وهبي: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة تعزز الروح الإصلاحية واستقرار الأسرة المغربية    الفتح الرباطي يسحق النادي المكناسي بخماسية    أمن البيضاء يتفاعل مع مقطع فيديو لشخص في حالة هستيرية صعد فوق سقف سيارة للشرطة    رابطة حقوق النساء تأمل أن تشمل مراجعة مدونة الأسرة حظر كل أشكال التمييز    بوريطة : العلاقات بين المغرب والعراق متميزة وقوية جدا    ميداوي يقر بأن "الوضع المأساوي" للأحياء الجامعية "لا يتناطح حوله عنزان" ويعد بالإصلاح    الملك محمد السادس يعزي أفراد أسرة المرحوم الفنان محمد الخلفي    فرنسا.. الكشف عن تشكيلة الحكومة الجديدة    الفلاح: إطلاق خدمة الأنترنت من الجيل الخامس استعدادا لكان 2025 ومونديال 2030    على سوريا المستقبل الزاهر مناديا    "نيويورك تايمز": كيف أصبحت كرة القدم المغربية أداة دبلوماسية وتنموية؟    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    "البيجيدي": حضور وفد اسرائيلي ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب استفزاز غير مقبول    موانئ الواجهة المتوسطية: انخفاض بنسبة 17 بالمائة في كمية مفرغات الصيد البحري عند متم نونبر الماضي    إدانة رئيس مجلس عمالة طنجة أصيلة بالسجن في قضية اختلاسات مالية    متضررون من الزلزال يجددون الاحتجاج على الإقصاء ويستنكرون اعتقال رئيس تنسيقيتهم    دياز يثني على مبابي.. أوفى بالوعد الذي قطعه لي    حملة اعتقال نشطاء "مانيش راضي" تؤكد رعب الكابرانات من التغيير    "بوحمرون" يستنفر المدارس بتطوان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء            أخبار الساحة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط        فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبو الوليد بن الأحمر
نشر في ميثاق الرابطة يوم 02 - 12 - 2011

من الشخصيات الأندلسية البارزة التي قضت فترة طويلة بالمغرب خلال عصر بني مرين العلامة المؤرخ الأديب أبو الوليد إسماعيل بن الأحمر بن يوسف بن القائم بأمر الله النصري.
ولد فيما بين 725 و727ه، وقضى فترة شبابه بغرناطة، واكتسب علما غزيرا في الفقه واللغة والأدب والحديث؛ كما كان له اهتمام بعلم الأنساب، كل هذا أكسب اهتمامه بالتاريخ أصالة وعمقا وتنوعا. قضى إسماعيل بن الأحمر معظم حياته بمدينة فاس بعيدا عن غرناطة التي يقول أن بني عمه ملوك بني الأحمر أخرجوه منها. ففي مقدمة كتابه "نثير الجمان" خصص جزءًا كبيراً للحديث عن حب الوطن والشوق إليه، ثم قال: "وقلت أنا في ذلك حين قدمت بَرَّ العدوة في حضرة ملوك بني مرين لما أخرجنا بنو عمنا الملوك النصريون..
فؤادي يشتكي داءاً دفيناً لبعدي عن مزار الظاعنينا
إلى أن قال: "فلولا أن هدر الملوك بنو عمي بوطني دمي لسرت إليه على رأسي لا على قدمي، على أن مثلي لا تُنَهنِهه الزواجر ولا تصده عن مطلبه السيوف ولا الخناجر"، نفهم منه أن خروج أبي الوليد من الأندلس كان في الغالب لغضب الملك النصري يوسف الأول عليه، ولعله يشير إلى ذلك بقوله:
رماني بنو عمي بوزر مزور وما زلت أوفاهم وأحسنهم سمتا
رموني حقداً بالذي لست أهله وإني عن هجر لأكثرهم صمتا
فإن جدودي كالجبال رزانة وما ترى فينا اعوجاجاً ولا أمتا
كان أبو الوليد مولعا بنشر أشعاره بين الناس، أي أنه كان مثقفا مشاركا وحاضرا في المجتمع تأليفا وتوثيقا وأدبا، وكان يقول عن نفسه:
أنا فارس الآداب لا ريب غير أنني أفوق سباقاً حين يجري خطيبها
تقر القوافي أنني بحتريها وأني على رغم العدو حبيبها.
خلف أبو الوليد بن الأحمر العديد من المؤلفات نذكر منها: "نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان" حققه وقدم له محمد رضوان الداية، مؤسسة الرسالة، ط1، بيروت، 1976م؛ وله كتاب آخر قريب عنوانه من "نثير الجمان" وهو "نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان"، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع (1967) بتحقيق محمد رضوان الداية؛ وله كتاب "تأنيس النفوس في تكميل نقط العروس" وهو مخطوط لم يطبع بعد؛ وكتابه الشهير "روضة النسرين في دولة بني مرين" المطبعة الملكية 1962، تحقيق عبد الوهاب ابن منصور؛ وله أيضا كتاب "مستودع العلامة ومستبدع العلامة" وهو كتاب في الحديث ورجاله وبه تراجم علماء على غاية كبيرة من الأهمية طبع بتحقيق محمد بن تاويت الطنجي بالاشتراك مع محمد التركي التونسي ضمن منشورات كلية الآداب بالرباط سنة 1964م؛ له أيضا كتاب "بيوتات فاس الكبرى" طبعة دار المنصور الرباط 1972؛ ولصاحبنا أبي الوليد بن الأحمر كتاب: "شرح البردة" لا زال مخطوطا؛ وله أيضا نظم وشرح على أرجوزة "رقم الحلل في نظم الدول" للسان الدين ابن الخطيب، مطبوع بتونس؛ وله أيضا برنامج مجهول الحال ولا يعرف عنه سوى ما قاله أحمد بابا السوداني في "نيل الابتهاج بتطريز الديباج" بعد ذكر بعض من ترجم لهم أبو الوليد فيقول ذكرهم في برنامجه؛ وهذه معلومة كبيرة الأهمية يوردها العلامة التمبوكتي؛ ولأبي الوليد أيضا كتاب "المنتخب من درر السلوك في شعر الخلفاء الأربعة والملوك"، ذكره في كتابه "نثير الجمان"...
عاش ابن الأحمر أكثر من نصف قرن في خدمة ملوك بني مرين بفاس، وقد خلف شعرا كثيرا في مدح ملوك بني مرين وأمرائهم وحاشيتهم، من ذلك قصيدة مدح بها أحمد بن علي القبائلي حاجب بني مرين منها:
سل عنه ماء السما لمّا تورد من نعمائه الخد إذ تهمي سحائبه
ضحاكه الجود والعباس سطوته إذا يقام بأمر الله واجبه
أعيا بسحب ذيول الجود سابغها فكيف تدرك في العليا ذوائبه
جفن التقى فيه مكحول بإثمده ومذهب العلم زانته مذاهبه
وفي قصيدة مدح بها ابن عمه الغني بالله نذكر منها:
أبى الله إلا أن يملكك الدنيا ويحمي بك الإسلام إذ حطته رعيا
حميت جناب الله فضلاً ولم تزل تراقب فيه أمر ربك والنهيا
وأعززت دين الله لما نصرته فقد نسخت معنى السماع به الرؤيا
وسرت لعمري سيرة عمرية بها قر عين الدين واعتزت العليا
وقد خضعت صيد الملوك لأمركم وليس لها إلا اتباعكم رأيا
همام إذا ما الروع عب عبابه وأبدى عليه النقع من نسجه زيا
ولاحت بروق الهند وامتلأ الفضا بصلصال رعد الطبل أعظم به شيا
وطأطأت الأرماح تدمي أنوفها وأحكم طير النبل مرسله الرميا
أراك محيا تالياً سورة الضحى وقلباً على الأعداء قد ركب البغيا
وأذهب بالتقوى القبائح كلها وبدد بالرشد السفاهة والغيا
وأريد هنا أن أقف وقفة مع كتاب المؤرخ الأديب أبي الوليد بن الأحمر: "نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان"، وقد سمى كتبا له أخرى بسجعات أخرى منها: "المنتخب من درر السلوك في شعر الخلفاء الأربعة والملوك"، و "فريد العصر في شعر بني نصر"، وروضة النسرين في دولة بني مرين"، ثم ألف رحمه الله بعد حوالي ربع قرن من تأليف "نثير الجمان" كتابا سماه: "نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان"....
يرى الأستاذ العلامة عبد القادر زمامة في مقاله: "من آثار المؤرخ الأديب أبي الوليد بن الأحمر: نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان" (مجلة المناهل، عدد 1، نوفمبر 1974) أن الدوافع التي حملت أبا الوليد على جمع مادة كتابه هذا وجعلته ينسقه ويضع له منهاجا وطريقة في العرض هي دوافع شخصية من أجل إثبات الذات والحصول على تقدير المعاصرين –وهو الغريب عن وطنه-، وإفادة الوسط الذي يعيش فيه، مع ما ضمنه أبو الوليد من إنتاجه الأدبي وإنتاج بعض أفراد أسرته الكبرى والصغرى.. وليس في الكتاب ما يدل على أنه ألف لملك أو حاجب أو وزير، أو أنه ألف لأغراض سياسية لا بالنسبة لدولة بني الأحمر التي ينتمي إليها ولا بالنسبة لدولة بني مرين التي يعيش في ظلالها.. ولعل أبا الوليد قصد بتأليف هذا الكتاب على هذه الصورة شيئا زائدا على الدوافع الشخصية، وهو مناقضة ومخالفة عصريه لسان الدين بن الخطيب في موقفه من بعض المعاصرين الذي تناولهم في كتاب "الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة" وفي كتاب "الإحاطة في أخبار غرناطة" بشيء غير قليل من التجريح والشتم وإفشاء الأسرار.. فأراد أبو الوليد وقد اطلع على كتب ابن الخطيب وشاهد مصرعه المؤلم بفاس، أن يجعل كتابه هذا خاصا بأدب المعاصرين، وأن يتجنب كل ما يتعلق بالمعايب والعورات، وأن يقتصر على ما لهم من المحاسن والإنتاج الشعري بالخصوص، من أبيات ومقطعات وقصائد..
قال ابن الأحمر في مقدمة كتابه "نثير الجمان": "وقصدي في هذا الكتاب عند ذكر الملوك، والأمراء والوزراء، والكبراء وغيرهم من سائر الشعراء، أن أغضي عما أجده لهم من القبائح، وأذكر ما امتازوا به من الفضائل والمنائح؛ لأن مثلي لا يليق به إظهار العورات، ولا يحمد له تتبع العثرات؛ ولأجل أن يتجنب أبو الوليد الفوضى والتخليط في ذكر شخصيات كتابه اختار منهاجا دقيقا في تصنيف هذه الشخصيات إلى أصناف حسب ما عرف لها من ألقاب ووظائف وصفات، وجعل لكل صنف بابا خاصا من كتابه.. لقد تحدث أبو الوليد في كتابه عن ملوك بني مرين وملوك بني الأحمر وملوك بني حفص، وعقد بابا للحديث عن ملوك بني العزفي بسبتة وأبنائهم...
كتب أبو الوليد لكتابه مقدمة تحدث فيها عن الحنين إلى الوطن وهو المبعد عن وطنه، وروى عن شيخه محمد بن سعيد الرعيني، وأبي عبد الله الفشتالي حديثا نبويا روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب لنا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها وانقل حماها فاجعلها في الجحفة"، فهو محدث له سند بالكتب الصحاح ورواتها؛ وتكلم أبو الوليد في كتابه هذا عن مواضيع أدبية طريفة من قبيل فضل الشعر وإباحة إنشاده بالمساجد، وتحدث أيضا عن الشعر الذي قيل في السيف الذي بصومعة القرويين...
في الباب الأول من كتابه دافع ابن الأحمر باستماتة عن الشعر من الناحية الدينية والذوقية والتاريخية، وسعى إلى منح الشاعر المكانة اللائقة به في المجتمع؛ إن المعلومات التي جمعها أبو الوليد في كتابه لها أهمية كبرى، من ذلك أنه احتفظ بالحديث عن شخصيات لا نكاد نعرف عنها شيئا كشخصية شيخه الذي أجازه في التاريخ والأدب وهو عبد الغفار بن موسى البوخلفي؛ ويلاحظ العلامة عبد القادر زمامة في مقاله سابق الذكر أن أبا الوليد بن الأحمر يتحدث في كتابه عن أكثر من سبعين شخصية من معاصريه ومن طبقات شتى دون أن يذكر مصدرا واحدا ولا مستندا، وكأنه إنما يتحدث بما خزنته ذاكرته أو جمعته أوراقه ومذكراته.. ويستغرب الأستاذ زمامة (ص: 157) من أن يجد في كتاب ابن الأحمر الذي كان مؤلفه مشتغلا بتحريره حوالي سنة 776 ه أبا الوليد يتحدث عن الفقيه الصوفي محمد بن أحمد المكودي الذي توفي سنة 753 ه، ويأتي بقصيدة كان هذا الفقيه الصوفي قد أنشده إياها، كما أنشده بعدها موشحا في الغزل الصوفي... ومثار الاستغراب عند عبد القادر زمامة هو كيف استطاع ابن الأحمر أن يحتفظ في ذاكرته أو في أوراقه بهذين البيتين مدة تزيد على العشرين سنة..
وتبرز من خلال كتاب "نثير الجمان" الصلة الوثيقة التي كانت تربط المؤلف ابن الأحمر بالسلطان المريني أبي عنان طيلة المدة التي مكثها هذا السلطان بالحكم، ونعلم كذلك مرافقة أبي الوليد لأبي عنان في حملته على تونس، وقد جالسه وتحدث إليه وحضر مجالسه المتعددة.. ومن أنفس المعلومات في كتاب أبي الوليد بن الأحمر حديثه عن مهرجانات الصراع بين الأسد والثور التي كان يقيمها السلطان أبو عنان بفاس.. وقد روى نصوصا شعرية قيلت في هذه المهرجانات لاسيما القصيدة التي أنشدها بالمناسبة صديقه الكاتب أحمد بن يحيى ابن عبد المنان الأنصاري وقدمها أبو الوليد بقوله: "وأنشدني أيضا لنفسه يمدح أبا عنان ويصف قتل الأسد بين يديه بقصره. والثور المقاتل للأسد والأكرة والمخاتل وغير ذلك مما يلعب به مع الأسد" والأكرة والمخاتل والأسد والثور وصفها ابن عبد المنان وصفا دقيقا نابضا بالحركة، ويردف أبو الوليد هذه القصيدة بقصيدة أخرى يصف فيها صديقه ابن عبد المنان مشهد آخر من قتل الأسد بين يدي السلطان أبي عنان في مشهد عظيم حضره أبو الوليد فيمن حضره من حاشية السلطان..
يقول الأستاذ عبد القادر زمامة (ص: 159): "والنصان الطويلان اللذان احتفظ بهما أبو الوليد في "نثير الجمان" زيادة على قيمتهما الأدبية لهما قيمة اجتماعية وتاريخية بالنسبة للعصر المريني الذي كانت هذه اللعبة معروفة فيه.. فالنصان يدلان على أن الأسد كانت موجودة في غابات المغرب إذ ذاك ليُمكِن الإتيان بها إلى ساحة الصراع.. كما يدلان على أن المرينيين كانوا مغرمين بهذه اللعبة ولاسيما في عهد أبي عنان؛ والمؤرخون المغاربة لا يكادون يعرجون على هذه اللعبة وإن كانت المدينة البيضاء (فاس الجديد) مازال معروفا بها باب السبع الذي يسمى الآن باب المكينة؛ ولعل هذه التسمية لها صلة بلعبة صراع الأسد مع الثور حيث كانت المهرجانات تقام قرب هذا الباب فلذلك سمي باب السبع فيما يظهر.. وقد أشار لسان الدين ابن الخطيب إلى هذه اللعبة في حديثه عن فاس من كتابه "معيار الاختيار" حيث ذكر أن بها "ملاعب الليث المفترس" كما أشار إلى ذلك مرة ثانية في بعض تراجم "الإحاطة في أخبار غرناطة"، ولعل هذه اللعبة كانت معروفة قبل عهد أبي عنان، وقبل دولة بني مرين نفسها بدليل ما جاء عند ابن الأبّار في "الحلة السيراء"..
ابتداء من الباب السابع من الكتاب شرع أبو الوليد بن الأحمر في تقديم طبقات من الشعراء حسب وظائفهم وألقابهم التي اشتهروا بها من وزراء وكتاب وقضاة وعلماء من المغرب والأندلس؛ وابتدأ بوزير غرناطة أبي الحسن بن الجيّاب أستاذ لسان الدين ابن الخطيب، واختار له قصيدة في مدح أبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد ابن الأحمر ثالث ملوك بني نصر المعروف بالمخلوع يقول في مطلعها:
زارت تجرر نخوة أذيالها هيهات تخلط بالنفار دلالها
والشمس من حسد لها مصفرة إذ قصرت عن أن تكون مثالها
وافَتْك تمزج لينها بقساوة قد أدرجت طي العتاب نوالها
من الشخصيات البارزة التي ذكرها أبو الوليد في "نثير الجمان" أبو القاسم الشريف السبتي أستاذ أعلام ذلك العصر وأستاذ الأدب، وقد التقى به في الغالب بمدينة فاس إما سنة 755 ه حين جاء وفد أندلسي أرسله محمد الغني بالله بن الأحمر تحت قيادة العلامة لسان الدين بن الخطيب، وكان من أعضاء الوفد الأديب الكبير أبو القاسم الشريف السبتي، وإما سنة 757ه حين وفد للشفاعة في المقري الجد.. وذكر إسماعيل بن الأحمر شخصية علمية أخرى هو محمد بن الحاج المعروف بأبي البركات البلفيقي، ويقول ابن الوليد أنه أدركه ورآه، يقول: "وبعثه رسولا لملك العدوة، وهو أمير المسلمين المستعين بالله أبو سالم إبراهيم فلقيته بفاس. وأنا إذ ذاك بها في حضرة الملوك من بني مرين منذ أخرجنا عن الأندلس بنو عمنا الملوك من بني الأحمر آل نصر. فطلبت منه أن ينشدني من شعره فأنشدني ما نذكره إن شاء الله تعالى.."، ورحلة أبي البركات إلى فاس سجلها أحمد ابن القاضي في "جذوة الاقتباس"، ومن أجل ذلك ترجم له في أعلام فاس؛ وأبو البركات أديب أصيل ذكر له المؤرخون ديوانا سماه: "العذب والأجاج من كلام أبي البركات ابن الحاج"، وهو من أشياخ لسان الدين ابن الخطيب.
وعندما ذكر أبو الوليد بن الأحمر شيخه فرج بن قاسم بن لب التغلبي ذكر أنه أرسل إليه بالإجازة من الأندلس، ثم يستغل ما حدثه به هذا الشيخ في إجازته من رواية قصيدة حجازية لأبي الثناء محمود بن سليمان بن فهد الحلبي مطلعها:
وصلنا السرى وهجرنا الديارا وجئناك نطوي إليك القفارا
فيرويها عن شيخيه القاضيين أبي عبد الله الفشتالي وأبي الحسن المومناني ويشرحها شرحا لغويا.. وفيما يخص كُتاب بني مرين، فلم يصنفهم أبو الوليد بن الأحمر حسب أصولهم، فقد كان منهم الفاسي والتلمساني والتونسي والسبتي والأندلسي، بل أدخلهم كلهم في خانة "كتاب بني مرين"، ومن بين الذين تحدث عنهم الأديب المؤرخ عبد المهيمن الحضرمي صاحب "السلسل العذب والمنهل الأحلى" وقد كان من رجال دولة أبي الحسن المريني وصحبه في حملته الشهيرة إلى تونس، وهناك توفي رحمه الله.. وتحدث عن الكاتب الحاجب محمد بن أبي عمرو التميمي التلمساني، ويذكر أبو الوليد أن أبا عنان المريني رثى كاتبه هذا بعد وفاته.. ثم تحدث أبو الوليد عن أبي القاسم بن عبد الله بن يوسف ابن رضوان المالقي، ويلاحظ الأستاذ زمامة في مقاله سابق الذكر (ص: 167) أن أبا الوليد لم يبن في نثير الجمان أنه تتلمذ على ابن رضوان المالقي، لكنه عاد في كتابه "مستودع العلامة" ليحليه "بشيخنا" وذكر أنه استجازه فأجازه..
وتحدث أبو الوليد عن شخصية أدبية رفيعة المستوى هي شخصية كاتب الأشغال أبي الحسن الخزاعي التلمساني وهو صاحب كتاب كبير الشأن هو: "تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية"، وهو كتاب في منشأ الحضارة المحمدية وبداياتها في أرض الحجاز، وهذا يبرز مكانة وعلو همة هذا الرجل، وقد اتصل به صاحبنا إسماعيل وأنشده شعره في مدح أبي عنان وذكره في "مستودع العلامة" منوها بعلمه ومكانته...
وقد راقني ما ذكره الأستاذ عبد القادر زمامة في مقاله حول كتاب "نثير الجمان" (ص: 168) من أن ابن القاضي في "جذوة الاقتباس" لما ترجم للأديب أبي الحسن الخزاعي قال أنه لما كبا بموسى ابن أبي عنان المريني فرسه بالشماعين بعد صلاة الجمعة بالقرويين أنشد الخزاعي:
مولاي لا ذنب للشقراء أن عثرت ومن يلمها لعمري فهو ظالمها
وهالها ما اعتراها من مهابتكم من أجل ذلك لم تثبت قوائمها
ولم تزل عادة الفرسان قد ركبوا تكبو الجياد ولم تنب عزائمها
وفي النبي رسول الله إسوتنا أعلى النبيئين مقدارا وخاتمها
كبا به فرس أبقى بسقطته في جنبه خدشة تبدو مراسمها
حتى لصلى جالسا تبثت لنا بها سنة لاحت معالمها
صلى الله عليه الإله دائما أبدا أزكى صلاة تحييها نواسمها
وبعد فهذه لمحة موجزة عن عالم منفي من غرناطة قضى معظم حياته بالمغرب حتى عد من أهلها، وخلف دررا علمية وأدبية لا شك أن استثمارها يعد بالكثير من الاكتشافات والاستثمارات في مجال التاريخ والأدب العالي والثقافة العامة؛ توفي أبو الوليد بن الأحمر ما بين 807 و810ه بالمدينة البيضاء بفاس، رحمه الله وجازاه خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.