لقد تفتّحت شهيّة الشعب إلى المعرفة السياسيّة واحتشدت مختلف شرائحه وعلى رغم أنف السلطة الغاشمة وأنف القوى الخارجيّة قاموا إلى الرمّانة ففركوها، ولأنّنا تجاوزنا حقبة الخمسينيّات والستينيّات حيث كانت السياسة حكرا على "رَاتْسَة" معيّنة في البلاد والبقيّة تستمع ، تستمتع ، تنبهر، ثم تنصرف إلى حالها راشدة، لهذا لم تعد السياسة ذلك الغول وتلك العنقاء، ولم يعد المجال مفتوحا للإبهار والتعجيز، ولم تعد مجالات العمليّة السياسيّة غامضة وانتهى عصر المجاهل المتشعّبة وفكّكت الخارطة الجينيّة لهذا العلم الذي ادَّعوا أنّه بحر لجيّ ومحيط متلاطم وأوحال وألغاز وأخطار وعلم دقيق لا تصلح له إلا طينة معيّنة من البشر هيّأتها الأقدار لذلك، كنّا نرقبهم يتدحرجون أمامنا في أجهزة التلفاز، أنوفهم كأنوف آبائنا، الرؤوس كالرؤوس.. أقبلوا بأجسامهم وأدبروا فلم نرَ ما يميّز هياكلهم عن هياكل آبائنا وأجدادنا، لا بل رأيناهم متثاقلي الحركة علّتهم بطونهم البارزة وكأنّها في خصام مع أزرار قمصان وبدل تبدو غريبة عن محلاتنا وأسواقنا، ورأينا آباءنا يثبون على الخيل والحمير والبغال وثبا، كلامهم ابتلعه اللحن وغلبت عليه العجمة، وكلام آبائنا يخرج سلسا متماسكا صقلته الزيتونة وفروعها ، ولمّا حيّرونا وحيّرتنا تلفزتهم وإذاعاتهم قلنا عسى أن يكون سرّ عظمتهم في تلك الحمرة التي تعلو وجوههم وسرّ بساطتنا في ذلك الشحوب والسواد الذي يغزو وجوهنا، ثم كان أن استسلمنا..، حينها لم يخطر ببالنا إذا ما كانت حمرة الوجه تلك ولمعان الشعر ذاك نتيجة تحسينات وعوامل دخيلة؟ هل هي صْناعة "وإلاّ خليقة ربي" وقد ذهب في روعنا أنّها "خليقة ربي" واقتنعنا أنّهم هكذا خلقوا بحمرتهم وعزّهم وبدماء تجري في وجوههم أكثر ممّا تجري في عروقهم، ورضينا أن نشتغل نحن بالزراعة والصناعة والتعليم ونتعب ونكدّ ونغالب الفقر والمرض.. ويقومون هم على ثغر السياسة يحموا ظهورنا ويحصّنونا منها لعلّها تهجم على قرانا فتحيلها إلى ركام، وكان علينا أن لا نشاغبهم بل ندعو لهم بالتوفيق والسداد في مهمتهم الجسيمة لكي يجتهدوا في مسك زمام السياسة بحكمة وقوّة حتى لا تنفلت من أيديهم فيغرقنا الطوفان أو تفترسنا الأسود والضباع ولربما سقطت فوقنا الكواكب والمذنّبات.. كل هذه الحيرة أضف لها كلام بعض من حولنا وهم يجرعوننا فنون الذّل والاستسلام "واش دخلك بالسياسة، لا دخل إيدك للمغاغير لا تلسعك لحناش، ربي في السماء والحاكم في الوطاء، استكفى بنفسك يا ولدي، هاك باش ترمي روحك في فم لفعى...". انتهى هذا العصر وطويت حقبته كما طويت خيبتنا واتضح أنّ السياسة في بلادنا قلعة محصّنة مسيّجة بالعسس والحرس، بداخلها عصابات تمارس كوكتالا من الانتهازيّة والكذب والابتزاز والسرقة والظلم، كنّا نظنّهم بداخل القلعة الكبيرة يبنون لنا مستقبلنا ويخططون لنهضتنا الموعودة وسيؤهلوننا ولو بعد حين لتصبح بلادنا نمرا إفريقيا على غرار نمور آسيا، فإذا بهم يتقاسمون الغنائم ويتبدالون الزطلة والويسكي كما يتبادلون أشياءً أخرى.. ويديرون الأقداح ليتعرّفوا على ضحيتهم القادمة من يكون أو من يكونون؟ أشخاص أو هيئات أو أحزاب... اليوم وبعد أن وضعت ثورة "سبعطاش أربعطاش" حدّا لاحتكار "رَاتْسَة" معيّنة للسياسة الرسميّة والسلطة في تونس على أولئك الذين مارسوا "التياتر والكاراكوز" السياسي أن يستحوا من الشعب ويتوقفوا عن التهريج المفضوح. نرسل هذا النداء لأنّ الكثير من هؤلاء ما زالوا ماضون في أساليبهم العتيقة وآخرها الشطحة المخضرمة التي مزج فيها السيد لزهر العكرمي بين رقص الداخل والخارج والتي عادت بنا إلى أساليب تشاوسسكو وأنور خوجة وحسين حبري ومنشية عبد الناصر ومصرحية 62 التي أبدع في استغلالها بورقيبة ليغطي عن جريمة فندق الرويال بفرانكفورت التي ذهب ضحيتها الزعيم صالح بن يوسف وليمهّد بها الطريق لإعلانه لاحقا رئيسا مدى الحياة. إشاعة الاغتيال التي أطلقها العكرمي وزكّاها مرزوق وبالحاج لم تكن محبكة بشكل يؤهّلها للعب الدور المرسوم، ويبدو أنّها لن تمكّنهم من الحصول على العائدات المرجوة التي على رأسها ابتزاز الحكومة وجلب تعاطف الشارع ولفت الأنظار إلى حزب نداء تونس، خاصّة إذا أخذنا في الحسبان أنّ تحرير المبادرة في مثل هذه الإشاعات سيجلب اهتماما واسعا داخل مجتمع ليس له في ثقافة الاغتيالات ولم يعرف الاغتيال السياسي المباشر إلا في عهد بورقيبة الذي تقمّص في عهده السيّد الباجي العديد من وزارات السّيادة أو في عهد بن علي الذي تقمّص أيضا الباجي في عهده رئاسة مجلس النوّاب، ما عدى هذا نحن بين ظهراني شعب من طبع نخبه التدافع السياسي الحادّ وأحيانا العنيف وحتى المشين لكن لم يرتقِ هذا التدافع إلى مستوى الاغتيالات التي تبقى غريبة على تربة تونس، فمثل هذا النوع من الجرائم لم يقع إشباعه أصلا بالتناول النظري بن نخبنا ناهيك على أن يتحوّل إلى طباع ثم يتنزّل إلى أفعال، الملفت للانتباه أنّ هذه الإشاعة لم تصدر عن تلك النخب المؤدلجة المتنافسة المتدافعة بحدّة إنّما صدرت عن جهة عايشت عن قرب جرائم الاغتيال السياسي ومرّ من أمامها الموت سنة 61 في طريقه إلى فرانكفورت ومن يدري لعلّها شيّعت أدواته حين همّت ثم استقبلتها حين أتمّت، وبعد أن أفلتت هذه الجهة من تبعات جريمة "حذاء الظلام" ها هي تجرّب حظها في "حذاء النهار". لا خلاف في أنّ الإشاعة التي أرادوها انشطاريّة تشغل القاصي والداني استحالت إلى فرقعات خاوية استوعبها المجتمع وسرعان ما حوّلهم من مهاجمين إلى مدافعين، واتضح أنّ النداء لم يكن بصدد صرخة نجدة وإنّما كان بصدد حركة ابتزاز يرغب من ورائها في توفير أسطول أمني على غرار المتوفر حاليا أمام سفارات الرسوم المسيئة من أجل حماية لقاءاتهم وتجمّعاتهم التي فشل الشعب في ضبط نفسه تجاهها كيف لا وهي التي أخرجها بالأمس منبوذة من الباب فعادت اليوم من الشباك كاملة كما كانت لم يتغير منها شيء ماعدى عشر سنوات أضافوها إلى رأس كان ذو 76 فأصبح ذو86 . الأمر المفزع ليس ما أعلنوه لأنّه لا يستغرب شيء من جماعة عمدت إلى النطيحة والمتردّية وما أكل "الضبع" وإلى المنبوذ والشاذّ، فجهّزت لهم إطارا وسوّلت لها نفسها فقدمتهم لتحكم بهم تونس الثورة، إنّما المنفزع حقا هو الدلالات التي خلّفها هذا الصنيع المشين لأنّه في اللحظة التي وقع الإعلان فيها عن هذه الإشاعة كانت الدولة عند هؤلاء تساوي صفرا وأنّه ما كان لأحد في قبيلة بدويّة معزولة في الصحراء أن يتجرأ ويطلق إشاعة مثل هذه في قبيلته ، فكيف بمن يعيش في بلد عريق ودولة خارجة لتوّها من كارثة دامت نصف قرن وهي بصدد امتصاص مخلفات عقود الدمار، تحاول تقديم ثورة شعبها كنموذج، وتحاول الارتقاء بها لتحتل مكانة مرموقة في صدر التاريخ !! إنّه حين تتجمّع فضلات اللؤم وتنحدر لتمتزج بالفتنة المغلظة ثم يخالطهما الكذب في أقصى زخمه وتتعاضد هذه العناصر عندها لا مناص من أن تنتج خلطة مبيدة ومادّة مدمرة، وحين تجنح السلطة الشرعيّة أمامها إلى الرفق والحلم والتجاوز تصبح شريكا كاملا في الجريمة.