قال ديفيد غاردنر، المعلق في صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، إن الاستبداد ملأ الفراغ الأيديولوجي في الشرق الأوسط، حتتونس التي كانت حاضنة الأمل الديمقراطي في المنطقة، تتجه اليوم نحو حكم الرجل الفرد. ومن غير المرجح أن يكون قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري، هو الرجل الذي أرسلته العناية الإلهية أو منقذ تونس، لكن الرئيس التونسي وضع الدستور الديمقراطي لعام 2014 الذي مرر بعد الثورة جانبا، وقرر أن يحكم عبر المراسيم الرئاسية. وبعد عزله لرئيس الوزراء في يوليوز تحرك هذا الرجل المتمسك بالتفاصيل القانونية نحو حكم الرجل الفرد. وكانت تونس هي البلد الوحيد الذي حافظ على بعض من الآمال العالية مما أطلق عليها انتفاضات الربيع العربي في المنطقة، والتي بدأت بالتخلص من ديكتاتورية زين العابدين بن علي عام 2011، ولكن تلك الآمال يبدو أنها سقطت وتحطمت. وانتخب التونسيون الغاضبون على نخبتهم المتناحرة التي لم تستطع حل الأزمة المالية والديون التي أدت لانهيار الاقتصاد وانتشار البطالة والفقر، سعيد عام 2019 بأغلبية ساحقة ونظر إلى انتخابه على أنه توبيخ لهذه النخبة. وأشار غاردنر إلى أن عددا من الاستطلاعات أشارت لترحيب شعبي باغتصاب السلطة في يوليوز. وحتى حركة النهضة ، الحزب الإسلامي الذي كان قويا وصاحب أكبر كتلة في البرلمان، تعرض لانقسام بسبب الخلف مع القيادة، حيث عبر أعضاء في الحزب عن غضبهم منها ومن تجاوزاتها. وجذب سعيد، المحافظ الاجتماعي الذي يعرف ما يريده شعبه، دعما من السعودية والإمارات وكذلك مصر. ورأت في الملكيات المطلقة بالخليج إلى جانب عبد الفتاح السيسي، الجنرال السابق الذي قاد انقلابا شعبيا ضد الإخوان المسلمين في عام 2013 إضافة جديدة ضد الجبهة المعادية للإسلاميين. في المقابل دعت الولاياتالمتحدة والأوروبيين سعيد للعودة إلى الأعراف الديمقراطية، في توبيخ خفيف لم يتجاوز الضرب على اليد. ويعود هذا التحفظ الجديد إلى الانجذاب الغربي الجديد إلى المستبدين العرب، أي تفضيل الديكتاتوريين الذين يوثق بهم على الديمقراطيين المراوغين، وبخاصة عندما يكون هؤلاء الديكتاتوريون حاجزا ضد الإسلام السياسي. وربما قرر الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد سحبه القوات من أفغانستان، الانسحاب من مواقع في العراقوسوريا وربما منطقة الخليج. ولا يدعم الرئيس التفرنسي ماكرون سعيد والسيسي فقط، بل ودعم أمير الحرب في ليبيا، خليفة حفتر. ويترك الغرب خلفه فراغا أيديولوجيا، في وقت بات ينظر إليه الديمقراطيون والديكتاتوريين على حد سواء إليه بأنه حليف لا يوثق به. ولم تخف الصين أو روسيا دعمهما للمستبدين، لكن أمريكا والأوروبيين بات ينظر إليهم كمنافقين يتخفون وراء معداتهم، ويأملون بإدارة أزمات الشرق الأوسط المتكررة. ويساهم التواطؤ الداعم للديكتاتورية في انتشار الجهادية وتوسع حركات الهجرة التي تثير المشاعر الشعبوية المتطرفة في الغرب. ويريد الكثيرون في العالم العربي الأمن وحياة مرضية ومعيشة كريمة. وحرمانهم من الحقوق ليس الطريقة الصحيحة لتحقيق هذا. وما يثير الألم تحديدا، هو أن تونس على خلاف سوريا رعت مؤسسات نابضة مثل نقابات العمال، وحسنت من كفاءة التعليم، ويجب ألا تستسلم لإخفاقات الحكومة. وفي وقت أدى خفوت الديمقراطية الليبرالية لامتحان حكم القانون إلى حد الدمار من برازيليا إلى بودابست، ولا تنس واشنطن، يحاول حكام الشرق الأوسط البحث عن بديل لتبرير استبدادهم. وعادة ما تتخذ شعبويتهم شكل إحياء القومية واستعادة الحضارة السابقة والأمجاد الثقافية. ولا أوضح من هذا، هو قيام الدولة الدينية الإيرانية ببناء ميليشيات عسكرية في المشرق والعراق واليمن والخليج والذي ينظر إليه كتوغل شيعي إسلامي من الإمبريالية الفارسية الجديدة. وكذا السعودية التي تعتبر المنافس الألد لإيران وتؤكد على دورها كمهد للإسلام وحامية للحرمين في مكة والمدينة، أو ما يقترب إلى الخلافة الإسلامية التاريخية. وتركيا التي ألغت الخلافة قبل قرن، قامت في ظل الشعبوية الإسلامية لرجب طيب أردوغان بإعادة مزاعم الوحدوية العثمانية الجديدة وسيطرتها السابقة على سورياوالعراق وطورت عقيدة "الوطن الأزرق" التي تتحدث عن حصة كبيرة في المياه البحرية من البحر الأسود إلى بحر إيجة وشرق المتوسط. من جانبها، عادت مصر إلى الفراعنة لتأكيد ما يقول عنه محمد سليمان من معهد الشرق الأوسط في واشنطن "الدولة الحضارية" مشبها إياها بالصينوروسيا والهند وتركيا. ويحاول كل هؤلاء الحكام تأكيد حس تاريخي بالمصير والاستحقاق الذي خرب عليه الغرباء. وفي الحاضر القذر الذي يحاول المستبدون فيه إخفاء استبدادهم بشرعية جديدة يبدو أنه انتشر الآن إلى تونس، المهد السابق للأمل الديمقراطي. وربما فشلت سلسلة الاضطرابات العربية التي بدأت في هذا البلد عام 2011، في إنهاء الطغيان، لكنها كشفت عن فراغ بعض الديكتاتوريات العربية وهشاشة الأخرى. وعلاوة على ذلك، فمن البديهي معرفة أن الديكتاتوريات العربية لم تكن أبدا حاجزا ضد الإسلامية، بل خط تجميع للجهاديين ومن غير المحتمل تغير هذا.