بعد حوالي 60 سنة على الوفاة الغامضة لعباس المساعدي، تحكي أرملته السيدة غيثة علوش، على كرسي الاعتراف، تفاصيل لقائها، وهي مراهقة فاسية متعلمة، في السادسة عشرة من عمرها، برجل شق لنفسه طريق الكفاح بالسلاح. على كرسي الاعتراف تُقِر السيدة غيثة علوش بأنها عاشت رفقة عباس المساعدي في الريف، داخل منزل مليء بأنواع من الأسلحة والمتفجرات، وتعترف بالطريقة التي كان زوجها يتخلص بها من الخونة، وتتذكر خلافات المساعدي مع المهدي بنبركة وعلال الفاسي، وعلاقته القوية بالأمير الخطابي ومحمد الخامس. - ما حقيقة أن عباس المساعدي لكَم المهدي بنبركة وبصق في وجهه أمام الملإ؟ بعد الاستقلال بمدة قصيرة، جاء علال الفاسي ومعه المهدي بنبركة إلى الريف، وهناك صورة يعانق فيها علال الفاسي السي عباس بحرارة. خلال تلك الزيارة، صعد بنبركة فوق المنصة وشرع يخطب في الناس بعربية فصيحة، وهم لا يفهمونه، قائلا: «جيش التحرير من حزب الاستقلال وإليه»، وقد أثار هذا الأمر حفيظة السي عباس و"طلعت لو الصحراوية للراس"، فصعد إلى المنصة.. - لماذا أثار كلام المهدي بنبركة استياء عباس المساعدي؟ لأن حزب الاستقلال كان ضد الكفاح المسلح، وعندما حصل المغرب على استقلاله بفضل من استشهدوا دفاعا عن الوطن، جاءت قيادة هذا الحزب وأرادت أن تركب على ما حققه جيش التحرير وتنسب إلى نفسها نصرا لا علاقة لها به. - ما الذي فعله عباس المساعدي حين صعد إلى المنصة والمهدي بنبركة يلقي خطابه؟ صفعه أمام الحاضرين ودفعه حتى أنزله من المنصة.. فالسي عباس، رحمه الله، لم يكن يعرف سبيلا إلى حيل ومراوغات السياسيين ولم يكن يطيقها، فقد كان رجل مقاومة ومعارك ميدانية. وبعدما أنزل بنبركة من المنصة، أمسك السي عباس الميكروفون وقال: «جيش التحرير حر، والناس ديالو أحرار، وما عندهوم انتماء لحتى شي حزب». وأمام ذلك، ركب المهدي بنبركة وعلال الفاسي ومن معهما السيارة وأقفلوا عائدين من حيث جاؤوا. - هل صحيح أن عباس المساعدي حاول قتل المهدي بنبركة، لكنه وجد من يحد من انفعاله ويمنعه من فعل ذلك؟ لا، هذا غير صحيح؛ فعندما انطلق بنبركة وعلال الفاسي بالسيارة، اقترح عبد الله الصنهاجي على السي عباس أن يلحقا بهما ليقتلاهما فرفض السي عباس الفكرة من أساسها. وعندما تناهى هذا الأمر إلى علم محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي كان حينها في منفاه بمصر، علق قائلا: «ملي المساعدي ما قتلشي بنبركة فإن هذا الأخير سيقتله»، وقد كان على صواب، لأن الصراع احتد بين رأسين، فكان على أحدهما أن يصفي الآخر. - من أخبرك بهذا الكلام المنسوب إلى محمد بن عبد الكريم الخطابي؟ سمعته من أكثر من مصدر نقلا عن بن عبد الكريم. - ما الذي حكاه لك زوجك عباس المساعدي يومها عن هذا الخلاف مع المهدي بنبركة وقادة حزب الاستقلال؟ حكى لي تفاصيل ما حدث، وقال إن بنبركة رجل شرير وسارق هو وعلال الفاسي وغيرهم من قادة الاستقلال، يستولون على أموال الأرامل وبيوت من ماتوا في المقاومة، بدعوى أنهم يفعلون ذلك دعما للحزب، ولذلك فهؤلاء (قادة حزب الاستقلال) حين ماتوا تركوا خلفهم الأملاك والأموال، أما السي عباس، فكما قالت عنه والدتي -بعد استشهاده- لمحمد الخامس عندما استقبلنا في القصر: «سيد العباس ملي مات ما خلاش حتى الملحة فالطنجية»، فأجابها محمد الخامس «كنعرف هاذ الشي، كنعرفو». وفعلا، فبعد اختطاف السي عباس، جاء رجال المخزن يبحثون في البيت الذي كنا فيه بالناظور عما إذا كان هناك سلاح أو مال أو شيء ذو قيمة فلم يجدوا حتى الملح. - هل كانت زيارة المهدي بنبركة وعلال الفاسي، تلك، للريف آخر زيارة لهما لهذه المنطقة أم إنهما عادا إليها بعد ذلك؟ بعدها بفترة قصيرة كان السي عباس متجها للقاء محمد الخامس؛ وعندما قطع نصف المسافة من الريف إلى الرباط انتبه إلى أنه نسي أن يحمل معه شيئا، لم أعد أتذكره بالتحديد، فأقفل عائدا إلى الريف؛ وفي مركز أكنول بالتمام، عثر على المهدي بنبركة وبرفقته الفقيه البصري ومحمد بنسعيد آيت يدر، فاستشاط السي عباس غيظا بسبب وجودهم في منطقة تابعة لجيش التحرير، وعرف أنهم يحاولون بث الفرقة والشقاق بين المقاومين، فانتزع بندقية من كتف أحد المجاهدين وهمّ بتصويبها نحو بنبركة ومن معه لولا أن تدخل بعض المجاهدين واستعطفوه أن يعفو عنهم، ففعل. بعدها مباشرة، اجتمعت قيادة حزب الاستقلال وقررت تصفية السي عباس وهو ما وفت به. - ما حقيقة ما يروج عن حزب الاستقلال من أنه كان يحاول بث الفرقة بين محمد الخامس وجيش التحرير؟ حينما عاد السلطان محمد الخامس من منفاه حذّره علال الفاسي من عباس المساعدي، قائلا: المساعدي هذا من دعاة الجمهورية، وقد اتفق مع جمال عبد الناصر على أن يقلب نظام الحكم في المغرب ويحوله إلى نظام جمهوري، وما إلى ذلك من أكاذيب وتلفيقات. وحينما علم السي عباس بذلك الأمر جاءني وقال لي بالحرف: «وسمع شنو قال عمك بو طريبيش عليّ لمحمد الخامس»، لقد كان السي عباس يصف علال الفاسي إما ب»بو طريبيش» أو ب»بو كديديمة» (نسبة إلى شكل لحيته. - من أخبر عباس المساعدي بذلك الأمر؟ بلغه من جهة ما، وقد أكده له محمد الخامس عندما زاره السي عباس وقدم إليه استقالته من قيادة جيش التحرير، لكن موقف السلطان كان واضحا، فقد رفض استقالة السي عباس وبالمقابل سلمه دعما لجيش التحرير قدر ب30 مليونا، وهو مبلغ مهم حينها، ثم قال له: «جيش التحرير هو اللي كنخوف به حزب الاستقلال».