"الأطفال وكتابة الأشعار.. مخاض تجربة" إصدار جديد للشاعرة مريم كرودي    18 قتيلا و2583 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    وهبي: بابي مفتوح للمحامين ومستعد للحوار معهم أمام البرلمان.. "يقولو ليا غي شنو بغاو"    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعاً بريدياً تذكارياً بمناسبة الذكرى العاشرة لمتحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر                الأحمر يغلق تداولات بورصة الدار البيضاء    أخنوش: خصصنا في إطار مشروع قانون المالية 14 مليار درهم لدينامية قطاع التشغيل    قرض ب400 مليون أورو لزيادة القدرة الاستيعابية لميناء طنجة المتوسط    جدل في البرلمان بين منيب والتوفيق حول الدعوة ل"الجهاد" في فلسطين    التجمع الوطني للأحرار يستعرض قضايا الصحراء المغربية ويشيد بزيارة الرئيس الفرنسي في اجتماع بالرباط    أنفوجرافيك | أرقام رسمية.. معدل البطالة يرتفع إلى 13.6% بالربع الثالث من 2024    إسبانيا تواصل عمليات البحث وإزالة الركام بعد أسبوع من فيضانات    تحقيقات جديدة تهز كرة القدم التشيلية    بن صغير يكشف أسباب اختياره للمغرب    كَهنوت وعَلْموُوت    التساقطات ‬المطرية ‬أنعشت ‬الآمال ..‬ارتفاع ‬حقينة ‬السدود ‬ومؤشرات ‬على ‬موسم ‬فلاحي ‬جيد    رئيس الحكومة يستعرض إنجازات المغرب في التجارة الخارجية    "روائع الأطلس" يستكشف تقاليد المغرب في قطر    بنعلي.. الوزارة ستواصل خلال سنة 2025 العمل على تسريع وتطوير مشاريع الطاقات المتجددة    وزارة الاستثمار تعتزم اكتراء مقر جديد وفتح الباب ل30 منصب جديد    إسرائيل تعين يوسي بن دافيد رئيساً جديداً لمكتبها في الرباط    الاحتقان يخيم من جديد على قطاع الصحة.. وأطباء القطاع العام يلتحقون بالإضراب الوطني    مستشارو فيدرالية اليسار بالرباط ينبهون إلى التدبير الكارثي للنفايات الخضراء و الهامدة بالمدينة    "متفجرات مموهة" تثير استنفارًا أمنيا في بولندا    فن اللغا والسجية.. المهرجان الوطني للفيلم/ جوائز المهرجان/ عاشت السينما المغربية (فيديو)    الأرصاد الجوية تتوقع ارتفاع الحرارة خلال الأيام القادمة في المغرب    غير بعيد على الناظور.. حادث سير مروع يخلف عشرة جرحى    حقيقة انضمام نعية إلياس إلى الجزء الثالث من "بنات للا منانة    لهذه الأسباب.. الوداد يتقدم بطلب رسمي لتغيير موعد مباراته ضد اتحاد طنجة    أولمبيك أسفي يوجه شكاية لمديرية التحكيم ضد كربوبي ويطالب بعدم تعيينها لمبارياته    القفطان المغربي يتألق خلال فعاليات الأسبوع العربي الأول في اليونسكو    صاعقة برق تقتل لاعبا وتصيب آخرين أثناء مباراة كرة قدم في البيرو    دقيقة صمت خلال المباريات الأوروبية على ضحايا فيضانات فالنسيا        آس الإسبانية تثني على أداء الدولي المغربي آدم أزنو مع بايرن ميوني    الانتخابات الأمريكية.. نحو 83 مليون شخص أدلوا بأصواتهم مبكرا    وزيرة التضامن الجديدة: برنامج عمل الوزارة لسنة 2025 يرتكز على تثمين المكتسبات وتسريع تنفيذ إجراءات البرنامج الحكومي    ترامب يعد الأمريكيين ب"قمم جديدة"    هاريس تستهدف "الناخبين اللاتينيين"    استنفار أمني واسع بعد العثور على 38 قذيفة في ورش بناء    على بعد ثلاثة أيام من المسيرة الخضراء ‮ .. ‬عندما أعلن بوعبيد ‬استعداد ‬الاتحاد ‬لإنشاء ‬جيش ‬التحرير ‬من ‬جديد‮!‬    تصفيات "كان" 2025.. تحكيم مغربي المباراة نيجيريا ورواندا بقيادة سمير الكزاز    افتتاح النسخة الثانية من القافلة السينمائية تحت شعار ''السينما للجميع''    «حوريات» الجزائري كمال داود تقوده الى جائزة الغونكور    نوح خليفة يرصد في مؤلف جديد عراقة العلاقات بين المغرب والبحرين    دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النفايات الإيطالية..رؤية من زاوية أخرى
نشر في نون بريس يوم 14 - 07 - 2016


د عبد الحميد فاضيل
إن المتتبع لموضوع النفايات الإيطالية، حديث الساعة بالساحة الإعلامية بالمغرب، ليخرج باستنتاج أساسي وهو أن هناك حقائق هامة تحاول جاهدا الأطراف المتورطة في هذا الموضوع اخفاءها وذلك بشتى الطرق. لذلك اتسمت الخرجات الإعلامية للمسؤولين الحكوميين و المهنيين المعنيين بالارتجال والارتباك ما ادى الى بث الشك في نفوس المطمئنين اكثر من طمأنة المشككين. وبلغت ذروة هذا التخبط اللقاء الخاص الذي عرضته قناة ميدي1 تيفي حول الموضوع واستضافت له ثلاثة "خبراء" يمثلون كلهم بصورة مباشرة او غير مباشرة مهنيي الإسمنت وان قدمتهم بصفات اخرى. لقد كان سيناريو وإخراج هذا البرنامج ركيكا و رديئا لدرجة يستشف منه كل محلل مبتدئ ان هناك شيئا ما وراء الأكمة. فبالإضافة الى الارتباك الواضح للضيوف، حاول هؤلاء اخفاء مجموعة من الحقائق المرتبطة بالموضوع عن طريق التدليس تارة و الهروب من الأسئلة تارة اخرى.
هذا و امام غياب المعلومات والوثائق الرسمية و الدقيقة حول هذا الموضوع المتشعب، فان المتتبع لا يسعه سواء اللجوء الى وسائل التواصل الاجتماعي و المواقع الإعلامية قصد فهم ما يجري وان لم يقتصر هذا على الرأي العام بل تعداه الى بعض المسؤولين الحكوميين والحزبيين الذين امتلأ حائطهم الأزرق بأسئلة و تساؤلات تستجدي الفهم وتبغي التأويل.
من هنا كان لابد من تناول الموضوع من زاوية اخرى من خلال استعمال آليات البحث المنهجي و ادوات تحليل ومعالجة المعلومات التي تمكن من تشكيل السياق و تمحيص المفاهيم ثم تركيب الجزئيات قصد تكوين بنية الإشكالية. ففيما يخص السياق تجدر الإشارة الى النقط الآتية:
– ماهية شحنة النفايات موضوع الجدل: هل هذه الشحنة المكونة من 2500 طن شحنة تجريبية؟ ام الدفعة الأولى ضمن صفقة تضم ملايين الأطنان على مدى سنوات؟ الإجابة الشافية توجد فقط في مضامين الاتفاقية المبرمة بين الوزارة المكلفة بالبيئة و الجمعية المهنية لمصنعي الإسمنت ثم في العقد المبرم بين شركات الإسمنت الموردة لهذه النفايات و مصانع هذه الأخيرة بايطاليا.
– مصدر النفايات: ان تواجد المصنع المصدر لهذه الشحنة بمدينة بيسكارا التي تبعد شمالا عن نابولي بحوالي 250 كلم لا يجزم بأي حال ان مصدر هذه النفايات سليم (عاشت بيسكارا هي الأخرى من طمر غير قانوني للنفايات) و أن ما سيستقبل من النفايات لاحقا سيكون بعيدا كل البعد عن معالجة الماضي الأسود لتدبير النفايات بنابولي.
– استعمال النفايات من طرف مصانع الإسمنت: ان استعمال النفايات داخل افران معامل الإسمنت يعود الى عقود عديدة ويتم خصيصا لإنتاج الطاقة اللازمة لصنع الكلنكر الذي يعتبر العنصر الأساسي المكون للإسمنت والذي يحتاج لدرجة حرارة تفوق 1500 درجة. هكذا تعوض الطاقة الناتجة عن حرق النفايات جزئيا الطاقة الاحفورية التقليدية (الفحم، بترول،غاز…) وتختلف نسبة الاستبدال حسب البلدان و تتجاوز في بعضها %50 كألمانيا و سويسرا. بالرجوع الى مواقع الانترنيت لبعض مصانع الإسمنت بالمغرب يتبين ان هذه الأخيرة دأبت على حرق بعض النفايات ذات الطاقة الحرارية المرتفعة في افرانها منذ سنوات عديدة بما فيها بعض النفايات الخطيرة كالزيوت المحروقة، العجلات المطاطية المستعملة، النفايات الصيدلانية، المخلفات الصناعية، البلاستيك…حتى انها شرعت منذ حوالي عشر سنوات في استيراد بعض من هذه النفايات من اوروبا و خصوصا العجلات المطاطية المستعملة التي تؤكد الوثائق الأوروبية ان الكمية المصدرة الى المغرب تقدر بعشرات الآلاف من الأطنان سنويا.
اما فيما يخص تمحيص المفاهيم المشكلة للإشكالية فان تحديد طبيعة هذه النفايات يشكل المفتاح الرئيسي لفهم القضية. لذا تتعين الاجابة على الأسئلة المحورية التالية :
– ما هي طبيعة هذه النفايات ؟: تعرف بالنفايات الصلبة القابلة للحرق. بالفرنسية (Combustibles Solides de Récupération – CSR) وبالانجليزية (Refuse Derived Fuel – RDF). وهي النفايات التي لا تصلح للتدوير والتي خضعت لعملية الفرز ثم لمجموعة من العمليات الميكانيكية و البيولوجية داخل معامل معدة لهذا الغرض وخصوصا عمليات التنشيف والتعقيم و التقطيع. ويتجلى الهدف الأساسي لهذه العمليات في اعدادها للحرق سواء صاحب ذلك عملية تثمين طاقي او لا. ويتم توصيف هذا النوع من النفايات اعتمادا على ثلاثة خصائص رئيسية و هي الطاقة الحرارية الدنيا، معدل الكلور ثم معدل الزئبق. اما مصدرها فيتكون اساسا من النفايات المنزلية و النفايات الصناعية الغير الخطيرة و يضاف اليها احيانا اخرى مخلفات الخشب. وفي حالة تحضيرها حصريا انطلاقا من النفايات المنزلية فيطلق عليها اسم (fluff) وهو الجزء القابل للحرق للنفايات المنزلية.
– ما هي مكونات هذه النفايات ؟: بالرجوع للمعلومات المصرحة بها من طرف الوزارة المكلفة بالبيئة يتبين ان النفايات المستوردة هي من نوع (fluff) حيث لا تحتوي مثلا على المطاط وهذا النوع يتكون اساسا من الاجزاء العضوية للنفايات المنزلية (ورق، كرتون، نسيج، خشب…) اضافة الى البلاستيك.
– هل هي نفايات خطيرة؟ : انطلاقا مما سبق فاذا سلمنا بسلامة المصدر ومرورها عبر عمليات المعالجة الميكانيكية و البيولوجية فان هذه النفايات تبقى غير خطيرة قبل حرقها. لذا فان انتظار تحليلات المختبر الفرنسي بخصوص هذه النفايات ليس مهما لأنه سيؤكد غالبا انها غير خطيرة و هي كذلك بناءا على ما سبق و لأن عقدة المشكل لا تكمن في هذه النقطة و انما في امور اخرى نعرض لها لاحقا.
– هل هي نفايات ام وقود بديل؟: القوانين الأوروبية تصنفها كنفايات و تحمل الرمز 19.12.10 ضمن القانون الاوروبي للنفايات حيث لم يتم بعد نزع صفة النفايات عنها رغم مطالبات مهنيي تدوير النفايات بذلك وهذا راجع اساسا لوقوف المنظمات والهيئات البيئية ضد هذا الأمر. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة الى ان اللافتة المثبتة على هذه الشحنة لدى وصولها لميناء الجرف الأصفر تحمل عبارة نفايات "RIFIUTI ".
– لماذا يتم حرق النفايات ؟: تعتبر عملية الحرق احد الأساليب المتبعة لتدبير النفايات الصلبة الى جانب عملية الإيداع بالمطارح. تنص القوانين في بعض الدول الأوروبية على ضرورة حرق النفايات القابلة للحرق قبل تخزينها بالمطارح. تتم عملية الحرق على صعيد نوعين من المنشآت :
أ‌- معامل حرق النفايات (Usines d'Incinération) : حيث يتم حرق اساسا النفايات المنزلية و الصناعية الغير خطيرة في درجة حرارة تصل الى 700 او 900 درجة حيث تمكن هذه العملية من خفض وزن النفايات بأكثر من %70 و حجمها بأكثر من %90. ويصاحب غالبا هذا الاجراء تثمين الطاقة المنبعثة من الحرق وتحويلها لإنتاج الطاقة الكهربائية او طاقة تكييف الهواء او اشكال اخرى. إلا ان المشكل الأساسي الذي تخلفه هذه العملية تكمن في مخلفات الحرق (رماد و خبث المعادن – mâchefer) الذي يصعب تدويره إلا نادرا في أشغال الطرق وينتهي بها المطاف غالبا بالمطارح. وينتج عن هذا الإجراء تشكل بقايا ناجمة عن عملية تصفية دخان الحرق (REFIOM بالنسبة للنفايات المنزلية و REFID بالنسبة للنفايات الصناعية) وهي مخلفات خطيرة و سامة وغير قابلة للتدوير يتوجب طمرها بمطارح خاصة وفق معالجة دقيقة و باهظة.
هكذا فان حرق طن واحد من النفايات بهذه المصانع يخلف حوالي 300 كغ من خبث المعادن و ما بين 2 الى 5 كغ من البقايا السامة مما يطرح إشكالا حقيقيا لنموذج عمل هذا الحرق.
ب‌- معامل حرق النفايات مع مواد اخرى (Usines de Co-incinération): و يتكون هذا النوع من المنشآت أساسا من مصانع الإسمنت التي تقوم بحرق النفايات في افرانها بجانب المواد الأولية لإنتاج الكلنكر في درجة حرارة تفوق 1500 درجة. وتتجلى اهمية هذا الإجراء مقارنة بالأول بكونه لا يولد مخلفات حيث ان درجة الحرارة المرتفعة تقوم بتذويب كل جزيئات النفايات التي تمتزج مع باقي المواد الأولية المستعملة لإنتاج الكلنكر. وبالتالي فإن هذه الطريقة تمكن ليس فقط من اقتصاد الطاقة الاحفورية المستعملة لإنتاج الاسمنت عبر تثمين النفايات بل التخلص من هذه الأخيرة وإعدامها.
– لماذا لا يتم اذن حرق كل النفايات بمصانع الإسمنت والتخلص منها كليا ؟: ان النفايات التي يتم حرقها غالبا بمصانع الإسمنت لتوليد الطاقة يجب ان تتوفر فيها مجموعة من المميزات و خصوصا الطاقة الحرارية الدنيا المرتفعة وخلوها من مادة الكلور. ما يفسر لجوءها الى صنف معين من النفايات التي تتميز بهذه الخاصية كالزيوت المحروقة و العجلات المطاطية المستعملة و البلاستيك . اما استعمال النفايات ذات الأصل المنزلي (fluff) فيبقى محدودا او لنقل انها ليست المشروب المفضل لأفران مصانع الإسمنت نظرا لكونها تتميز بطاقة حرارية معتدلة الى ضعيفة وهو ما يؤثر سلبا على المردود الطاقي الاجمالي للمصنع عند استعمالها وما قد يضر كذلك بجودة منتوج الإسمنت المصنع.
لنحاول الآن جمع الجزئيات لتركيب المشهد وكشف بعض الجوانب المغيبة في معالجة مشكل النفايات الإيطالية المستوردة ولنقم بذلك بطرح تساؤلات منطقية و منهجية.
– ما الذي يفسر كل هذا الإرتباك الذي وقع فيه اصحاب مصانع الإسمنت بالمغرب؟: وما الذي دفعهم لانجاز برنامج على المقاس مدته ساعة على قناة ميدي1 تيفي لم يحضر فيه إلا ممثلي مصانع الإسمنت؟ وما الذي منع السيد محمد الشعيبي من الإفصاح عن صفته كرئيس الجمعية المهنية لمصنعي الإسمنت الممثلة الرسمية لمصانع الإسمنت بالمغرب و المسؤول الأول عن المهنة و هو الذي وقع مؤخرا اتفاقية تثمين النفايات داخل مصانع الإسمنت مع الوزارة المكلفة بالبيئة في ابريل 2015؟
ابحث وراء المال تجد الجواب عن نصف اسئلتك كما يقول احد اصدقائي. فما الذي يدفع اصحاب مصانع الإسمنت عالميا من تخليص الأرض من نفاياته وخاصة الخطيرة منها مع ما يتبع ذلك من تكاليف الاستثمار في مجال ادخال هذه النفايات الى عقر دارهم و معالجتها وحرقها ثم متابعة وصيانة انبعاثاتها مع ما قد ينتج عن ذلك من اضرار لجودة الإسمنت؟ أهو فقط حفاظا على البيئة و تخفيضا لكلفة الطاقة؟
ان مراجعة الوثائق المتوفرة على شبكة العنكبوت تخبرنا انه اضافة لما سبق ذكره من المزايا التي تجنيه مصانع الإسمنت من حرق بعض النفايات داخل افرانها يبقى الدافع المالي اهم محرك لها في هذا الجانب فهي تتقاضى في اوربا في المتوسط 30 اورو عن كل طن من النفايات التي تعدمها وهو مع ذلك يبقى ثمنا معقولا اذا علمنا ان ايداع هذه النفايات داخل المطارح يكلف اضعاف هذا الثمن.
وبالرجوع الى برنامج ميدي1 تيفي فقد كان مربط فرس القضية السؤال الذي وجهه الصحفي الى رئيس الجمعية المهنية لمصنعي الإسمنت بالمغرب متسائلا : من يدفع لمن؟ إلا ان السيد الرئيس لم يجيب وتهرب من السؤال ثم عاد بعض لحظات ارتباك الى القول بأن مصانع الإسمنت هي من يشتري هذه النفايات عفوا "الوقود البديل".
– لكن لماذا تصدر لنا اوربا هذه النفايات وهي "وقود بديل" ذو منافع جمة؟: هنا تجدر الإشارة كما سبق الذكر ان هذا النوع من النفايات لا تحرق عادة في اوربا داخل مصانع الإسمنت لجودتها الحرارية المنخفضة وإنما داخل معامل الحرق وهو ما ينتج عنه تشكل النفايات المشار اليها اعلاه وهي اكثر سموما و خطورة من النفايات المحروقة. و بطبيعة الحال فإن اوربا تبحث على من يخلصها من هذا النوع من النفايات المسوق على انه وقود حراري ولن تتوانى عن الدفع لمن يخلصها منها لأنه بكل بساطة سيكلفها ابقاء هذه النفايات على اراضيها اضعاف ما ستدفعه للمستورد. اذا أخذنا هنا بعين الاعتبار فرضية ان تكون هذه الشحنة مقدمة لصفقة استيراد لملايين الأطنان من النفايات على مدى سنوات فإن الحديث يجري بالتالي عن صفقة بمئات الملايين من الأورو.
– كيف ستستعمل اذن مصانع الإسمنت المغربية هذه النفايات؟: ان حرق هذا النوع من النفايات داخل افران مصانع الإسمنت يتطلب اعدادا دقيقا لها من حيث تفتتيها ومعالجتها و مراقبة خاصياتها (سمك، حمولة الكلور…). وهذا في حد ذاته تخصص تقوم به بعض الشركات المختصة بأوربا التي تتكلف بإعداد هذا النوع من النفايات لحرقه داخل افران مصانع الإسمنت وهو ما لا يتوفر بالتأكيد داخل المغرب. كما ان ادخال هذا النوع من النفايات للأفران وحرقه داخل سلسلة انتاج الإسمنت يتطلب خبرة و متابعة دقيقة حتى لا تتأثر جودة الكلنكر ثم حتى يتسنى التأكد من الحرق الكامل لبعض مكوناتها المضرة بالبيئة و التي يتطلب اعدامها ان تبقى مدة معينة داخل الفرن و تحت درجة حرارة معينة.
من هذا يمكن استنتاج ان تجربة حرق وإعدام هذا النوع من النفايات داخل افران الإسمنت ليس بالأمر السهل خصوصا فيما يخص اعدادها او مراقبة مستوى انبعاث الغازات الناتجة عن الحرق التي قد تأخذ طابعا ساما.
– ما محل الوزارة المكلفة بالبيئة في الموضوع ؟: في خضم كل هذا وجدت الوزارة المكلفة بالبيئة نفسها بين مطرقة مهنيي الإسمنت الذين ابرموا صفقة جلب نفايات ايطاليا وباشروا الاستيراد وسندان الرأي العام الذي اطلق العنان لمحركات البحث والتدوين في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. واكتشفت أن كليهما قد أعد السيناريو الخاص به لفيلم "نفايات ايطاليا" ولم يروق لها الدور الذي خصص لها في كلا السيناريوهين. فما كان منها إلا حاولت فرض نفسها في الفيلم معتمدة على قدرات ارتجال ممثليها فضاعت بين احداث الفيلم فلاهي ارضت هيئة الإنتاج فتنعم ولاهي اقنعت الجمهور فتشكر.
وفي الختام فإن المنهجية المتبعة لتحليل هذا الموضوع تمكننا من استنباط العبر و الخلاصات التالية:
أ‌- إن طريقة معالجة مشكلة هذه النفايات وما صاحبه من ضجة سواء على الصعيد الإعلامي او الشعبي راجع اساسا الى غياب الشفافية و النزاهة لدى الأطراف المتورطة في هذه القضية و الذين سعوا جاهدين لإخفاء المعلومة و طمسها عوض تقديمها للرأي العام مرفوقة بالوثائق والحجج الإثباتية. فما الذي يمنع من تقديم ونشر هذه الوثائق والاتفاقيات مادامت كل الأطراف تصر على قانونية مساطرها وإجراءاتها ومواقفها.
ب‌- ان استيراد النفايات من الخارج وان تلون وسوق تحت مسميات اخرى لا يجب ان يتم إلا لضرورة ملحة و بإشهار كل الوثائق المتعلقة بهذه العملية. فالمغرب ليس فعلا مزبلة لأوربا. فكما لم نعد نناقش امكانية طمر نفايات الغير في ارضنا باعتبارها من المسلمات البديهية، يجب كذلك رفض حرق و اعدام كل ما من شأنه ان يلوث جوه او يضر بصحة مواطنيه.
ت‌- ضرورة تطوير البحث العلمي في مجال معالجة وتثمين النفايات بالمغرب وحث وسائل الإعلام على اعداد برامج ولقاءات علمية لمناقشة مثل هذه الإشكاليات بحضور أساتذة و باحثين مشهود لهم بالكفاءة و النزاهة و الحياد عوض اتباع سياسة التطبيل و عرض لقاءات خاصة تحت الطلب.
اخيرا وجب القول بأن قضية هذه النفايات وطريقة تناولها من طرف مختلف مكونات المجتمع المغربي شكلت نموذجا فريدا لطرح ومناقشة قضايا المجتمع و ان اختلفت الآراء و تباينت التحليلات ففي الأخير سيساهم الكل في استجلاء الوقائع وكشف الحقيقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.