كثيرة هي التقارير التي تتحدث عن انتشار ظاهرة التسول بالمغرب بشكل مهول، ويظهر ذلك جليا في تقرير تلفزيوني سابق لقناة “العربي” الذي صنف المغرب في المركز الأول عربيا من حيث عدد المتسولين الذين بلغوا 195 ألف شخص، متبوعا بمصر ثانية ب41 ألف متسول، ثم الجزائر ب11 ألف متسول. وكما نعلم فالتسوّل، ليس بظاهرة جديدة، لكن الجديد فيها نوعية المُتسولين وطرق اشتغالهم، في مختلف المدن المغربية، لدرجة أصبحت عند كثيرين مهنة لها قواعدها وأمكنتها الخاصة، ولم تعد مقتصرة على المعوزين من الشيوخ والنساء، بل إن فئة كبيرة من الشباب أصبحت هي الأخرى، تنتشر في الطرقات للتسوّل. وأمام تفشي هذه الظاهرة وتجاوزها حدود المعقول؛ كثُرت التساؤلات حول ما هي الأسباب التي تدفع هاته الفئة إلى امتهان التسول في وقت بإمكانها إيجاد مهنة أخرى تحفظ بها ماء وجهها؟ أم أن الأمر مرتبط بكونها مهنة لا تعب ولا شقاء فيها ولا تتطلب مجهودا عقليا وعضليا؟. علي الشعباني، أستاذ علم الاجتماع، يرى أن “التسول ظاهرة اجتماعية لأنها مرتبطة بالوضع الاجتماعي، وأن الدولة تُساهم في ذلك لأنها تعرف بأنه ليس في المجتمع عدالة اجتماعية و ليس هناك تكافل؛ في الوقت الذي خضع فيه المجتمع إلى تغيرات في الثقافات و في العقليات”. وأوضح الشعباني، في تصريح ل”نون بريس”، أن “المجتمع المغربي التقليدي الذي كان يعتمد على قيم التعاون و التكافؤ، عندما بدأت هذه القيم تتغير وهو ما لم تأخذه الدولة بعين الاعتبار؛ وقع الكثير من التفاوتات الاجتماعية، وعندما وقعت هذه التفاوتات انعدم العدل الاجتماعي و كثُرت البطالة، و لم تعد هناك مؤسسات تستطيع أن تعوض ما كانت تقوم به الأسر في السابق”. وأكد أستاذ علم الاجتماع، أن هذا الإنسان الذي يصبح عاطلا عن العمل عاجزا إما بفعل السن أو بفعل المرض، و لا يجد من يتضامن معه و لا من يساعده؛ لابد أن يحترف التسول، مؤكدا أن التسول يأتي من هذه المسائل عندما تسد أبواب العمل والأمل أمام الإنسان الذي يمكن أن يشتغل، وعندما لا يجد هذا الباب فأنه يلجأ إلى التسول لأنه الباب الذي يمكن أن يدخل منه أي أحد. من جهته، قال عبد الإله الخضري، رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان، إن من أبشع مظاهر التسول هو غياب العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، وغياب الفرص الاقتصادية، وامتداد الأفق، إضافة إلى الظلم الذي يعيشه المواطن في محيطه سواء المجتمعي أو المؤسساتي، يعني غياب الإنصاف في كل تجلياته. وأكد رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان في تصريح ل”نون بريس”، أن التسول آخر ملجأ يمكن أي يلجأ إليه الإنسان عندما لا يجد أمامه أي حل، بمعنى أنه لجوء قصري واضطراري. إذ “أن الخطير الذي وصلنا إليه هو درجة الانحطاط الأخلاقي أي أن المواطن المغربي في ريعان شبابه لم يعد لديه مشكل في أن يهين كرامته ويلجأ إلى التسول بعدما تقطعت به كل السبل”. وأوضح الخضري، أن الدافع الذي يدفع الأشخاص للتسول، هو أن “الإنسان لم يعد يجد لقمة عيش كريم، إذ أن أي شخص ليس لديه مورد رزق أساسي يختار “الموقف” حيث يعرض سواعده، في وقت لم يعد الناس بحاجة إلى خدمات هذه الفئة، وبالتالي يلجأ الشخص إلى التسول بعد مدة بحث طويلة عن عمل وعن لقمة عيش، وهذا لأن المغرب يعيش أبشع صور اللاعدالة اجتماعية، واحتكار مصادر العيش، وكذا احتكار الاقتصاد لفائدة فئة معينة وهي الفئة المتحكمة في السياسة وفي دواليبها”. في المغرب للأسف الشديد، يضيف الخضري، “لا منظومة العدالة ولا المؤسسات الحكومية التي تدعي الرعاية الاجتماعية لم تستطع توفير ما يجب توفيره لثني هؤلاء الناس عن التسول، والخطير في الأمر أنه في المجتمع المغربي، أزمة التسول مستفحلة لأكثر من ثلاثة عقود لدرجة أننا الآن أصبحنا في وضعية تطبع مع مهنة التسول، حيث أصبح المرء يلجأ إلى التسول وكأنه يلجأ إلى مهنة عادية كباقي المهن”. وعن الحلول التي من شأنها القضاء على هذه الظاهرة، شدد الخضري على أن “لا يمكن محاربة التسول إذا ما لم نحارب الاستبداد واحتكار مصادر الرزق التي تتحكم فيها فئة لها صلة بالسياسة والاقتصاد ويوجهون الناخب كما يشاؤون ويصنعون خزانا انتخابيا ويوجهون بوصلتهم السياسية كما يشاؤون”. مسترسلا “وللقضاء على هذه الظاهرة يجب أن نحارب الاحتكار، والتوزيع غير العادل للثروة، إذ عندما سيصبح عندنا اقتصاد مبني على الإنتاجية والتحفيز عن العمل، عندها لن يبقى وجود للتسول”. وأشار رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان إلى أن “المغرب ليس فقيرا ويوجد فيه رزق ولكنه محتكر، وهؤلاء المتسولين ضحية الاحتكاريين الذين يكدسون الأموال الطائلة في حساباتهم البنكية، ولا يبقى للسواعد والكفاءات والفئات النشيطة أماكن للعمل، وبالتالي تلجأ للتسول”. وعن حكم الشرع من هذه الظاهرة، قال لحسن بن إبراهيم السكنفل، رئيس المجلس العلمي لعمالة الصخيراتتمارة، إن التسول هو مد اليد بالسؤال طلبا للمساعدة المادية، ويسمى الذي يقوم بهذا العمل “سائلا”، قال تعالى: { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَر * }[الضُّحى:10]، أي لا تكن متكبرا غليظ القلب فظا في الكلام مع السائل بل ترفق به وأعطه مما عندك قليلا كان أو كثيرا، أو اصرفه برفق ولين، والمسألة لا تحل لأحد إلا لثلاثة كما جاء في الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه مسلم في صحيح عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِى الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا”. ومعنى تحمل حمالة، أي تحمل أداء دين كان على شخص معسر أو وجب عليه، أو أصلح بين طائفتين متحاربين بمال، فتحل له المسألة. ومعنى رجل أصابت ماله جائحة أو آفة كالفيضان أو الجفاف أو وباء فتحل له المسألة. ومعنى: أصابته فاقة أي افتقر بعد غنى فهذا تحل له المسألة بعد أن يشهد ثلاثة من أهل بلده بأنه أصبح فقيرا بعد إن كان غنيا. وبحسب السكنفل فإن هؤلاء الذين تحل لهم المسألة، وكذلك الفقير المعدم المحتاج غير القادر على العمل فهذا تحل له المسألة مطلقا، أما من كان قادرا على الكسب فلا يجوز لهم التسول، ولا تحل له المسألة لأنه قادر على الكسب ويكون ما يكسبه سحتا حراما كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أسباب انتشار ظاهرة التسول، أرجع السكنفل الأمر إلى “امتهان التسول وجعله حرفة لدى كثير من هؤلاء المتسولين رجالا ونساء والدليل على ذلك أننا نجد نفس الأشخاص يقومون بهذه العملية منذ سنوات في نفس الأماكن”. ومن الأسباب أيضا “وجود مهاجرين دخلوا بلدنا بطريقة غير قانونية، وقد أصبح هؤلاء يشكلون قسما كبيرا من المتسولين”. إضافة إلى عدم وجود سياسة اجتماعية محكمة للقضاء على هذه الظاهرة يساهم فيها كل المتدخلين تربويا واجتماعيا واقتصاديا وسياسة أساسها التضامن والتكافل والتآزر عبر البر والتقوى.. قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ*}[المائدة:2]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمن في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.