لا ينكر أي متابع للمشهد السياسي المغربي والعملية التي تم بها تشكيل هذا المولود الحكومي الجديد، أي حكومة سعد الدين العثماني بعد إقالة سلفه السابق عبد الإله بنكيران، وكيف أسفرت هذه الوصفة السحرية عن تغيير في الخارطة الحكومية، مدى المهزلة والإستهتار بنتائج السابع من أكتوبر، وبعد ستة أشهر من المشاورات السياسية بين حزب العدالة والتنمية وباقي الأحزاب السياسية، تظهر أيضا مدى الإستهتار بثقة الشعب المغربي في العملية الإنتخابية التي قدمها للفاعل السياسي في بناء دولة ديمقراطية تكرس المسار الإصلاحي الذي بدأ منذ دستور 2011، وبناء دولة المؤسسات القوية، فالمتابع لما جرى في حكومة العثماني التي خرجت للعلن كمولود خرج من سم الخياط تمثل درجة الإنبطاح في أرقى مسمياته، الإنبطاح الذي خضع له سعد الدين العثماني بدون قيد أو شرط. فالأمر يتعلق بصراع سياسي قديم جديد في المغرب ظهر منذ سنة 1956 تاريخ استقلال المغرب، وهو ازدواجية مرجعية اتخاذ القرار، هل هو الحزب الأول المتصدر لنتائج الإنتخابات حسب ما تقتضيه الأعراف والنظم الديمقراطية في المغرب، أم المؤسسة الملكية التي ظلت تعتبر منذ سنوات خلت أن السلطة السياسية في المغرب معادلة غير قابلة للقسمة، وأن هناك ديمقراطية مخزنية على الطراز المغربي، وكانت بصمات هذا الصراع تتجلى في تعيين امبارك البكاي أول رئيس للحكومة بعد استقلال المغرب، للحد من نفوذ حزب الإستقلال القوة السياسية الأولى في البلاد، والمسيطر على المشهد السياسي آنذاك بنسبة 90 في المائة، والذي كان يطالب بملكية دستورية تحد من اختصاصات الملك محمد الخامس وتجعل منه الحزب الواحد في النظام السياسي المغربي بدون منازع، ورغم كل ما قدمه حزب الإستقلال من خدمات للمخزن، تتجسد في مفاوضات ايكس ليبان بعودة الملك محمد الخامس الى تصفية جيش التحرير وعمليات الإغتيالات التي قامت بها ميليشيات الحزب وأجهزة محمد الغزاوي المنتمي بدوره إلى حزب الإستقلال ضد جيش التحرير، فقد كان المخزن ينظر إلى حزب الإستقلال بعين الريبة تجعل منه منافسا في أحقية الشرعية الثورية بالمغرب، فعمد الى خلط الأوراق في الساحة السياسية عبر تأسيس أحزاب إدارية من شخصيات معروفة بقربها من البلاط لم تكن تملك القراءة السياسية ولا أي برنامج تنفيذي كما هو الحال مع الحركة الشعبية أو عبر تشجيع انتفاضات ضد هيمنة حزب الاستقلال لسحب البساط منه كانتفاضة الحسن اليوسي في صفرو وعدي وبيهي في منطقة الريش. إذا تأملنا في أوجه الشبه بين حزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال، رغم اختلاف السياق التاريخي والزمن السياسي بين المرحلتين، مع الاختلاف في طبيعتي المرحلتين، فمرحلة حزب العدالة والتنمية كانت تتعلق بمرحلة استثنائية في تاريخ الحياة السياسية المغربية وهو مسار الإصلاح والانتقال الديمقراطي، لعب فيها الحزب دور إطفاء الحرائق ورفع فيها شعار (الإصلاح في ظل الإستقرار) وممارسة العمل السياسي من داخل المؤسسات وليس التغيير الجذري الذي لا يخرج عن سياق تكريس بنية السلطة، أو الرهان الإستراتيجي الذي راهنت عليه العديد من الفئات الإجتماعية في حزب العدالة والتنمية إبان الحراك الفبرايري، بإعادة توازن المؤسسات، وحين لم يتبقى للاستحقاقات التشريعية في السابع من أكتوبر، ستة أشهر كمحطة ثانية في الإنتقال الديمقراطي، عبأت السلطة جميع ترسانتها الإعلامية والأمنية وأذرعها الجمعوية والحزبية لتشويه سمعة الحزب والإجهاز على ما تبقى من قاعدته الشعبية لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، ليفوز حزب العدالة والتنمية مرة أخرى، وهو ما شكل صدمة للقوى الرافضة للديمقراطية في المغرب. حين نتأمل العملية الجراحية التي تم عن طريقها إخراج حكومة سعد الدين العثماني الى الوجود، فنرى أنه: تم إفراغ صناديق الإقتراع من محتواها، وأن لا صوت يعلوا فوق صوت المخزن، وسيتم هندسة العمل السياسي طبقا للتوازن الذي تقتضيه قواعد اللعبة في المغرب منذ الزمن القديم، وسيصبح حزب العدالة والتنمية مثل باقي الأحزاب الإدارية الأخرى، وستنعكس صورته سلبا على الرأي العام الذي كان ينظر سابقا الى حزب العدالة والتنمية كحزب يختلف عن باقي الأحزاب (الإدارية) نظرا لما كان يشاع عن استقلالية قراره الحزبي وانضباط أجهزته التقريرية وخضوعها للقرار الجماعي، وهذا ما كان يميز الحزب عن باقي الأحزاب الأخرى التي كانت عبارة عن دكاكين انتخابية تتحرك بالريموت كنترول. الآن الدكتور سعد الدين العثماني لم ينتهج أسلوب المناورة في مشاورات إخراج هذه الحكومة، بل خضع تماما لشروط عزيز أخنوش وابتزازاته بدون قيد أو شرط، وقبل بمشاركة الاتحاد الاشتراكي في هذا المولود الجديد وهو ما رفضه عبد الإله بنكيران بطعم الهزيمة بعد أن استبعد أخنوش حزب الاستقلال في المشاورات السابقة بطعم النصر، رغم أن ادريس لشكر الكاتب العام للاتحاد الاشتراكي كان هو العقبة الكأداء في عرقلة المشاورات السابقة، كل هذا سيؤدي تماما الى فقدان المواطن المغربي الثقة في هذا الحزب (العدالة والتنمية) وأنه حزب قبل بالانحناء للعاصفة على حساب نهجه السياسي و" ديمقراطيته الداخلية". الذي يطالب بعدم تحميل حزب العدالة والتنمية أكثر مما لا يطيق، وأن ممارسات الحزب وأدبياته تقدمه على أنه فضل الاشتغال من داخل المؤسسات وأن رهانات الحزب ليس رهانا استراتيجية سيساهم في تغيير بنية السلطة والمس بجوهرها، فيجب أن لا ينسى بأن تصريحات قيادات الحزب كعبد الإله بنكيران وعزيز الرباح وأفتاتي كلها كانت تصب في اتجاه واحد وأساسي: وهو مواجهة (التحكم) والمقصود بالتحكم: هو القوى السلطوية المضادة للديمقراطية التي تريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء واحتكار صناعة القرار في المغرب بأدوات سلطوية، بالإضافة الى لوبيات الفساد التي تتحكم في الريع الإقتصادي، وهذا ما جعل العديد من الفئات الإجتماعية تراهن على حزب العدالة والتنمية في ثلاثة استحقاقات (تشريعية وجماعية)، لكن الأخير خان ثقة الشعب فيه، وأن هذه التصريحات الأشبه بالثورية، لم تعد سوى مجرد مفرقعات هوائية تم إفراغها من محتواها منذ زمن بعيد. بقلم: محمد أجغوغ