الرومنسية كما تبدُو لي هي بوحٌ وصفاءٌ ورقةٌ باللفظ الجميل والحركة الرشيقة من أجل إنعاش القلوب الصّدئة وضخّ دماء جديدة في النّفوس المتكلّسة في سياق التجديد الدائم للحياة، وهي كذلك التفاعلُ الايجابيُّ بين العناصر البشرية من خلال استلهامهم لمعاني الجمال والسعادة في الكون وجعلها في ما بينهم طاقتهم التي تحرّكُهم وتقرّبُهم من مراتب الكمال الوُجودي. من هذا المُنطلق لا أكونُ مُجانبة للصّواب إذا قلتُ أنّ الرومنسيّة ضرورةٌ حيويّةٌ في حياتنا، نحتاج إليها لإعادة بناء الروح المعنوية في ذواتنا قصد تأهيلها باستمرار لمواجهة المصاعب اليومية التي تطرأ عليها من حين إلى آخر، ومن أجل دفعها إلى تلمّس مدخل جديد لتذوّق الطعم الجميل للحياة وتشرّب مائها العذب الزّلال. إلا أنّني بوقفة تأمّل وبنظر مُتأنّ أجدُ للأسف عوامل مُتعددة تُعيق تعبيرنا بدقّة عن أحاسيسنا الرومنسية الحالمة النّابعة من أعماقنا، ومن هذه المُعيقات أذكرُ على سبيل المثال لا الحصر: 1- اللّهجات العاميّة همّشتْ ولا زالتْ تُهمّشُ اللّغة الفصحى التي تتميّزُ بقاموس ثريّ نقيّ وتُراث عريق في عالم الشاعريّة، وأفقدتْ الإنسان مُلهما معنويّا وبلْسما رُوحيّا، وقلّصتْ في حياتهُ من ينابيع الأمل والجمال . لقد ظهرتْ لهجاتٌ محلية جديدة تفتقرُ إلى ثراء المُعجم وتتّسمُ بالمحليّة الضيّقة وخشونة اللفظ المُتداول، وغزتْ الواقع الذاتي والموضوعي، وحكمتْ سائر العلاقات (يقول المثل الشائع: نلمُّو نلمُّو نلمُّو، نحبُّو ونكرهْ أمُّو”)، فاللّهجاتُ العاميّةُ تعكسُ خطابا شاعريّا ولكنّه خطابٌ غليظٌ يستبطنُ العدوانية والصراعيّة، ولا يُؤسّسُ للانسجام والتّصافي والتوادُد. 2- العائلة في نظري أيضا إطارٌ يفتقرُ إلى مناخ الشاعريّة، ولا حظّ للعلاقات الرومنسيّة بين عناصرها، ومردُّ ذلك إمّا لنقْص في مُؤهلات الوالدين التربويّة وإمّا للتوتّر الدائم بينهما وإمّا للضّغط اليوميّ المتزايد عليهما، ومن عُيوب العائلة على سبيل المثال: إعدادُ الأبناء للمستقبل وفْق ملامح المُجتمع الذّكوري بحيث يقعُ إعدادُ الفتاة وتأهيلُها لمسؤولية البيت كالطبخ وكيّ الثياب والغسيل... بينما الذّكرُ لا يكونُ داخل العائلة بأيّ حال من الأحوال موضوعا لهذه التأهيلات التي غالبا ما تُحدّدُ اختياره لشريكة حياته المستقبلية بعيدا عن فلسفة الرّومنسيّة، كما يُعابُ على العائلة أيضا تدخّلُها ما قبليّا وما بعديّا في صياغة خصائص الحياة الزوجيّة، إذ تُسلّح الابن أو البنت بنصائح أو عادات غالبا ما تُؤجّجُ نزعة كليهما إلى السّيطرة والمسك بزمام الأمُور قبل فوات الأوان (ولنا خيرُ شاهد المثلُ المغربي: “...من النهار الاول تيموت المش اي القط”)، بل حتّى الأصدقاءُ أو الصديقاتُ أو الجيرانُ أو الجاراتُ قد يكونُ لهم شأنٌ في هذا الأمر، فلا يتورّعُون في حشْر الأنُوف والتأثير في مُجريات الأمور. 3 – كما أنّ العادات والتقاليد والمخْزُونات الثقافيّة للنّاس ترفُضُ خطاب المشاعر الرّومنسيّة انطلاقا من أحكام جاهزة في اعتبارها ذلك علامة ضُعف في الشخصيّة أو علامة مُجون ومُروق وقلّة أدب وحياء، وغالبا ما تظهرُ هذه الأحكامُ من خلال إطلاق النّعُوت المُشينة التي سريعا ما تتداولُها الألسنُ فتسْري سريان النّار في الهشيم، وتتحوّلُ الذاتُ الرّومنسيّةُ بمجرّد تلاسُن النّاس حولها إلى ذات سابحة في بحر من المُجون. إذنْ خطابُ المشاعر الرومنسيّة في مجتمعاتنا غالبا ما يكونُ مُحاصرا أو مُهمّشا في الفضاءات الضيقة والمغلقة.. 4- الحياةُ في المدينة بين الجُدران وفي الأحياء العمرانيّة وفي المُحيطات المُلوّثة وفي ظلّ العوامل الضّاغطة ساهمتْ بدورها في إفساد الذّوق الشخصيّ وتعريض النّفوس لحالات من التشنّج الدائم، فحُجبتْ بذلك مظاهرُ الجمال الطبيعيّ والصّفاء النّفسيّ، وظهرتْ مُقارباتٌ نفعيّة للجمال ومفاهيمُ استهلاكيةٌ للعلاقات البينيّة. 5- المدرسة بدورها لعبتْ ولا زالتْ تلعبُ دورا سلبيّا في ترسيخ القيم الرّومنسية، فالاستعمالاتُ في العملية التعليميّة التربويّة يطغى عليها الطابعُ الجافّ والبرامجُ تخلُو من فلسفة التأسيس للحياة الرومنسية، وإذا بادر المُدرّس باستعمال بعض الأمثلة في التطبيقات اللّغوية على سبيل المثال أو غيرها سيكونُ محلّ استخفاف من النّاشئة وربّما محلّ استجواب من الإدارة وربّما محلّ احتجاج من أولياء التلاميذ. 6- اختلاف الطباع والأمزجة والأذواق والاهتمامات والتقديرات ودرجة الحساسيّة النفسيّة بين العناصر البشريّة يلعبُ هو أيضا دورا بارزا في إجهاض الطابع الرّومنسيّ للحياة البينيّة، ويقودُ إلى الانكفاء على الذّات والانغلاق إذا لم يقدْ إلى التّجاذُب وأحيانا إلى الصّراع والقطيعة. خلاصة القول الرومنسية في بيئتنا مستهدفة من المجتمع بسائر مؤسّساته وأجهزته، والقولُ بأنّ الرّجل غادرٌ بالرّومنسيّة مُرتدّ عنها أو أنّ المرأة نرجسيّة مُتعالية لا تقرّ نفسُها على قرار ليس إلا هروبا من مواجهة المجتمع الذي يتربّصُ برومنسيتهما سويّا، قد يبدُو الرّجلُ و المرأةُ كلاهما رُومنسيّا قبل الزّواج ولكنْ بمجرّد الانخراط في الشّراكة الزوجية يصطدمان بكمّ مُعقّد من العوامل المُعيقة للرّوح الرّومنسية بينهما لأنّ أرضية ذلك موجودةٌ من قبلُ في المجتمع. وليس سليما التعميمُ بأنّ الرجل غيرُ رومنسيّ والمرأة رومنسيةٌ فكلاهما قد يكونُ رومنسيّا أو غير رومنسيّ والمسألة مع ذلك نسبيّة ولكنّ المُجتمع يظلُّ متربّصا بهما فتتهاوى عندهما الرّوحُ المعنويّة وتتوشّحُ الكلماتُ بينهما بالسّواد وتتوارى عنهُما مظاهرُ السّحر والأسْر والإغراء في الحياة. لقدْ حاصر المجتمعُ عندنا رُومنسيّة الإنسان وهمّشها وغالبا ما صادرها فلم تجدْ بُدّا من اللّوْذ بواقع بديل تظلُّ من خلاله مُطلّة باستحياء على القلّة الباقية من أتباعها في المجتمع، هذا الواقعُ الذي تحصّنتْ به ولا زالتْ تُعلنُ من خلاله عنْ وجودها هو عالمُ الفنون من أدب ومسرح وسينما وموسيقى وأهازيج ورسم... فهلْ يا تُرى يأتي اليومُ الذي ننتصرُ فيه للرومنسية ونعيدُ إليها اعتبارها لتعود بيننا بلْسما لنفُوسنا وإلهاما لأرواحنا في حياتنا المباشرة وواقعنا اليوميّ؟ [email protected]