تعودنا أن نسمع مصطلحات معروفة في كثير من الكتابات والمقالات من قبيل؛ فقر المادة، وفقر الحاجة وفقر الدم.. وغيرها من المصطلحات التي تندرج ضمن مواضيع إنسانية وإجتماعية وطبية.. واليوم سأتحدث عن نوع ونموذج من الفقر لا يقل أهمية عن النماذج السالفة الذكر، ألا وهو ؛ "فقر الثقافة" إن صح لنا أن نقترن الثقافة بصفة الفقر تعبيرا مجازيا عن قلّتها وخصاصها الذي يصل إلى أرذل المستويات في هذه المدنية خاصة وفي المغرب وكذا في البلدان العربية عامة. ولعل هذ الفقر ناشئ بالأساس عن عزوفنا عن القراءة التي تُعتبر وعاءً للثقافة والمعرفة والعلم، وتساهم في تزويد الفرد فكريا وعلميا وأدبيا، وتشكل شخصيته وقناعاته وتوجهاته وأفكاره وآرائه المستقلة. يقول الكاتب والأديب الفرنسي "أندريه جيد" بهذا الصدد : "ثق أنك عندما تأخذ الكتاب وتقرؤه وتعيده في الرف مرة أخرى فإنك لن تكون نفس الشخص قبل قراءته." وإذا أقمنا إحصاءً متواضعا حول قُرّاء الكتب والمهتمين بالثقافة في جميع مستوياتها سنجد فئة قليلة جدا تلك التي تهتم بقراءة الكتب والجرائد والمجلات. وهذه الفئة الصغيرة مع مرور الوقت تصبح القراءة لديها شبيهة بالإدمان حينما تتحول إلى عادة يومية لا يستطيع صاحبها أن يستغني عنها كعادة الأكل والشرب والنوم.. أما الأغلبية الساحقة فهي أبعد ما تكون عن الإهتمام بالقراءة والثقافة، وربما كانت هذه الأخيرة لديها موضوع تندّر وسخرية أكثر من كونها مجال للمعرفة والعلم؛ فكثيرا ما نجد فئات واسعة تسخر من المثقفين والمهتمين بهذا الشأن حتى أصبحت في مجتمعنا عادة القراءة في الشوارع والأماكن العمومية عيب يلفت أنظار الغير، ربما لندرتها أو ربما لأن أفراد المجتمع لم يتعودوا عليها بالشكل الذي يجعلها بالنسة إليهم أمرا مألوفا. وليس أدلّ على ذلك مما قاله صديق مقرب لي بأن شخصا سخِرَ منه في شكل عتاب حينما وجده يقرأ كتابا له وهو في الحافلة، قائلا : "حتى وسائل النقل غزوتموها بالقراة والعلم.. إلى أين تريدون أن تصلوا بهذه القراءة ؟!!" أما على مستوى الكتب والإصدارات في بلادنا فحدّث ولا حرج، لا تكاد تجد مؤلفا ينال رضاك ويشدك إلى قراءته حتى أن الأغلبية الساحقة تفضل أن تقرأ الكتب المستوردة من الخارج، سواء كانت شرقية أو غربية، وقلما نجد فئة قليلة تهتم بقراءة الكتب المحلية والوطنية التي لا يرقى كثير منها إلى مستوى إعجاب اقرائها. وأولا ، وقبل كل شيء، يعاني المغرب من أزمة الإصدارات وقلتها أو سوء جودتها. ولعل ذلك الموقف المخجل الذي سقط فيه وزير الثقافة " بنسالم أحميش" أثناء مشاركته في معرض الشارقة الدولي للكتاب في الإمارات - حسبما ذكرته وسائل الإعلام الوطنية- برواق فارغ !! لهو أكبر دليل على أننا بالفعل نعاني من أزمة الإصدارات والكتب؛ فالمغرب رغم تاريخه الحافل بنماذج المثقفين والكتاب والأدباء والمفكرين، إلا أنه ومن خلال هذه المشاركة المحرجة والمخجلة ليترك في الأذهان انطباع سيء لسمعة هذه البلاد الثقافية. ومن جهة أخرى وعلاقة بهذا الموضوع، فإن الثقافة تتطلب أن يكون المرء منفتحا على كل أشكال العلم والمعرفة على كافة مستوياتها العلمية والفكرية والأدبية، وهذه الثاقفة يتأتّى جزء كبير منها من خلال قراءة الكتب ومطالعتها مهما كانت مواضيعها. وفي المجتمعات المتقدمة نجد عادةَ قراءةِ الكتب تصل في بعض الأحيان إلى الغريبة خلال إيجاد أصاحبها لطرق وسبل كثيرة تمكنهم من جمْع عادة قراءتهم للكتب مع متطلبات حياتهم اليومية وضغوطات أشغالهم، بحيث يوفقون بين الكل، من حيث وقت يومهم الذي لا يتركون دقيقة واحدة تفوت دون استغلالها فيما يعود عليهم بالنفع بالقراءة أو بشيء آخر مفيد، أما عندنا فإن الوقت لا نولي له أية أهمية ولا اعتبارا ونسحقه في الجلوس الطويل في المقاهي أو فيما لا يُرجى من ورائه أي نفع ولا فائدة، ولذلك فليس غريبا أن نجد فئات واسعة تشتكي من الروتين والملل. وفي اليابان ،نموذجا، لم يعد تحصيل العلم والمعرفة والإلمام بالكتب يتم عبر القراءة المباشرة، بل إن هذه العادة على وشك أن تكون عادة تقليدية، بل إنهم يستَمعون إلى الكتب المقروءة وهم مثلا منهمكون في أعمالهم أو في أشياء اخرى لا تسمح لهم بأن يخصصوا وقتا للإلمام بالكتب عبر قراءتها خصوصا وأن أوقات العمل عندهم تمتد لساعات طويلة. بالإضافة إلى أنهم دوما مسلحين بالكتب، فلا يكاد ،مثلا، يجد سائق الأجرة وقتا فارغا ،ريثما يحصل على زبون، حتى يستلّ كتابا من سيارته فيبدأ في تشغيل وقته بالقراءة إلى حين قدوم الزبون، وكذلك بالنسبة لصاحب الحانوت وغيرهم كثير. وأيضا نفس الشيء في باقي البلدان المتقدمة. وفي الأخير واجب أن يقضي أفراد مجتمعاتنا على هذا الفقر الذي لا يقل أهمية عن الأنواع الأخرى من الفقر، ولا سبيل إلى القضاء عليه إلا بالقراءة و السعي وراء تحصيل العلم والمعرفة وترويض النفس على القراة حتى تصبح هذه الأخيرة لدينا عادة تجعلنا لا نستغرب من رؤيتنا لشخص جالس في الحافلة وفي يده كتاب ينهل من صفحاته أو جريدة أو مجلة... وكذلك في مقغدٍ في الحديقة و في الأماكن العمومية وحتى في الشوارع العامة! فاستغلال الوقت في القراة خير من استغلاله في أشياء أخرى تساهم في هدم الفرد ووقوعه في هاوية الروتين والملل.