كانت الساعة تشير إلى 7:45 من صباح يوم الأحد 26 فبراير الجاري عندما انطلق عدد من الصحافيين المغاربة، يمثلون منابر إعلامية مختلفة، متوجهين ضمن قافلة هندس طريقها نادي الصحافة بورزازات لإيصال معاناة مغاربة نتقاسم معهم جغرافية هذا البلد ونحمل نفس دمائهم .. غير أنهم يعانون في صمت، معاناة زادتها العزلة والتهميش والفقر مرارة قاتمة. على بعد 140 كلم في الشمال الغربي لمدينة ورزازات تمتد عدد من دواوير جماعة "أمي نولاون" كانت وجهتنا ضمن برنامج قافلة "فك العزلة" التي شارك فيها 13 صحافية وصحافي يمثلون الإعلام المكتوب والإلكتروني والمرئي والمسموع .. امتطينا ثلاث عربات رباعية الدفع نسابق الزمن لكشف أسرار ما وراء الجبال. كان سائق عربتنا الحاج أحمد رجل في الخمسينيات امتهن السياقة منذ الثمانينات بمثابة صمام أمان رحلتنا وخصوصا لما فهمنا من منظمي القافلة أن الطريق التي سنسلكها ليست كالطرق .. قلت في نفسي لن تكون بوعورة طريق سيدي رضوان نواحي وزان والدواوير المحيطة به خاصة الحلويين وتازيتة وونانة .. التي عشت وتنقلت بين مسالكها منذ الصبا.. لكني زدت نفسي اطمئنان وقلت في جميع الأحوال لن تكون بوعورة طريق "تيشكا" وما أدراك ما "تيشكا" .. حديث الطريق بعد أن تجاوزنا خط الرجعة في مسارنا ، بدأ كل منا يحاول أن يلهي نفسه بشيء ينسيه "حديث النفس" ووسوسة محاولة شرح "طريق ليست ككل الطرق" ؛ ففيما أمسكت زميلتين روايتين "الأنبوسة البيضاء" و "عندما يبكي الرجال" يحاولان من خلالها إلهاء نظرهما عن رؤية شكل المسار .. اخترت أنا وزميلي ابراهيم رئيس النادي أن ننبش في جدور بعض أسماء المدن وكانت البداية بورززات التي لها أكثر من معنى أقلهم تداولا "أسفل القدم" التي أصلها من الكلمة الأمازيغية "أورز" ..ثم معنى اسم الجماعة التي نحن متوجهين لها "أمي نولاون" والتي تعني "فم القلوب" . أغلقت زميلتنا روايتها " عندما يبكي الرجال" لتشاركنا معلومة حول اختلاف معاني ونطق بعض الكلمات الأمازيغية بين منطقة أمغران وورزازات ، حيث أن سكان مناجم الملح بأمغران ينطقون بعض حروف الامازيغية بشكل يجعل منها أقرب للغة أجنية فاسم عبد القادر ينطقوه " Avd elkader » . زميلة أخرى يبدو أن شبح "الطريق" لم يفارق مخيلتها حكت لنا كيف أنها بمعية أسرتها في إحدى زياراتهم لموطن والدتها في تازناخت خانتهم لوحة تشوير موضوعة بشكل خاطيء ليجدوا أنفسهم بعد ساعات مضطرين للمبيت في سيارتهم في الخلاء على نغمات أصوات الذئاب إلى أن أشرقت الشمس لترشدهم إلى طريقهم الذي كانوا يسلكونه في مناسبات عديدة. جد الديناصورات في طريقنا مررنا ب"تزوظة" بالمكان الذي اكتشف فيه "جد الديناصورات" في العالم .. ديناصور قيل أنه يعود لأكثر من 80 مليون سنة انتقلت عظامه لأحد مختبرات العاصمة .. وجزء منه انتقل عبر المحيطات إلى أمريكا.. ولازال أبناء المنطقة يحلمون بعودته لهم لعله بعود عليهم بمدخول إضافي ينمي سياحة للمنطقة التي أصبحت فيها صناعة السينما تعرف كسادا وتراجعا مستمرا. زواج عرض على الطريق وآخر انتهى باختطاف وبدأت الطريق تتحدث أو لنقل أننا بدأنا نغرس أنظارنا في موضع سير العربة ، بعد أن بدأت أجسامنا تهتز وتتمايل بعد أن سلكنا الجزء الثاني من "الطريق التي" .. ولنسمي الأمور بمسمياتها انها "البيست" التي ستوصلنا إلى وجهتنا .. هنا بادر الزميل ابراهيم لينقلنا على بساط الريح من خلال حكايتين حقيقيتين ؛ الأولى تناقلتها ألسن أجيال تلك المناطق منذ سنوات حيث كيف انتهت حفلة عروس بمنطقة "تندوت" الحدودية مع الجزائر باختطاف العروسة لمخيمات "البوليساريو" في ظروف قيل عنها الكثير .. والقصة الثانية لم يمر عليها أيام حيث وقع " أغرب عرض زواج" شهده الزميلين ابراهيم واسماعيل عندما أقلا سيدة وابنتها انهكهما طول انتظار "المركوب" بالطريق التي مررنا بها في اتجاه "فم القلوب" .. حيث فاجأتهما السيدة بأن عرضت عليهما تزويج أحدهما ابنتها.. عرض سريع وغريب .. لكن الحاج أحمد سائقنا تدخل وقال من خبرته مذيبا اندهاشنا واستغرابنا: إن الأم أحست بالاطمئنان .. ويبدوا أن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي هش جدا .. إنها تبحث عن ملاذ لابنتها ينقذها من "ذلك الجحيم" فهو بحث عن الخلاص عندما لا تبقى طاقة للتحمل . يريدون أقلاما فقط لم يكد الحاج أحمد ينهي كلامه حتى استوقتنا كوكبة من الأطفال الصغار يلوحون لنا بأيديهم التي مزقها البرد وحفر عليها خطوطا عميقة.. كانوا يقولون جملة ويكررونها .. كنا نلتفت إلى زملائنا ممن يعرفون الأمازيغية لعلهم يفكون لغز طلبهم .. فطالت حيرتهم أنفسهم فالكلمات ليست أمازيغية .. هنا تمعنا جيدا في الكلمات فإذا بها من لغة "موليير" وكانت بكل بساطة : سيدي اعطيني قلما .. انهم لايريدون قفازات جلدية تحمي جلدهم الضعيف ولايريدون نقودا يضعونها في جيوبهم المثقوبة .. بل يريدون أقلاما يتعلمون بها الكتابة .. ما أقسى الجبل ونحن لازلنا في بداية طريقنا .. وما أقسى قلوب من تحملوا مسؤولية رعاية شؤون العباد إذا كانوا يعرفون بذلك .. و أما إذا كانوا لايعرفون فتلك طامة كبرى .. يبدو أن تلك الطريق فعلا ليست ككل الطرق .. بل هكذا بدأنا نقتنع .. طريق يبدوا أنها حنت لقوافل الدعم والمساندة .. طريق يسبقنا في سلكها سياح أجانب أو "مبشرون" بنعيم آخر .. حتى بدونا في عيون "أبناء الجبل" مثل أولئك .. فكوكبة العربات رباعية الدفع غير مألوفة لديهم إلا مع أولئك أو أولئك .. أعطيانهم ما نملك من أقلام وياليتنا كنا نعرف أنه في أدغال جبال منسية سيطلب "القلم". ودعناهم ونحن في صدمة أو سميها ما شئت .. لكن ظل الصمت رفيق دربنا لما تبقى من رحلتنا التي تجاوزت الأربع ساعات .. كانت كافية لتجعل كل واحد فينا يشعر فعلا أننا نقترب من منطقة ستعصف بكل نخيلاتنا عن معنى "الألم" و "الفقر" والتهميش" .. وفعلا كان ما سلكناه من طريق معبدة وغير معبدة بل والجزء الأكبر منها غير مصنف في أي خانة لأنها فقط مسلك من ثلاثة أمتار يستحيل فيه ممارسة أي بند من بنود قانون السياقة ؛ لايوجد تجاوز، ولا تقابل ولا تشوير .. ولا امان من المنحدرات أو الحواشي .. والاكثر من ذلك كانت طريقا أصبحنا فيها أشبه بجرات لبن تنخض في كل الاتجاهات وبدون رحمة.. فكانت فعلا الطريق فقط ذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة. فترقبوا الجزء الثاني قريبا...... شاهد الصور بعدسة عادل اقليعي خاص أون مغاربية: