والتحكم فيه ، وهو ما تؤكده الرسالة الصوتية الرابعة للقدافي في الفاتح من سبتمبر الذي توعد فيه الثوار بمعركة طويلة. ومن يدري فإن القدافي ما لم يتم القبض عليه قد يتحالف مع القاعدة أو الجماعات الإرهابية في الصحراء ، الذي يفسر التصريحات الليبية والغربية أن القدافي مازال يشكل خطرا وبأن المعركة لم تنته بعد . آمال نظام الجزائر المبددة فقد أجبرت على المشاركة في المؤتمر الدولي حول مستقبل ليبيا بالرغم من ما سبقه من تصريحات لفرنسا عبر وزارة خارجيتها وأعضاء المجلس الانتقالي والصحافة الجزائرية والانجليزية مناوئة لموقفها، لينطق وزير خارجيتها مراد مطلسي أن اعتراف الجزائر بالمجلس الانتقالي رهين بتوسيع عضويته لمشاركة كافة القبائل والمناطق، فهل نطق الحجر وهل هو استسلام جزائري للأمر الواقع أم مناورة ذكية للحسم منذ البداية ضغطا لانتزاع موقف مطمئن لها ومساندا لمخططاتها الانفصالية ضد الوحدة المغربية.