هو محمد بن عبد الله بن سعيد اللوشي الأصل الغرناطي الأندلسي اشتهر باسم لسان الدين بن الخطيب، وقد ولد ابن الخطيب سنة 713 ه ووافته المنية سنة 776ه ، كان ابن الخطيب طبيبا و مؤرخا وفقيها وفيلسوفا لم يترك فنا يدرس في عصره إلا غاص في مجاهيل بحوره وعاد منها بأنفس الدرر، فهو الطبيب حين ألف عن الطاعون "منقذ السائل في المرض الهائل" والمؤرخ حين يكتب "الإحاطة في أخبار غرناطة"، والشاعر حين يهز أبهاء قصور بني مرين و بني الأحمر بمطولاته في مدح ملوكهما ينقش لهم بسحر بيانه في جبين التاريخ ما يخلد ذكرهم بين الورى إلى أن يرث الله الأرض و ما عليها. وقد تميز ابن الخطيب في كتابته للتاريخ بمنهج مخالف لمن سبقه فقد اعتمد على وصف الحالة الاجتماعية والاقتصادية لساكنة البلدان التي أرخ لها دون إغفال الجغرافية و عادات الناس وهو ما لم يسبقه إليه من ألف في هذا الفن ففي "نفاضة الجراب" يقول عن أغمات "ثم أتينا مدينة أغمات في بسيط سهل موطأ لا نشز فيه، ينال جميعه السقي الرغد و سورها محمر التراب". ويصف لنا استقبال السلطان في "خطرة الطيف" من قبل بعض السكان فيقول" واختلط النساء بالرجال، و التقى أرباب الحجا بربات الجمال، فلم نفرق بين السلاح و العيون الملاح، ولا بين البنود حمر الخدود " إن سيرة ابن الخطيب أغنى من أن نحيط بها في مقامنا هذا و لكن ذلك لا يمنع من أن نستعرض أبرز المحطات التي عرفتها حياة الرجل، فهي تقدم بحق صورة نابضة بالعبر عن مرحلة الضعف التي شهدتها بلاد الأندلس على عهد ملوك بني الأحمر قبل أفول نجم المسلمين فيها، بيد أن الضعف السياسي الذي أرخى سدوله على غرناطة و بلاد المغرب الأقصى بسبب الصراع حول السلطة و المناصب الوزارية قابلته نهضة علمية كان ابن الخطيب نفسه أحد أعمدتها، فذو العمرين الذي كان يفني نهاره في شؤون السياسة و يهرع إلى التأليف والدرس ليلا خلف ما يفوق ستين مؤلفا في مختلف الفنون و العلوم وهو إن أخفق في حياته السياسية ولم يبلغ كل مطامحه فلم يخفق في مساره العلمي ،و لذلك حين نعرض لسيرته فإننا نتحدث عن رجلين لا رجل واحد يفيد أحدهما من موهبة الآخر بقدر ما يكبح جماحها ،أو لم تكن دسائس القصور و مؤامرات رجال السياسة و بالا على لسان الدين تصرفه عن الإبحار في أسفاره ومؤلفاته و تشغل ذهنه عن التأليف أياما و شهورا؟ ثم كيف لمن يمضي شطرا مهما من عمره بين المصنفات و المراجع أن يضطلع بأعباء الدولة؟ و ما أشقها في قصر الحمراء الذي ما كانت تخمد فيه فتنة حتى تشب أخرى… عاصر ابن الخطيب ثلة من كبار العلماء بغرناطةوفاس أخذ عنهم وأخذوا عنه، وقد ترعرع في رحاب قصر الحمراء إلى جوار أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل ملك غرناطة فهو سليل بني الوزير ورث الرياسة في السياسة والعلم كابرا عن كابر حتى لقب بذي الوزارتين ،وزارة السيف و القلم ،وحين تولى رفيق دربه أبو الحجاج قربه منه و في ديوانه زبدة رجال غرناطة كأبي الحسن بن الجياب الذي كان له أبلغ الأثر في حياة ابن الخطيب، و العلامة أبو القاسم بن جزي الكلبي الذي استشهد في موقعة طريف والقاضي محمد بن يحيى الأنصاري شهيد طريف، و أبي عبد الله اللوشي. وخارج أسوار غرناطة اتصل ابن الخطيب بالشريف أبي العباس السبتي وابن خلدون و أبي عبد الله محمد بن مرزوق وجمهور من نوابغ عصره ممن ملأ ذكرهم فاسوغرناطة على حد سواء ،أخذ لسان الدين على عاتقه أمانة تذويب الخلاف بين بني مرين و بني الأحمر فسفر لأجل ذلك نحو فاس مرات ومرات و سخر قلمه لهذه المهمة النبيلة تخذوه آمال عظام في إعادة أمجاد الأندلس الغابرة وبذل وسعه لأجل هذه الغاية إلى أن عاجلته المنية، فهاهو يشير على أبي الحجاج بنصرة أبي الحسن المريني في حربه على ملوك الإسبان و البرتغال فيخرج أبو الحجاج على رأس جيش مؤلف من جند غرناطة وفرسانها المتطوعين للدفاع عن راية الإسلام ،و يشاء الله أن يهزم جيش المسلمين في موقعة طريف و أن يفقد ابن الخطيب فيها والده و أخاه في موقعة أبلى فيها المسلمون أفضل البلاء و كان لهذه الموقعة التي خلدها ابن الخطيب في شعره أثرها في نفسه ،فقد حصدت خيرة علماء غرناطة و لم يسلم منها أمراء المسلمين الذين كانوا في طليعة الجيش ، إذ وقع تاشفين بن أبي الحسن في الأسر و مثل بزوجتيه عائشة وفاطمة أبشع تمثيل بعد قتلهما وهما تقدمان أروع مثال على شجاعة المرأة المغربية المسلمة في ساح الوغى. و تأبى المصائب أن تأتي فرادى فقد أصاب الطاعون غرناطة و أخذ شيخ ابن الخطيب "ابن الجياب" فكان ذلك باعثا للطبيب الكامن في دواخل لسان الدين كي يؤلف في هذا الوباء الفتاك "منقذ السائل في المرض الهائل "و يخلو قصر الحمراء من علم ابن الجياب فلا يسد مسده غير تلميذه النجيب لسان الدين، وما أن يتهيأ للاضطلاع بمسؤوليات شيخه حتى تعترض سبيله عقبة كؤود، فهذا أبو الحسن المريني يتوفاه الأجل، فيلجأ ولداه أبو سالم وأبو الفضل إلى كنف الحجاج فرارا من أبي عنان ملك فاس الجديد… مما أثار حفيظة أبي عنان فأرسل إلى أبي الحجاج رسالة وعيد ارتعدت لها فرائصه ،وكيف لايهتز فرقا و أبو عنان واحد من ملوك المغرب الذين يحسب لهم ملوك الإسبان وملوك قشتالة وليون والبرتغال ألف حساب، ويزداد الوضع خطورة حين يشتري أبو الفضل عون الإسبان بمعسول الأماني و الوعود وينزل بمعيتهم بشواطئ سوس لإحداث الفوضى بالمغرب، إلا أن أبا عنان أجهض مساعيهم ،وهنا تظهر موهبة لسان الدين فينتقي من عيون الكلم رسالة جعلت أبا عنان يترنم طربا كلما تدبر شيئا من معانيها …"و إنا من لدن صدر عن أخيكم أبي الفضل ما صدر من الانقياد لخدع الآمال و الاعتزاز بموارد الآل، وفال رأيه في اقتحام الأهوال و ناصب من أمركم السعيد جبلا قضى الله له بالاستقرار و الاستقلال ومن ذا يزاحم الأطواد و يزحزح الجبال" و ما إن ينهي أبو عنان الرسالة حتى يذهب به سحر مضامينها كل مذهب، وهو الشاعر العالم الذي يعرف للكلمة قدرها و يحسب لوقعها حسابه… فينظر إلى خاصته قائلا: كذلك ينبغي أن يكتب الكتاب أو فليكسروا أقلامهم، وبذلك تنتهي الجفوة بين بني الأحمر وبني مرين و تعود الأمور إلى سابق عهدها و من ثم يؤسس ابن الخطيب للبيان دولة ترتفع فوق تيجان الملوك يخضعون لسحرها كما لا يخضعون لسطوة السيف. وتمضي الأيام فإذا الحمراء أمام رجة أخرى كادت أن تأتي على بنيانها فقد اغتيل أبو الحجاج صبيحة العيد وهو يؤدي الصلاة سنة 755 ه و كانت وفاته كارثة عظمى اجتاحت غرناطة إذ فقدت فيه رجلا تواقا للمجد رغم ضعف دولته،وقد خلف ثلاثة أولاد هم قيس ومحمد و إسماعيل وكانت أم إسماعيل أحب نسائه إليه، أخذت منه في حياته وعدا بتولية ابنها، فكادت أن تشعل في الأندلس فتنة شبيهة بتلك التي أوقدت نارها زبيدة في بغداد ،لكن ابن الخطيب حال دون ذلك فقد وقف بمعية الحاجب رضوان سدا منيعا أمام مؤامرات أم إسماعيل و كانا سببا في تنصيب معمد الغني بالله على عرش غرناطة، وقد تفاقم خطر الإسبان بعد موت أبي الحجاج فاتجه ابن الخطيب صوب فاس للحصول على دعم ملكها أبي عنان، فمن لجحافل المسيحيين الذين يتربصون بآخر معاقل الوجود الإسلامي في الأندلس الدوائر غير ملوك المغرب و فرسانه يذكرونهم بأيام الزلاقة و الأرك و أمجاد يعقوب المنصور المريني… يقول أبو القاسم السبتي عن هذه السفارة "لم يجر في أخبار من سفروا للملوك أنهم أجيبوا إلى أغراض سفارتهم قبل بسطها والخوض فيها غير ابن الخطيب"، فما هو إلا أن طرق مسا مع أبي عنان مديح لسان الدين فيه حتى بشره بإجابته إلى كل ما يريد ،و ماذا يريد ابن الخطيب غير وعد شريف بالدفاع عن حوزة غرناطة إذا أرادها عدوها و عدو المغرب بسوء؟ ! ومرة أخرى تعصف المؤامرات و الدسائس باستقرار غرناطة فينقض أبو عبد الله محمد بن إسماعيل على الغني بالله و ينصب أخاه إسماعيل على عرش غرناطة بعد أن سفك دم رضوان الحاجب وقد بذل أبو عبد الله هذا جهده في استمالة ابن الخطيب ليضفي بعضا من الشرعية على نظام حكمه إلا أن لسان الدين آثر السجن على ممالأة القتلة و قد تزامن انقلاب أبي عبد الله مع اغتيال أبي عنان و تولي أخيه أبي سالم، وكان أبو سالم محبا لابن الخطيب، فلم يرضه أن يتركه في أغلاله فبعث لأبي عبد الله يسأله بأن يطلق سراح لسان الدين و أن يخلي بين الغني بالله المحاصر في وادي آش وبين اللحاق به في فاس فأذعن أبو عبد الله على مضض خاصة بعد قتله لإسماعيل و اضطراب أحوال غرناطة من حوله …وفي كنف أبي سالم لقي لسان الدين من حسن الجوار ما أنساه وحشة السجن و ثقل أغلاله….. ويذكر التاريخ هنا أن لسان الدين نزع نحو التصوف وزهد في الدنيا و متاعها بعد أن خبر من قسوة الدهر ما زعزع ثقته في دوام النعماء و رغد العيش، وهجع ابن الخطيب إلى كتبه يأنس إليها بعد أن استوحش من مصائب السياسة و تقلباتها وهنا تنقل بين مراكش وسلا و فاس و توطدت أواصر الصداقة بينه وبين ابن خلدون …وعلى قبر المعتمد بأغمات الذي قسا عليه الدهر تماما كما قسا على لسان الدين كتب شاعرنا قصيدته الخالدة التي يجدها الزائر لقبر ابن عباد منقوشة داخل ضريحه إلى اليوم : قد زرت قبرك عن طوع بأغمات رأيت ذلك من أولى المهمات لم لا أزورك يا أندى الملوك يدا و يا سراج الليالي المد لهمات ثم اتصل لسان الدين بالزاهد أبي العباس بن عاشر فتأثر به و لزم قبور بني مرين بشالة لا يبرحها و كأنه استيأس من إصلاح حال الأندلس فاستعاض عن أمجاد الحكم والسلطان بأمجاد اليراع التي لا تبلى…. غير أن الحمراء التي لا تهدأ لفظت أبا عبد الله الذي فر إلى ملوك إسبانيا لا يلوي على شيء ففتكوا به، وعاد الغني بالله إلى عرشه ولم ينس أيادي ابن الخطيب فبعث في طلبه و ألح عليه وبعد تردد عاد ابن الخطيب و قد عاودته أحلامه القديمة و أبرقت الأماني أمام عينيه مجددا تنير له طريق المجد والسؤدد…. و في غرناطة أصبحت له اليد الطولى في تصريف شؤون البلاد و العباد لا ينازعه في ذلك منازع، فأغاظ ذلك أقرب مقربيه فراحوا يدسون له ويغرون الغني بالله به بعد تعاظم نفوذه و يصورنه له خطرا داهما على عرشه ،و قد كان سببا في توطيد دعائمه إلى عهد قريب ،فما أسرع ما ينسى من كان في مقام الأمر والنهي أيادي غيره عليه ،و قد أحس لسان الدين من الغنى بالله جفوة لم يعهدها وما هو إلا أن بدأ في البحث عن أصل هذه الجفوة حتى تجلت له الحقيقة بغيضة ذميمة الوجه، فليس غير صنيعته وتلميذه المقرب ابن زمرك من تولى كبر الدس عليه يمالئه أبو الحسن النباهي المالقي الذي كان للسان الدين عليه أيادي سابغات…فضاق شاعرنا بغرناطة ذرعا وبأهلها وكان في الماضي لا يصبر على فراقها ،فكتب للسلطان عبد العزيز يخبره برغبته في الالتحاق به فاستقبله هذا استقبال الملوك وأنزله منه بأكرم منزلة، وكذلك كان لسان الدين ملكا في دولة الأدب لا ينافسه في مملكته أحد…وفي كنف السلطان عبد العزيز عاوده حلم إعادة الاستقرار لمهوى الفؤاد ومرتع الصبا فأشار على السلطان عبد العزيز بغزو الأندلس تأسيا بسلفه يوسف بن تاشفين غير أن المرض لم يمهل السلطان فأرداه ولم يكن لعبد العزيز غير صبي لما يبلغ الحلم فرفض علماء فاس بيعته ،وكان الوصي عليه الوزير أبو بكر بن غازي من محبي ابن الخطيب ، فلم يأل جهدا في رد كيد خصومه والوقوف في وجه أطماعهم في النيل من ذي الوزارتين،ولما ثار الناس على ابن غازي والخليفة الصغير أبي زيان سخر ابن الخطيب قلمه في الدفاع عن صديقه وابن ولي نعمته فألف كتابه "إعلام الأعلام فيمن بويع قبل الإحتلام"وتنكرت الأيام لإبن الخطيب كعادتها وقلبت له ظهر المجن فلم يصمد ابن غازي أمام حملة عبد الرحمان بن أبي يفلوسن وأحمد بن إبرا هيم طويلا إذ سرعان ما سيتمكنا بدعم من الغني بالله من دخول فاس واعتقال ابن الخطيب ليوافيهم ابن زمرك بفاس ليشفي غل صدره من شيخه وأستاذه…اتهم ابن الخطيب بالزندقة والإلحاد ومخالفة أحكام الشريعة والاستخفاف بها وقد شحذ القاضي أبو الحسن أحقاده لتنميق صكوك الاتهام في حق من رفعه لسنيات الرتب أيام عزه، وكان صدر النباهي يموج حقدا على لسان الدين خاصة بعد أن ألف في الرد عليه كتابه "خلع الرسن في وصف القاضي أبي الحسن " فامتدت إليه أيادي خصومه بسجنه في مدينة فاس فخنقته ثم دفن بها ،ولم يشف كل ما تقدم صدور أعدائه منه فنبشوا قبره وأحرقوا جثته ،وما زالت باب المحروق اليوم شاهدة على شناعة صنيعهم ،وقبيل وفاته رثى نفسه وقد استيقن أن من بفاس يومها لا يرثيه منهم أحد فهم بين حاقد عليه راض بما آل إليه حاله وبين خائف من خصومه لا يجرؤ على إغضابهم : بعدنا وإن جاورتنا البيوت وجئنا بوعظ ونحن صموت وأنفاسنا سكنت دفعة كجهر الصلاة تلاه القنوت وكنا شموس سماء العلا غربنا فناحت علينا السموت فقل للعدا ذهب ابن الخطيب وفات من ذا الذي لا يفوت ومن كان يفرح منهم له فقل يفرح اليوم من لا يموت .