عبد العالي الهيلالي / ... فالفوضى والهدم والعبثية بمنطقة معينة، تخلق واقعا إبداعيا لطرف آخر ترضي طموحاته السياسية والاقتصادية، وتخدم مصالحه قررت الولاياتالمتحدةالأمريكية سنة 1945، أي بعد انتهاء الحرب العالمية، رسم أسس سياسة خاصة بمنطقة الشرق الأوسط؛ بإنشائها" مركز دراسات الشرق الأوسط"، مقره واشنطن. والشرق الأوسط بالنسبة للأمريكيين في هذه المرحلة يمتد من المغرب حتى باكستان، ولا شك أن الجمهوريات الإسلامية التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي في السابق، قد دخلت في هذا المصطلح ليصل إلى حدود اندونيسيا، وهذا المصطلح/ الشرق الأوسط، هو جيوسياسي بامتياز، ولا تستوعبه الجغرافية الطبيعية لوحدها. لا شك أن المتتبع لشؤون الشرق الأوسط، يرى بوضوح أنها أصبحت بؤرة توتر دائم، وبرميل بارود قابل للانفجار في أي وقت، فهذه المنطقة تعيش صراعات طائفية، وتوترات، وحروبا، وتهجيرا، ومشاكل اقتصادية وسياسية؛ لتدخل إلى مرحلة الفوضى، وهو ما اصطلح عليه" بالفوضى الخلاقة". للوهلة الأولى، يبدو المصطلح متناقضا جدا، فلا يمكن أن يكون الإبداع والخلق فوضويا، بل يحتاج إلى نظام لكي يتحقق الأمر، لكن الحقيقة تبدو مختلفة تماما، فالفوضى والهدم والعبثية بمنطقة معينة، تخلق واقعا إبداعيا لطرف آخر ترضي طموحاته السياسية والاقتصادية، وتخدم مصالحه. إذاً، هي بحق" فوضى خلاقة"، فما هي أهم النظريات والتوجهات التي أسست لهذا المصطلح؟ أكد جوزيف ناي وهو نائب وزير دفاع أمريكي سابق، في مقال له نشرته إحدى الجرائد أن القوة الناعمة هي الوسيلة المناسبة لتحقيق المصالح الأمريكية، بدلا من صدام الحضارات، وطرح المفكر الأمريكي صمويل هنتغتون مصطلح فجوة الاستقرار، وهو الفجوة التي يشعر بها المواطن بين ما هو كائن، وما ينبغي أن يكون، فتنعكس بضيقها، أو اتساعها على الاستقرار بشكل، أو بآخر. فاتساعها يولد إحباطاً ونقمة في أوساط المجتمع، مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي، لاسيما إذا ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القابلية والقدرة على التكييف الايجابي، فتتحول مشاعر الناس في أية لحظة إلى مطالب ليست سهلة للوهلة الأولى، وأحياناً غير متوقعة، مما يفرض على مؤسسات النظام ضرورة التكيف من خلال الإصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة السياسية، واستيعاب تلك المطالب. أما إذا كانت تلك المؤسسات محكومة بالنظرة الأحادية؛ فإنه سيكون من الصعب الاستجابة لأي مطالب، إلا بالمزيد من الفوضى التي يرى" هنتجتون" أنها ستقود في نهاية الأمر إلى استبدال قواعد اللعبة واللاعبين. و في 1983، وافق الكونجرس الأمريكي على مشروع حدود الدم الذي طرحه برنارد لويس المستشرق البريطاني،الأمريكي الجنسية، اليهودي الديانة، ويهدف هذا المشروع إلى تقسيم و تفتيت الدول العربية والإسلامية على أساس ديني ومذهبي. أكثر من أعطى لهذه النظرية مدلولا عميقا، هو البروفيسور" توماس بارنيت" الذي قسم العالم إلى من هم في القلب، أو المركز( أمريكا وحلفاءها)، وصنف دول العالم الأخرى تحت مسمى دول( الفجوة)، أو( الثقب)، حيث شبهها بثقب الأوزون الذي لم يكن ظاهرًا قبل أحداث11 سبتمبر، ويرى بارنيت أن دول الثقب هي التي تكثر فيها الصراعات، والنزاعات، والفقر، والبطالة، وهذا ما يسهل تفريخ الإرهاب، لذلك عليهم التدخل، وخلق حالة من الفوضى، وعدم الاستقرار، وسوف يؤدي هذا حتماً في الأخير إلى بناء نظام سياسي جديد، يوفر الأمن، والازدهار، والحرية. وفي التاسع من شهر أبريل سنة 2005 وفي حوار مع جريدة الواشنطن بوست، أدلت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس، بتصريح أظهرت فيه نية الإدارة الأمريكية نشر الديمقراطية في العالم العربي، والتدخل لنشر حقوق المرأة، وغيرها تحت مسمى" مشروع الشرق الأوسط الجديد"، وإن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط ،في البداية، هي نوع من الفوضى الخلاقة التي ربما تنتج في النهاية وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة حاليا" كان الحادي عشر من سبتمبر سنة2001 نقطة تحول في السياسة الأمريكية، حيث خاضت حربين في منطقة الشرق الأوسط، بدأت بأفغانستان تحت ذريعة القضاء على أسامة بن لادن منفذ هجمات 11 سبتمبر، وانتهت بالهجوم على العراق تحت ذريعة تخليص العراق من حكم صدام حسين، ونشر الديمقراطية، وتدمير أسلحة الدمار الشامل. والظاهر من هاتين الحربين أنه لم يكن هدفهما فقط قتل بن لادن، أو تدمير أسلحة الدمار الشامل، بل أعمق من هذا، فأفغانستان تعيش في فوضى عارمة الآن، وفي ظل انقسام داخلي وصراع بين الحكومة التابعة لأمريكا، وبين طالبان التي أطاحت بها أمريكا إبان تدخلها هناك، وفي العراق بعد أن سقط حكم صدام حسين، يظهر جليا بوادر تقسيمه إلى ثلاث دويلات صغيرة، بين الشيعة، والسنة، والأكراد، خصوصا في ظل تصاعد الاقتتال الطائفي، وغياب حكم مؤسسات دولة قادرة على حل المشاكل الكثيرة التي يتخبط فيها هذا البلد، بل، وغياب السيادة، إذ أصبح العراق الآن يخوض حربا بالوكالة عن دول خارجية، وبالتالي تغيير موازين القوة في المنطقة، أما سوريا، وبعد الثورة التي قام بها الشباب، وبدأت سلمية، تدخلت الأيادي الخفية من أجل تطبيق نظرية الفوضى الخلاقة، وخلق واقع جديد بتدمير كلي لهذا البلد، وتدخل أطراف خارجية من أجل تقسيمه على أسس طائفية بين العلويين والسنة، وزيادة على ليبيا المهددة بالتقسيم إلى دولتي طرابلس، وبرقة، واليمن إلى دولتين بعد استفتاء محتمل في جنوبه، وفلسطين تذهب فيها الضفة إلى الأردن، وغزة إلى مصر، ومنطقة شمال إفريقيا كلها يتم تقسيمها على أساس عرقي، وبالتالي نأتي إلى المفهوم الذي أطلقه المفكر الاستراتيجي العربي، منير شفيق سايكس بيكو الثاني: تقسيم ما هو مقسم، وتجزئة ما هو مجزأ. الفوضى الخلاقة ليست مرتبطة بالجانب السياسي والعسكري فقط، بل تمتد إلى الجانب الاجتماعي والثقافي والفكري، ومحاولة التأثير على الهوية والتقاليد، والعادات المكونة للمجتمعات العربية، فيمكن ملاحظة ارتفاع الجدل الفكري والثقافي والمجتمعي حول كثير من القضايا، مثل الحرية الفردية، وعلى سعة هذا المصطلح، فقد تم اختزاله في بعض التصرفات التي هي مخالفة لقيم المجتمعات العربية، كالحرية الجنسية خارج إطار الزواج، والإجهاض، وزواج المثليين، مما خلق فوضى ثقافية، وصراعا بين المعارضين لهذه الممارسات، والمؤيدين لها. ورغم قلة هذا الأخير، إلا أنه لولا المساعدات الخارجية للجمعيات، والهيئات التي يؤسسها دائما، ما كنت تخلق أفكارهم فوضى مجتمعية. من جانب آخر، يعتبر التدخل الخارجي في التعليم من أخطر الأسلحة لمحاربة ثقافة وهوية الدول العربية؛ باعتبارها تخضع في هذا الجانب لتخطيط أجنبي، وإن كان بطرق سلسلة، أو بفرض منهجية تدريس معينة بطرق متنوعة، أبرزها صندوق النقد الدولي الذي يقدم القروض مقابل خدمات متنوعة، وبالتالي يصبح متدخلا في شؤون الدول، وموجها لسياستها. إذاً، مشاكل سياسية، واقتصادية، وثقافية، وحروب، وصراعات طائفية. فقر، وجهل في الدول العربية.. هل يمكننا القول بأن مشروع" الفوضى الخلاقة " قد نجح، وحقق أهدافه؟ حتى وإن كانت الدول العربية، والشرق الأوسط بمفهومه الأمريكي، يعيش في الفوضى، إلا أنه من المؤكد أن النظام دائما ما يأتي بعد الفوضى، والسؤال المطروح، هو أي نوع من النظام سيكون؟. هل النظام الذي سيخدم مصلحة الفوضى الخلاقة؟ أم النظام الذي سيفشل مشروعها؟