بين عواهل الأحداث الجارية في مصر، من الممكن أن نقول أن سنة التدافع هي ظاهرة صحية قبل أن تكون سنة كونية، ومنطق التحيز والتعاطف يظل حاضرا في أي قضية، ومنطق الارتداد يكون محتملا دائما، مابين الوفاق والمعارضة، في مقابل طرف ثالث وهو الطرف المراقب الذي يفضل متابعة الأحداث في وسائل الإعلام والمجتمع، على إبداء رأيه في قضية ما ولو كانت مصيرية، لأنه في اعتقاده أن على المواطن أن يعيش بسيطا وانطوائيا حتى يعيش بسلام، لكن الأفيد لنا في هذا كله، هو ألا نكون حقل تجارب في خضم هذه الأحداث، بل نتعظ بالتجارب من أجل الإحاطة بخلاصة تعطي النموذج والمشروع الحقيقي الذي يستصرخ به وطننا الجاثم في قلوبنا مهما كان مكانه. وعليه فقد يتوحد المشروع الذي نجتمع عليه، لكن قد تختلف الآراء والقناعات، وقد تتغير في كل وقت وحين، حسب درجة التأثير والتأثر، وحسب درجة المتدخلين والزمان والمكان والظرفية والسياقات المصاحبة لأي حدث منشئ لقضية ما، يثور النزاع حولها بين طبائع جماعات إنسانية تحمل قناعات معينة يطلق عليها لفظ "تيارات". بل الأكثر من ذلك أن هناك معاني إنسانية تبعث على التساؤل عن جدوائية كل هذه الأحداث، فهناك من لا يدخر مجهودا في البحث والتمحيص والفهم العميق لما يجري، فبجرة قلم أو بتأثر إعلامي معهود، هناك حكم جاهز وتحيز لافت، إما إلى اليمين أو اليسار، لكن لا نلوم أحدا فكل حسب تقديره ودرجة فهمه واستيعابه والمستوى الذي يمكن أن يصل إليه في تمييز أبعاد وعمق الأحداث الجارية عبر التاريخ، وكلما كان هناك نقاش وحوار متخلق وحضاري في توجهين متناقضين، كلما تواجد بينهم أناس شرفاء يبتغون الخير لوطنهم.. وقد كنت قلتها قبلا وسوف أصدح بها مرة أخرى، وهو أنه لا يهمنا من أنت وما تحمل وما هو دينك، لكن ما يهمنا هي أخلاقك ومنطلقاتك والتزامك، حتى لا نحسب الأشياء بمنطق طائفي أو عصبي سواء فكريا أو إثنيا. وثقافة الأدلجة والتأدلج صفة يجب أن تغيب في الساحة الفكرية والمجتمعية في حالة حدوث نزاع متعصب ومتحيز للأنا، ومغيب لمصلحة الوطن العليا وشعبه "الغلبان". وحتى لو كانت إيديولوجية ذات طبيعة إسلامية، طالما أنها لا تعبر عن الإسلام الحقيقي المتمثل في السماحة وروح النقاش الرصين، والحكمة والدفع بالتي هي أحسن، بدل التكفير والتخوين والاصطدام والرد على هذا وذا، أو إيديولوجية في المقابل ذات طبيعة علمانية تريد أن تفرق بين كل مجال وتحترم خصوصيات وتخصص كل واحد على حدة دون وصاية الديني على السياسي أو السياسي على الدين كل يمارس ما يريد في إطار الحرية الفردية المكفولة له. وفي دفتي كتاب مصر، هناك مجموعة من الشفرات التي لم يتم فكها بعد، ولا يمكن فهم ما يجري هناك إلا من خلال فهم "الشخصية المصرية" وبيئتها وكيف تفكر.. ورغم الآراء المتقاذفة والنقاشات الحامية الوطيس حول الإعلان الدستوري والاستفتاء على مشروع الدستور المصري الجديد، فإنه يبدو لأول وهلة أن المجتمع المصري ليس بمجتمع ملائكي، ولا الإخوان المسلمين أو الليبراليين بشياطين، كما يصور الإعلام الخاص بكل توجه، فكل منهما يجب أن يعبر عن آرائه واجتهاداته وما يؤمن به دون تخوين، على قاعدة الحوار أثناء الاختلاف، على عكس ما شهدناه في ميدان "الاتحادية" بالقاهرة قرب القصر الرئاسي والتي راح ضحيتها سبع قتلى والعشرات من الجرحى. ثمة هنالك مخطط محبوك ومعالم جديدة تتضح لإعادة فبركة وتشويه صورة الربيع العربي من خلال مصر، حتى ينقلب الربيع إلى صراع حاد ما بين أسلمة الدولة وعلمنتها، وهو منطق أسود مظلم يكرس ثقافة عدائية تجسد قيم الكراهية والتطرف. حيث أن ما يحدث اليوم، يؤرخ لمسار جديد في استيعاب اللحظة والأحداث الجارية حاليا، وتعد مصر بوثقة لهذا كله، رغم أننا لا ننسى الأحداث الجارية في تونس والمغرب وليبيا، ولا بد أن نشير إلى أن مصر عبر هذه المنعطفات الواقعة قد تعيد إنتاج التاريخ في العالم ككل وليس العالم العربي فقط، بتواجد صراع ذهنيات ونمط إعلامي مرسوم عند الشعوب، يمتد من القاهرة إلى دول الربيع العربي، إلى واشنطن وإيران وتل الربيع. النمط الإعلامي المذكور يعيد تجربة مخيبة للآمال عاشها نسق راديكالي قديما، وهو التيار اليساري الذي وقع في نفس الفخ، عندما أضحى المعجبون بالمشروع اليساري في العالم، ينتقلون من منطق الإنتماء المعرفي إلى منطق الإنتماء العاطفي،ويوضح ذلك جليا ميدان الممارسة والتخلي على النظر والانسجام الفكري في التفاعل مع القضايا الشائكة، وهو نفس الشيء ما يحدث اليوم بين طرفي ثنائية علماني/إسلامي، هذا الصراع التقاطبي الذي يصوره الإعلام العربي اليوم، مترسخا في نوعية الإنتاجات الفكرية والأبحاث والمقالات والأخبار في العالم العربي والتي تعالج مجموعة من القضايا بدرجة تنتقل من التحيز الموضوعي إلى التحيز العصبي. وأخيرا ليس آخرا، لا ننسى أننا اليوم في عهد الأزمة الإقتصادية العالمية في مقابل هيمنة الإسلاميين في دول الربيع أو شبه الربيع العربي، وقد تتغير مواقف دول العالم خاصة منها الكبرى سياسيا حول ما يحدث في هذه الدول، طالما أن الشعوب العربية اليوم تتأخر في تقرير مصيرها أو يعرقل بطريقة أو بأخرى مسار إصلاحها خلال أول فترة حكم ما بعد الربيع العربي بالنسبة لبعض الدول العربية المستفيدة من نفحاته، فإن الدول الكبرى تنتظر اللحظة المناسبة لانتهاز الفرصة السانحة من أجل إعادة إنتاج تجدير آليات التحكم الإمبريالية على مجمل الدول العربية التي يحسون أنها تشكل خطرا عليهم فهل سيتم سرق الربيع العربي من أيدي ثواره؟ من أجل التفاعل : [email protected]