أحيانا، يصنع الأغبياء التاريخ بأكثر مما يفعل الأذكياء، وقد كان قرار ترامب الأخير نعمة لا نقمة، فالرئيس الأمريكي المهووس بغباوته العقلية والإنسانية، لم يصنع واقعا جديدا بقراره إعلان القدس عاصمة لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، لم يصنع جديدا في موقف واشنطن المندمج استراتيجيا مع إسرائيل، ولا في وضع القدس الجاثمة تحت الاحتلال، لكنه صنع روحا جديدة ضد طغيان أمريكا واحتلال إسرائيل. وربما لولا القرار الغبي، ما تخلقت هذه الروح الجديدة في شعوب الأمة، وعودة الاهتمام المكثف بقضية فلسطينوالقدس، بعد أن كانت قد نسيت تقريبا، وحل محلها الاهتمام بمآسي العرب والمسلمين التي لا تحصى، وبالحروب الأهلية الكافرة الجارية لاتزال في المشرق العربي، وحروب الطوائف السنية والشيعية من حول الخليج العربي، وحروب حصار مصر من جنوبها وغربها، وكلها أوضاع تستحق الاهتمام والتركيز فعلا، لكن البوصلة فيها تضيع، لو ضاع الاهتمام بفلسطين أولا، وهو ما بدا أنه عائد بقوة مع مضاعفات قرار ترامب، وانتفاضات الغضب في الشوارع والميادين، ووقوع الأنظمة البترولية في الحرج، وانكشاف مؤامراتها وصلاتها العلنية والسرية مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، ووعودها لترامب بتصفية القضة الفلسطينية، وترتيباتها لمنح الفلسطينيين عشرة مليارات دولار «خلو رجل»، مقابل توديع حلم استعادة فلسطين إلى الأبد، في سياق ما كانوا يعدون له باسم «صفقة القرن»، وقد احترقت أوراق القصة المريبة تماما، وانتهت إلى العدم بجرة قلم توقيع دونالد ترامب على قراره الغبي. نعم، لم تعد القصة أن تعجل واشنطن أو أن تؤجل نقل سفاراتها إلى القدسالمحتلة، فتلك مسألة صورية تماما، بل قائمة عمليا من وقت طويل، وقرارها متخذ في الكونغرس الأمريكي قبل 22 سنة من قرار ترامب، لكن فضل ترامب لا ينكر، فهو الذي قذف بالصدمة إلى قلب الوجدان العربي والإسلامي والمسيحي الشرقي، ونبّه أهلنا إلى ما كانوا نسوه أو تناسوه من أمر القدسوفلسطين، وأعاد رسم صورة أمريكا كعدو لحقوق أمتنا، ولأي نهوض عربي أو إسلامي، وهو ما حشر أتباع أمريكا في «خانة اليك»، وكشف حقيقتهم كأعداء للقدس وعروبتها، بقدر ما هم عملاء للعم سام في واشنطن، ولكعبتهم التي هي في البيت الأبيض لا في مكةالمكرمة، وهم يحجون إليها بمشايخهم المعتوهين، وبمئات المليارات من الدولارات يدفعونها إلى حقائب ترامب، بينما هو يمعن في إذلالهم، ودفعهم إلى حروب عبثية لا نهاية لها، تستنزف ما تبقى لهم من فوائض مالية، وهو ما بدا أن مصر الرسمية تنأى عنه، وتصحح خطأ وخطيئة الرهان الخاسر على ترامب، وتدخل المشهد الأخير من خريف أمريكا في مصر، وتنهي ما تبقى من سطوة واشنطن على القرار المصري، وتستعيد تدريجيا بوصلتها العربية القومية، وتزيد من أثر المكون الفلسطيني في قرارها اليومي، وتكسب نفسها بقدر ما تكسب فلسطين. فقد كانت فلسطين دائما مصنعا للوطنية المصرية، وتلك كلها من ترامب وقراره الأغبى بامتياز. وفي قلب دائرة الصراع الكبرى، لم يخسر الفلسطينيون شيئا جديدا بسبب قرار ترامب، بل كسبوا خسارة الأوهام، وزوال ما كان يدبر لهم من وراء ستار، وإحباط جريمة القرن التي سموها «صفقة القرن»، ولم يعد بين الفلسطينيين والحقيقة حجاب ولا حاجز، فلا سلام مما كانوا يوعدون، ولا دولة فلسطينية ولا شبه دولة، ولا مفاوضات تبدأ فلا تنتهي، وتطارد شبحا مراوغا اسمه «حل الدولتين»، روجت له واشنطن خدمة لإسرائيل، وتولت إسرائيل بنفسها تحطيم ركائزه، عبر تهويد القدس واستيطان الضفة الغربية، ولم تترك للواهمين سوى بقايا موائد، ونقاط جغرافيا متناثرة، نزعت عنها رأسها في القدس، ولا تفترق في شيء عن الوضع الراهن تحت الاحتلال، وحيث توجد ما تسمى «سلطة فلسطينية»، لا تؤدي ما هو أبعد من دور الحكم الذاتي لسكان دون الأرض، وبغير سيادة ولا قوة عسكرية حامية، وهو ما كان يراد توسيعه قليلا، وإطلاق اسم «الدولة الفلسطينية» عليه، وصناعة دولة بلا دولة، لا تزيد عن كونها قبضة هواء، ومع ترك القدس للاحتلال والتهويد إلى ما لا نهاية. وربما لا يكون مطلوبا من الفلسطينيين الآن أن يعلنوا حربا، بل أن يسقطوا من حسابهم أوهام السلام، لا برعاية الوسيط الأمريكي المزعوم، ولا برعاية أي وسيط دولي آخر، فقد آلت كل الوساطات إلى فشل عظيم، ولم يعد أحد يذكر سيرة ما كان يسمى «الرباعية الدولية»، التي تضم أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة، التي يتحدثون الآن عن توسيعها، وكأن توسيع الخيبة يحولها إلى إنجاز، وهذا كله ضلال بعيد وقريب، يستحق من يروجون له العقاب، حتى لو أطلقوا على أنفسهم تسمية «السلطة الفلسطينية»، التي ولدت مع اتفاقية أوسلو 1993، ووعدوا الفلسطينيين وقتها بدولة في غزة والضفة عاصمتهما القدس بحلول 1999، ثم لم يكن من شيء غير سراب يبتعد، وغير تحول السلطة الفلسطينية إلى نعمة للاحتلال الإسرائيلي، تحمل عنه أعباء وتكاليف إعاشة الفلسطينيين والتحكم بسلوكهم، والتنسيق الأمني مع سلطة الاحتلال، ومطاردة وتفكيك أي تنظيمات أو خلايا فدائية، وتجديد سير المفاوضات العبثية، وإيهام الفلسطينيين بأنهم يفعلون شيئا ما. وبالوسع، لو حسنت النيات واستقامت المقاصد، حرمان إسرائيل من نعمة هذه «السلطة الفلسطينية»، وإعلان حلها وإنهاء سيرة أوسلو، وهو ما يمكن تنفيذه فورا، وبجرة قلم تصنع قرارا بلا وسطاء، يقلب المائدة على أمريكا وإسرائيل معا، ومن دون أن يخسر الفلسطينيون شيئا سوى قيودهم، وسوى ورطات وتكاليف مال وتوظيف لجماعات المنتفعين بالاحتلال المقنع، وهو ما يوقع إسرائيل في مأزق الاحتلال المكلف ثانية، فسوف تضطر إلى نشر قواتها من جديد في قلب المدن الكبرى في الضفة الغربية، لا أن تبقى آمنة خارج المدن، عند الحواجز، وعلى خطوط الاستيطان اليهودي، وعودة القوات الإسرائيلية إلى قلب المدن، توفر الفرصة المثلى لتصعيد حركة الكفاح الفلسطيني، حتى لو جرى بصورة سلمية تماما، وبما ملكت الأيدي من حجارة، وفي صورة حشود ومظاهرات غضب شعبي، يجري تنظيمها في أيام محددة من كل أسبوع، فيما يحتفظ الفلسطينيون بمرجعيتهم الوطنية، ويردون الاعتبار إلى «منظمة التحرير» كإطار كفاحي جامع، يضم إليه حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، ويقود الحركة الفلسطينية العامة في الضفة وغزةوالقدس وما وراء الخط الأخضر ومواطن اللجوء والشتات، ويمثل وحده الفلسطينيين عربيا ودوليا، ولمنظمة التحرير بالفعل تمثيلها الدولي حتى في الأممالمتحدة، ومن شأن وحدة الصوت الفلسطيني الكفاحي، والحرص على استخدام طرق المقاومة المناسبة في الأوقات المناسبة، أن تزيد من اعتراف الدنيا وشعوبها بالحق الفلسطيني، وأن ترد للقضية الفلسطينية اعتبارها كحركة تحرير وطني، لا كسلطة مظهرية بائسة، تطلب أموالا ومعونات، وتمكن الاحتلال الإسرائيلي من رقبة الشعب الفلسطيني، وتزور حقيقة قضيته. ومع تحطيم قيد «السلطة الفلسطينية»، وإشهار تطليق خدعة أوسلو، فلا بد من إعادة النجوم لمداراتها، ورد اعتبار معنى الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف، وإعادة تأكيد حق تحرير فلسطين كاملة من نهر الأردن حتى البحر المتوسط، وتحطيم تحكم السلطة الصهيونية النازية على مراحل، وجعل الهدف بناء دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين كلها، تتساوى فيها الحقوق، ويزيد التأثير الفلسطيني فيها باطراد مع تزايد الغلبة السكانية للفلسطينيين فوق أرضهم المقدسة، فعدد الفلسطينيين اليوم يساوى عدد اليهود في فلسطينالمحتلة، ومع كل سنة تمر، وكل عقد يمضي إلى أواسط القرن الجاري، يزيد عدد الفلسطينيين بأضعاف ما يزيد عدد اليهود، وتصبح الغالبية السكانية للفلسطينيين، وتسقط حواجز الوهم بين قضية الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة بعدوان 1967، وجذره التاريخي في الأرض المحتلة بنكبة 1948، وهذا ما يفزع إسرائيل، التي تملك كل أسلحة الدنيا، لكنها لم تعد تملك مددا بشريا يرفد احتلالها الاستيطاني، وليس بوسعها إبادة الفلسطينيين ولا طردهم، وهذه نقطة الضعف الكبرى في المشروع الصهيوني الآن، ونقطة القوة الجوهرية في الكفاح الفلسطيني المنتصر حتما بإذن الله، ليس في القدس وحدها، بل في فلسطين كلها.