تنبثق من داخل النسق السياسي الحزبي المغربي باعتباره بنية منغلقة ظاهرة سياسية جديرة بالبحث تتمظهر ك" ترياق سياسي" لعلاج حالة التسمم التي تصيب سوء التقديرات والقراءات لتحولات الواقع السياسي والاجتماعي... وهذا الترياق يأخذ بعده الحقيقي من خلال بنائه النظري الذي يندرج ضمن ما يسمى بأوراش الإصلاح. فتجربة التناوب التوافقي 1996 لما اصطدمت بعوائق سياسية وأخرى فوق دستورية...لجأت إلى تصريف خطاب " جيوب المقاومة" للتخفيف من هول الصدمة، فالضريح السياسي الذي سهر على هندسة مشروع التناوب، يعرف كيف يجتهد في حراسة شرعيته التاريخية، بما يضمن الاستمرارية في قلب النزيف والتآكل الذي يصيب معمار ضريحه. ولتأثيث مسار الأزمة يظل الإعلام الحزبي كواجهة ذات مفعول لتعبئة أعضاء ومتعاطفين في مناهضة جيوب المقاومة، وفي نفس الآن لامتصاص الاحتقان الذي يسري في شرايين المؤسسة الحزبية، خصوصا وأن بعض أعضاء من المكتب السياسي أمطروا انطلاق التجربة بوابل من النقد. ففي انتخابات التشريعية 2002 وبعد انسداد أفق التجربة، بعد تعيين السيد إدريس جطو وزيرا أول، ظهرت أطروحة " المنهجية الديمقراطية"، حرصا على ضمان معالجة الأزمة بخطاب تقوية البناء الهش للتجربة، وهو وضع يستهدف من خلاله الضريح السياسي إلى الحصول على درجة من الاستقرار الزمني لبنية الحزب خارج التأثيرات المحيطة، وإلى إتلاف حبائل الأصوات المشاغبة. وإذا كانت محطة 7 شتنبر2007 أفقدت حزب الاتحاد الاشتراكي موقعه في سلم الترتيب بسبب عقاب الناخب لاختياراته... فإن العودة إلى لغة الانتعاش لجسد مهترئ تبقى من تقنيات القيادة الحزبية عبر إشهار ورقة الإصلاح السياسي والدستوري و المشاركة النقدية.. وهو مؤشر جيد لمعرفة درجة تموقع الحزب داخل المشهد السياسي . الأضرحة السياسية اليسارية تتقن اللعب بثنائية الأزمة والترياق السياسي، كتقنية تبتغي ترميم واقعها بخرجات سياسية تعرف أكثر من غيرها مدى استحالتها، فالدعوة إلى بناء تعاقد سياسي مع القصر ل " تجاوز وضع سياسي متأزم تمر به البلاد" حسب ما جاء على لسان الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية السيد إسماعيل العلوي، إنما يحيل إلى مرجعية التعاقد التوافقي الذي جر المشهد الحزبي والنقابي..إلى كانتونات فوق رؤوس انتظارات مجتمعية. والسيد إسماعيل العلوي من خلال دعوته إلى التعاقد الجديد، يبدو أنه ليس على نفس الموجة من البث والاستقبال كما تديرها الدولة. فالأزمة التي أحدثها النسق المخزني داخل صفوف الأحزاب، كانت معالجتها تتم عبر إنتاج المستحيل التفكير فيه بالقفز على الأسئلة الحقيقية التي تهدد مواقع سياسية. وأد الاختلاف لا تسمح البنية الحزبية المنغلقة بتوالد الاختلاف حتى ينصهر في شكل تجمعات تنتج المسكوت عنه وتسيد المحظور الحزبي، فالسيد محمد اليازغي الكاتب العام السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي، يعتبر في تصريحاته الإعلامية، أن تأسيس التيارات يهدد وحدة الحزب وتماسكه السياسي والتنظيمي، وهو بذلك يسعى إلى المزيد من فعل الترسيم الزمني للدائرة المنغلقة لحزبه. ومن هذا المنطلق ظلت الشبيبة الحزبية كمسلك عبور للاختراق من طرف بعض أعضاء من المكتب السياسي قصد قطع الطريق أمام بناء تكتلات داخلية التي بدأت تتشكل كبؤر للاختلاف. وإذا كانت وثيقة الوفاء للديمقراطية تبلورت كتصور سياسي وتنظيمي هدفها نبذ ثقافة الإجماع السياسي، فإن ترحالها إلى " أرض الله الواسعة " فرضته دوافع "أمنية" لضمان بركة الضريح السياسي كمؤسسة استبدادية. وبالرغم من حالة الحصار لثقافة الاختلاف، تبلورت حركة أعلنت عن نفسها بعد المؤتمر السابع للحزب تحت اسم "الاشتراكيون الجدد" ،إلا أن ثقافة المركز وتبعية القطاعات التنظيمية الموازية للقيادة الحزبية– كما يرى مصطفى عنترة- وانضباط الأقلية لقرارات الأغلبية وضرورة احترام مقررات الحزب والتصفيق للزعيم ...تشكل عوالق بنيوية أمام أنصار العمل وفق نظام التيارات. فالمنطق الداخلي للمؤسسة يقتضي الترحال أو الاستقرار، بحيث لا خيار سوى الانضباط لشرعية الضريح. وعن وثيقة "الالتزام والمسؤولية" فقد صرح السيد إسماعيل العلوي أنه " لا يمكن الحديث عن وجود تيار داخل الحزب، وأن الأمر مجرد حساسية تجمع مجموعة من الرفاق لا يعرف عددهم حول أفكار يعتبرونها تميزهم عن باقي أعضاء الحزب". فالسيد إسماعيل العلوي ينظر إلى وثيقة " الالتزام والمسؤولية" وقبلها وثيقة " ما زلنا على الطريق" التي تزعمها السيد شمعون ليفي كوثائق وفية لمقررات الحزب وقوانينه الداخلية. فالأضرحة السياسية، على هذا المستوى تنتعش من فضاءات الموت وتتخوف من دورة الحياة الحزبية، خصوصا أمام مطالب التيارات التي تسعى إلى تجسيد قيم الديمقراطية الداخلية وهدم الأصنام والتطلع إلى التعايش بين الآراء...ومن شأن كل هذا أن يخلف حسب – مشاريع أوراق مؤتمر الوطني الأول للوفاء- فتح المجال للنقاش الديمقراطي الواسع في صفوف الحزب، أثرا سلبيا على الموقع السياسي للقيادة. ترميم الأضرحة انطلقت مجموعة من المبادرات متعددة ومتنوعة على شكل موائد مستديرة وورشات عمل، وأيام دراسية... يجمعها الهم السياسي حول راهنية ومستقبل اليسار،ومجمل التوصيات ذهبت في اتجاه بناء الحزب الاشتراكي الكبير والدعوة إلى الإصلاحات السياسية والدستورية، وإلى التعاقد السياسي، وضرورة تجسيد حضور الفعل اليساري الجماهيري من خلال العمل الميداني المشترك في كافة الواجهات و المحطات النضالية، والتفكير في خلق أندية يسارية لتفعيل المشترك السياسي، وإطلاق دينامية سياسية جديدة لصياغة مشروع مجتمع ديمقراطي وحداثي يكون لليسار فيه دور قطب الرحى، وكذا مطالبة اليسار بتجديد ممارسته وهياكله من أجل المساهمة في تأهيل الحقل السياسي الذي عرف تراجعا كبيرا... وللإشارة فقد ساهم في تنظيم هذه الملتقيات مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد يوم 10 يناير 2008، وتيار الفعل الديمقراطي للحزب الاشتراكي الموحد يومي 19 و 20 يناير 2008 ببوزنيقة، و حزب التقدم والاشتراكية الذي نظم ندوة وطنية يوم 17-2-2008، ومنتدى مرتيل لحركة الشبيبة الديمقراطية التقدمية يوم فاتح مارس 2008 ، ومائدة مستديرة عقدها فضاء الدارالبيضاء للحوار اليساري...لماذا هذا الانخراط المتعدد والمكثف لمقاربة الإشكالية اليسارية؟ إذا كانت إستراتيجية الأضرحة السياسية بعد كل أزمة، والمقصود هنا محطة 7 شتنبر، تسعى إلى التخفيف من حدة الأزمة بزيادة جرعات إضافية من المسكنات في شريان الحزب، فإن التيارات المنفلتة من أسر خطاب الوحدة تؤثث مشهد الأزمة بالدعوة إلى الانخراط في صياغة توصيات تظل حبيسة الجدران. أليست هذه المبادرات يعوزها العمل بالأهداف؟ ألا يمكن اعتبارها مجرد خرجات إعلامية إشعاعية تشغل لها حيزا في الصحف الوطنية ؟ ألا يمكن اعتبارها فقط مبادرات تدخل في إطار ترميم معمار الأضرحة السياسية، خصوصا وأنها تفتقر إلى الأفق السياسي؟ التمرد المحتشم إن الحاجة إلى معوال الهدم للأضرحة السياسية، يجعل مساحة الأخطاء تكبر وتكبر معها صورة المتعالي في المخيال الاجتماعي ، وبذلك تنتج المؤسسة الحزبية مسلماتها الغيبية التي تستهدف مبدأ المساءلة والمحاسبة. وإذا كانت الصور المثقلة بالجروح في الذاكرة المجتمعية تتقدم كوجوه سياسية تعلن عن ترشيحها لمنصب الكاتب العام لحزب الاتحاد الاشتراكي، فلأنها تتقن إنتاج فن الخطاب كآلية من آليات تدبير الأزمة، خصوصا وأن السيد فتح الله ولعلو يتحدث عن " التعاقد الجديد" كمبدأ للمحاسبة والالتزام. فهل هناك وعي بمخاطر الأضرحة كمنتجة للموت السياسي؟ لم نسجل داخل الحقل السياسي اليساري حالة تمرد حقيقية تطالب فيه الأضرحة بالمحاسبة أمام المجلس الوطني أو اللجنة المركزية...سوى ما جاء في تصريحات محسن عيوش عضو المكتب السياسي سابقا لحزب اليسار الموحد، مطالبا إياه بتقديم استقالته الجماعية، بسبب سوء تدبيره للمعركة الانتخابية لسنة 2002. وبالرغم من أهمية هذه المحاولة، إلا أنها انتهت بصاحبها إلى تقديم استقالته وقذفت به في ذاكرة النسيان وتم استئناف العمل بلعبة الأضرحة. هناك حالة مشجعة أخرى نسجلها للأستاذ محمد الساسي، لكنها تبقى حبيسة دائرة ضيقة على المستوى المحاسبة، لكونها بعثت فقط برسائل مشفرة إلى المكتب السياسي تحمله مسؤولية الإصرار لترشيحه الانتخابي. لكن السؤال المطروح هنا: لماذا انتهى الأمر بمحسن عيوش إلى زاوية النسيان، في حين ظلت باب محمد الساسي مواربة في وجه لجنة شكلها المكتب السياسي هدفها ثنيه عن قرار الاستقالة؟ فهل تتم معاقبة الرفاق حسب حجم دوائر المحاسبة التي يرسمونها ؟ وإذ نبحث عن أشكال التمرد ضد الأضرحة السياسية، تطالعنا وثيقة تحمل عنوان"من أجل تجديد الأمل" لأعضاء من الحزب الاشتراكي الموحد، وتستعرض مواطن الضعف والخلل في البناء التنظيمي والسياسي للحزب، محملة المسؤولية إلى الهيئات الحزبية الوطنية في عدم القيام بمهامها (المكتب السياسي، المجلس الوطني، لجانه الوظيفية، سكرتارية المجلس الوطني، القطاعات..)، وإذا كانت قراءة الضريح السياسي تعتبر أن مسؤولية 7 شتنبر تقع على العناصر التالية: الدين- المال- السلطة، فإن محتوى الورقة يتميز بربط الوضع السياسي العام الذي تجتازه البلاد، بجزء مهم بذات الحزب الاشتراكي الموحد، ذلك أن النظر إلى المعالجة الشاملة للواقع الحزبي يقتضي " تحمل المسؤولية التاريخية في تدعيم و تقوية الذات الحزبية". ومن هذا المنطلق فالوثيقة التي هي عبارة عن نداء تستعجل تنظيم مجلس وطني استثنائي لتدارس"خطة تنظيمية مستعجلة لهيكلة الحزب و تفعيل أدوار هيئاته، بدءا من تجديد المكتب السياسي و سكرتارية المجلس الوطني". وبالرغم من أهمية محتوى الوثيقة والتي ربطت بين خطورة الوضع الداخلي بأزمة عطب في" رأس الآلة التنظيمية للحزب" فإن المؤاخذة تقف عند بطئ المبادرة من حيث تأخرها الزمني والذي انعكس على محدودية مطلبها (عقد مجلس وطني استثنائي). ونعتقد أن اختيار السياق الزمني الملائم يشجع على الرفع من سقف المطالب، وهكذا فالدعوة إلى عقد مؤتمر استثنائي كان بإمكانه أن يكون تمردا إيجابيا، ومع ذلك فالوثيقة تكتسي أهميتها من حيث الوعي بخطورة إمساك الأضرحة بخيوط اللعبة السياسية والتنظيمية، وهذا التمرد بالرغم من محدوديته، يظل خطوة متقدمة تنسجم مع شعار الوثيقة " من أجل تجديد الأمل". فهل ستمتد العدوى إلى ضريح مولاي التقدم والاشتراكية وإلى سيدي حمزة الاتحاد الاشتراكي...؟؟