في الوقت الذي تجهز فيه آلة بنكيران على الأخضر واليابس، من مكتسبات الشغيلة التعليمية والقوت اليومي لمجموع الشعب المغربي، تنتشر في ربوع الوطن بدعة جديدة في صفوف التنظيمات النقابية التعليمية تحديدا، تتمثل في الإحتفالات التي أقامتها وتقيمها في مختلف المدن المغربية، والتي كان بعضها باذخا، بمناسبة نتائج انتخابات اللجان الثنائية متساوية الأعضاء. فمِن مُحتفل بحصوله على المرتبة الأولى في هذه الإنتخابات، ومِن محتفل بالرتبة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة في هذه الفئة أو تلك ، ومن محتفل بهذه الرتبة أو تلك، إقليميا أو جهويا أو وطنيا، أو بها مجتمعة أو ببعضها.. المهم أن يتم إيجاد مبرر لعدوى الإحتفالات التي انتشرت في الجسم النقابي انتشار النار في الهشيم، حتى لو تعلق الأمر باحتلال رتبة متأخرة في فئة تعليمية محدودة. حتى قد أصبح الأمر تنابزا وتفاخرا واستعراضا يبعث على الشفقة والأسف في نفس الآن. لست أدري إلى متى ستظل التنظيمات النقابية التعليمية، منتشية غارقة في الإحتفالات بنتائج انتخابات اللجان الثنائية، وقد مرت على صدور هذه النتائج مدة ليست بقصيرة. وهي احتفالات تنحو إلى أن تكون باذخة على شاكلة احتفالات الأعيان حين فوزهم بالإنتخابات بوسائلهم وطرقهم المعلومة، مع ما يعنيه ذلك من جنوح إلى ما يستدعي الإنفاق من أموال المنخرطين على مموني الحفلات، والإنخراط الواهم أحيانا، حتى على إيقاعات الغناء والرقص والإستعراض، انتشاء بما قد يُعتقد نصرا، وربما نكاية في بؤس النتائج التي حققتها تنظيمات نقابية أخرى. يا لسخرية القدر وحضيض ما آل إليه حال النقابات من تردي !! كل تنظيم يفعل ذلك استعراضا لعضلاته النقابية، التي من المعلوم أنها لم تُجد نفعا في ساحة المواجهة مع تعنت وغطرسة آلة بنكيران المتعنتة، إيهاما للمنخرطين وللرأي العام، بقوة وسلامة خطه "النضالي"، وربما استعلاء على التنظيمات الأخرى، وكأني به قد استكمل حل جميع مشاكل الشغيلة، وانتهى إلى بلوغ وتحقيق جميع عناصر ملفاتها المطلبية. بينما المد الحكومي مُمعن في تحقيق الكثير من التقدم والمواقع، على حساب الخندق العمالي عامة، والحصون التعليمية الهشة، على وجه الخصوص. سواء في واجهة ملف التقاعد، أو الجمود الذي يطال الأجور، أو تدبير الحركات التعليمية المختلفة، أو الزيادات المتتالية في أسعار المواد الإستهلاكية.. بل والتفكير في الخوصصة الشاملة للقطاع، والبقية تأتي. من المؤكد أن مصاريف هذا "البذخ النقابي" الجديد والسخي، ستُدرج ضمن التقارير الأدبية والمالية للفروع النقابية بانتشاء وزهو، وستجد لها خانات ومسميات يتم إدراجها تحتها، يتم من خلالها إقناع بل إيهام المنخرطين/ القواعد، بأن الأمر يتعلق "بمحطة نضالية" لا بد منها لتأكيد وجود وقوة التنظيم في الساحة.. والحال أن كثيرا من الفروع النقابية تعاني أوضاعا مالية بالغة الهشاشة والعجز ! يحدث هذا، وقطاع التعليم متخم بالمشاكل والتحديات من كل نوع، والإنتكاسات غير المسبوقة التي تعرفها مكتسبات الشغيلة التعليمية، وعموم الشغيلة العمالية، ومن ضمنها الهجوم على القوت اليومي لعموم الشعب المغربي في تفاقم كبير. يحدث هذا وساحة المواجهة مع السياسات الحكومية العرجاء، ساكنة هادئة مسالمة ومهادنة برغم الوعد والوعيد، سوى من كثير من اللغط وخطابات تهييج وإثارة القواعد، وبعض المسيرات الخجولة، المنظمة خارج أوقات العمل، والتي لم يكد صوتها يُسمع أو يصل، سوى إلى آذان المشاركين فيها. وهي بذلك، لم تحرك من رأس رئيس الحكومة شعرة واحدة. ما جعل بنكيران في خرجته الأخيرة إلى المركزيات النقابية ودعوته لحوار الطرشان معها، هو من يحدد موعد وشروط حوار أجوف منذ البداية، وليس النقابات، كما كان الحال سابقا. بل وفي خرجته إلى بعض نشطاء فضاء الفايسبوك، صرح، بتبجح وغرور زائد، بما يدعو إلى تبخيس النضالات العمالية النقابية، وحتى الإستخفاف بها، وبالتالي إلى ما يشبه إفراغ حواره مع النقابات من أي مضمون أو جدوى أو حتى فائدة. حينما أكد بأنه لو تعرض للإحتجاج بعدد من المحتجين يماثل عدد سكان الصين، لن يتراجع قيد أنملة عن إصلاحاته المزعومة المعلومة، وقراراته الحكومية الماسة بالوضع الإجتماعي لعموم المواطنين. وذلك لعلمه بالوضع المهلهل والمخلخل للنقابات، وعجزها عن خوض مواجهات رابحة، مع حكومته المتمادية في الإجهاز على المكتسبات، ناهيك عن المطالب. لست أدري إلى متى سيظل كثير من النقابيين، وكثير ممن يجرى في مجراهم، في ظل هذا الإصرار الحكومي على اللامبالاة بالمطالب العمالية، لا يتوقفون عن استعراض النتائج المحققة في الإنتخابات الأخيرة، على شبكة الأنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي، ويتغنون بها كأنها فتح مبين، وهم مزهوين متبجحين بها، وكأني بهذه الإنتخابات، هي الهدف والغاية والمراد. تبجح مبالغ فيه بأوهام النصر، عبر استدعاء أنواع الأوصاف الرنانة الطنانة، وإضفائها على تنظيماتهم ومناضليها وزعمائها "الأشاوس"، والعمل على الدفع ببعض من تيسرت لهم فرصة الحصول على صفة تمثيل رجال التعليم فيها، إلى حافة الغرور والإنبهار بالذات، عن طريق كيل المديح والمجاملات المنافقة لهم، والنفخ في مساراتهم النضالية بشكل مبالغ فيه. وإبداع أشكال وصنوف الملصقات المنمقة المزوقة، المحتفية والمحتفلة بإنجازها العظيم. بينما الرؤوس النقابية الشائخة المدبرة في المركز، تنتشي فرحا ومرحا، بتأمين قاعدة ناخبة مهمة، وتعمل على تدبير الصراع فيما بين عناصرها، وإعداد العدة لأجل توظيف هذا الزاد الإنتخابي، وقودا لأجل العبور الآمن المطمئن إلى ضفة البرلمان، وغرفته الثانية تحديدا، بعد تدبير الخلافات والصراعات بين أفرادها حول هذه العملية. بينما لا أحد، أو بالأحرى، قلّ من تحدث أو يتحدث عن الرهانات التي ينبغي الإستعداد لربحها على مختلف الواجهات، المهنية أولا، ثم النضالية والإجتماعية ثانيا. لا أحد يتحدث عن جمع الشمل النقابي تنظيميا، أو أضعف الإيمان تنسيقيا لمواجهة حكومة، جاءت لإذلال رجال التعليم وعموم الطبقة العاملة، من خلال سياساتها غير الإجتماعية القائمة على سد ثقوب وفراغات واختلالات الدولة المالية، عبر إفراغ جيوب العمال والأجراء وعموم المواطنين. إن أكبر احتفال يمكن أن تحققه النقابات، هو وقف هذا النزيف الذي تتعرض له مكتسبات الشغيلة التعليمية، على يد حكومة فاقدة للشرعية الشعبية. أكبر احتفال يمكن أن تحققه هو المساهمة الفعلية في التعجيل بإنقاذ هذه المدرسة العمومية المتهالكة، التي آلت الأمور بها إلى درجة من السوء لا تحتمل، وما التسريبات الفاضحة المخجلة الأخيرة لمواضيع امتحانات الباكالوريا، إلا تمظهر صارخ لهذا الوضع المتردي، ولسان الحال أبلغ من المقال. أكبر احتفال يمكن أن يتحقق هو إعداد العدة التنظيمية والتعبوية لمواجهة وإفشال مشروع حكومي بنكيراني يطبخ على نار هادئة، يرمي إلى الخوصصة الإجمالية للقطاع !! أكبر احتفال يمكن أن يتحقق هو العمل على الحفاظ للمدرسة العمومية على شيء مما بقي لها من هيبتها وبريقها قولا وفعلا، وممارسة، والتزاما بأخلاق وشرف المهنة أولا، قبل إنتاج الخطابات الديماغوجية، التي لا تقدم ولا تؤخر شيئا، سوى تهييج الفاعلين في الميدان من أجل الركوب على نضالاتهم، واستثمارها في تحسين وتحصين المواقع الشخصية تنظيميا. والتي غالبا ما تساهم في صنع الكثير من الأصنام النقابية المعبودة، التي تمثل سببا من الأسباب الرئيسية لهذا البلاء الذي يفتك بالتنظيمات النقابية، والمتمثل في استفحال ظاهرة الإنشقاقات، والجنوح إلى التشتت والتشرذم النقابي، استجابة للتطلعات الشخصية لهذه الأوثان النقابية. أكبر احتفال يمكن أن يتحقق هو وقف نزيف التشتت والتشرذم النقابي، الذي تزيده مثل هذه الإحتفالات الضيقة تأجيجا وتعميقا، وإعادة اللحمة إلى الصف النقابي، وجمع شمله في خندق المواجهة مع الترامي الحكومي المتعاظم والمتفاقم، على حقوق ومكتسبات الأجراء والعمال. فالتحديات المطروحة، أكبر من أن تواجه بصف مهلهل مخلخل ضعيف، تفعل فيه الإنقسامات والصراعات والتموقعات فعلته. إن مما يدعو اليوم إلى الحيرة والإستغراب حقا، هو أن يحدث كل هذا التشرذم النقابي، وهذا الجنوح إلى "النضال الإحتفالي"، وهذا الهجوم السافر للحكومة على مكتسبات القطاع، وهذا التردي في خدمات المدرسة العمومية، في وقت يتمادى فيه الكثير من المسؤولين النقابيين وغيرهم، من الممارسين في القطاع، في التملص من أداء الواجب المهني، ويعملون على الإختفاء والإختباء في مختلف الأركان المريحة والمؤدى عنها في القطاع، تحت مسميات عديدة، أكثرهم لا يدرك حتى مدلولاتها الفعلية، وطبيعة المهام التي تمليها تشريعيا وتربويا. والتهافت من أجل الحصول على مواقع الراحة المؤدى عنها، في مختلف أركان القطاع. ولتذهب المدرسة العمومية إلى الجحيم. هل ساءل كل نقابي نفسه ماذا قدم ويقدم للمدرسة العمومية من إضافات غير خطابات التهييج الزائفة الجوفاء، وادعاء النضال الواهم الأعرج. ماذا قدم في إطار مسؤوليته المهنية، غير التهاون والتراخي والتغيبات المتلاحقة بسبب وبدونه. هل ساءل نفسه كم من الوقت يقضي في مقر عمله، وماذا يفعل خلال هذا الوقت، غير التنظير "النضالي" الأجوف. إن الأوطان أيها السادة لا تُبنى بالنضال السخيف غير المؤسس، بل تبنى بالعمل والعمل والإخلاص في العمل قبل كل شيء. إن النضال الفعلي والحقيقي، يلزمنا أخلاقيا بتأدية واجباتنا المهنية المؤدى عنها، قبل اختزاله في الوقفات والمظاهرات والصراخ والزعيق والنعيق في الوقفات والتظاهرات المختلفة. يكاد النضال النقابي في هذا الزمن الرديء، يرادف التملص من الواجب المهني، ويستهدف البحث عن المنافع الشخصية الضيقة، والعمل على الترقي غير المستحق في أسلاك المهنة، وتغيير الإطارات إلى إطارات لا تتناسب لا مع التكوين الشخصي، ولا مع المؤهلات والكفاءات المهنية التي تستوجب ذلك. الجميع "يناضل" ويصارع ويلهث، وقد يتملق ويتودد وربما يستجدي، من أجل مغادرة القسم، واللجوء إلى أي ركن من الأركان الكثيرة المظلمة في القطاع، التي لا تقدم ولا تؤخر للمدرسة العمومية شيئا، سوى جيشا عرمرما من الأشباح المقنّعين، المُختبئين تحت مسميات عديدة ومتنوعة، ومهام مبهمة. بل أن الكثيرين ممن يدعون النضال قد تحولوا إلى أدوات مضرة بالممارسة المهنية، مسيئة إلى شرف المهنة. وعليه، ما أحوجنا إلى تخليق الفعل النضالي، تخليقا حقيقيا، حتى يتناغم مع الشعارات الرنانة والطنانة التي نرفعها، ويرتقى إلى مستوى المطالب الكبرى التي نشرئب إلى بلوغها وإدراكها. فيكاد النضال بالشكل الذي تشهده الساحة التعليمية، يصبح مبعث سخرية وتبخيس وحتى خزي وعار.