يفكك الإعلامي المغربي "منتصر حمادة" (في كتابه الجديد "نحن والتصوف.. الطريقة القادرية البودشيشية نموذجا") مظاهر تشابك التصوف المغربي بالتحديات الراهنة، محاولا دفع حزمة الانتقادات الموجهة للتصوف المغربي بتجلية "البودشيشي" سواء هذا الوارد في ثنايا المقاربات الإعلامية المتابعة للظاهرة الدينية أو الصادر عن الأخ غير الشقيق، المتمثل في تنظيمات الحركة الإسلامية ذات المنزع "السلفي الوهابي" كما يسميها المؤلف. ويقدم الكتاب (الذي يعد ثمرة مقالات ومتابعات إعلامية للباحث المغربي منتصر حمادة بعد إصدارات سابقة حول نقد الحركات الإسلامية بشقيها السلمي والعنيف) "دفوعات شكلية" في إطار رد الاتهامات الموجهة للتصوف "الحمزي" (نسبة إلى حمزة بن العباس البودشيشي" أو "التوفيقي" (نسبة لأحمد توفيق الوزير والمريد)، ويكون البدء بطرح السؤال المفتاح: إلى أي حد استطاع المؤلف اقتحام "عش النحل" واستخراج شفائه والعودة سالما من وخز إبره؟. رسائل ضمنية في تمهيد الكتاب الذي يصدر ضمن سلسلة "الشروق المغربية" يفكك الباحث والإعلامي المغربي دواعي ومنهجية النبش في القضايا الشائكة المرتبطة بالتصوف البودشيشي، محاولا تقليب الأبعاد السياسية والروحية التي جعلت التصوف عامة والبودشيشي خاصة مطلبا سياسيا لترتيب فسيفساء الفاعلين الدينيين بالمغرب ما بعد11 سبتمبر2001 بأمريكا، و16 مايو 2003 بالدارالبيضاء المغربية. ويقول المؤلف في التمهيد إن عمله العلمي "غير مُوجّه بالضرورة لأتباع الطريقة القادرية البودشيشية لاعتبارات عدة، أهمها أن "أهل مكة أدرى بشعابها" كما جاء في الأثر العربي، إضافة إلى أنه لا يمكن أن نكون بودشيشيين أكثر من البودشيشيين أنفسهم، كما أن الكتاب غير مُوّجه أيضا لأتباع الحركات الإسلامية المغربية، فهؤلاء رهنوا ملكة العقل النقدي في قفص أيديولوجي مُؤطّر بما يصدر عن القادة والزعماء، وهؤلاء أكثر وضوحا في نقد الطرق الصوفية حتى لا نقول شيطنتها تأسيسا على خطاب التبديع والتفسيق الأقرب إلى التكفير، والذي نجد أرضية مؤسسة له في المرجعية العقيدية والمذهبية لهؤلاء، ونتحدث عن المرجعية السلفية في تجلياتها الحركية والإيديولوجية، فالكتاب مُوجّه على الخصوص للقراء المغاربة من غير المتخصصين أو المتتبعين لقضايا الشأن الديني في الساحة المغربية، ومنها قضايا وملفات الحركات الإسلامية والطرق الصوفية. ويتساءل منتصر حمادة "ما هو موقع التصوف اليوم في ظرفية دولية اختُزِل فيها الإسلام في صور نمطية لا تخرج عن العنف والدم والإرهاب؟ ومن هم نجوم الطريقة داخل وخارج المغرب؟ وما هي أسباب الخلاف الأقرب إلى العداء ذلك الذي يُميّز موقف الحركات الإسلامية من الطرق الصوفية؟ وما هو موقع الطريقة القادرية البودشيشية والتصوف بشكل عام في المشهد الديني المغربي اليوم؟". ويتابع مستفسرا: "هل حقا كان علينا انتظار اعتداءات الدارالبيضاء الإرهابية حتى نشهد هذا الإقبال شبه الرسمي على الطريقة؟ وما الذي يمكن أن يقدمه التصوف، أو الإسلام الطرقي في معرض مجابهة الأطروحات الإسلامية المتشددة؟ وأخيرا ألا يمكن قراءة الصعود اللافت للتصوف في الوطن العربي والعالم الإسلامي تجليا لمعركة كبرى تحمل شعار "الصراع على الإسلام" بتعبير رضوان السيد؟" وبناء على هذه الرؤية وبلوغ توصيل آمن لهذه الرسالة يأتي العمل البحثي في منزلة بين المنزلتين؛ بين المقاربة الأكاديمية والإعلامية لاعتبارين اثنين، يرتبط الاعتبار الأول بسيادة خطاب إعلامي اختزالي مليء بالجهل والمغالطات في معرض التعاطي مع قضايا الشأن الديني بشكل عام ومنها قضايا التصوف، ويرتبط الاعتبار الثاني: بسيادة خطاب الموضوعية الباردة في العديد من الدراسات الأكاديمية التي اشتغلت على موضوع التصوف، ومنها تصوف الطريقة القادرية البودشيشية. خيارات أربع ويتناول الكتاب "ماهية التصوف ومقاماته العشر" بلسان أحد أقطاب التصوف البودشيشي الدكتور طه عبد الرحمن انطلاقا من خلال كتابه "العمل الديني وتجديد العقل"، حيث يفند الفيلسوف المغربي آفتي "التجريد والتسييس" التي ارتبطت بالتجربة السلفية في نقدها للتجربة الروحية الصوفية، ويوضحها الفيلسوف المغربي بالقول: "فأما آفة التجريد ويقصد بها قصر التأمل في النصوص على العقل المجرد وحده فتتجلى في وجهين للممارسة السلفية: وجه "التسلف النظري" الذي يقول بإمكان الإدراك العقلي المجرد للدلالات الحقيقية للنصوص الأصلية وإمكان الانتفاع العملي بها بمجرد هذا الإدراك، ووجه "التسلف النقدي" الذي يقول بإمكان التحليل العقلي المجرد للمعارف والتجارب وإمكان ضبط اقتران النظر بالعمل، ثم آفة التسييس وهي تعليق الإصلاح بالجانب السياسي وحده وصرف الجانب التأنيسي بأشكاله الثلاثة: "اجتناب التطرف" و"الخلو عن التوقف" و"دوام اليقظة"، وكلتا الآفتين "التجريد" و"التسييس" حدَّت من آفاق الممارسة السلفية إن لم تخرج بها عن مبادئها وأهدافها. منتصر حمادة ويبحث الإعلامي المغربي في الكتاب: "الطريقة القادرية البودشيشية وتحدي اللعبة السياسية، "والتديّن الطرقي وتحدي التديّن الحركي"، و"مفاتيح انجذاب الأجانب نحو التصوف، حيث يمثل التصوف الحمزي بوابة اعتناق اليسار الفيتنامي للإسلام في تناول موضوعات الكتاب المكملة (وقفات نقدية حول الصوفية وتحدي التوظيف الغربي للمشروع الأخلاقي، "شبهات علاقة التصوف بالتشيع" في أفق فصل المقام بين "التوفيق الوزير" و"التوفيق المريد"). وينهي المؤلف عمله الجديد باستشراف أهم المعالم المستقبلية لواقع هذه الفورة التي يشهدها الشأن الصوفي في "بلد الأولياء"، والتي حددها في أربعة خيارات وهي: - مطبات خيار المأسسة أو الخيار التوظيفي. - محاذير خيار التمييع أو الخيار الفولكلوري. - تحدي خيار التهميش أو الخيار التقزيمي من لدن حركات الإسلام السياسي. - تكريس خيار الهيمنة أو الخيار التوسعي، بعيدا عن تقديس خطاب الخرافة والشعوذة بالاعتماد عن المشروع الأخلاقي. ملاحظات استشرافية لقد رام الباحث الإعلامي منتصر حمادة بناء على تراكماته الإعلامية في تحليل أنماط التدين المغربي إعطاء نوع من الأهمية للتصوف المغربي بوجهه البودشيشي، نافيا أن يكون هدفه مسايرة الاهتمام الدولي بالظاهرة الصوفية. ويوضح أن الكتاب ليس بالضرورة تماهيا مع الحركية المحلية والدولية للاهتمام بالتصوف، وإنما يرتبط "بما نحرره بخصوص ملفات الحركة الإسلامية منذ عقد ونيف، وليس بعد منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن أو اعتداءات الدارالبيضاء فقط، ولولا أنه في الحالة الصوفية، وبفعل ما وصفته بحق تماهي الحركية المحلية والدولية مع التصوف ككابح لعمل الحركات الإسلامية" لوجدنا أن هذه الحركية مليئة بالمزايدات والمغالطات والتشويش على المتلقي الغربي والمسلم على حد سواء، مما ساهم في تمييع الخطاب والفعل الصوفيين، أو استغلاله لأغراض تشوه حقيقة التصوف وتعقد الصورة على المتتبع. ومن هذا المنظور تأتي الكتابة عن التصوف السوي من باب "إعطاء كل ذي حق حقه"، أو من باب "اعدلوا هو أقرب للتقوى". غير أن هذه الموضوعية التي حاول الكاتب بلوغ مرامها في ثنايا مؤلفه القيم والمتخصص احتاجت إلى نوع من اليقظة في التعامل مع مسلمات التصوف البودشيشي في مناسبات عدة، ليس من باب الخلفيات الأيديولوجية (الإسلام السياسي أو السلفي الوهابي) وإنما من قبيل الجهد العلمي الذي ميز كتابات المؤلف الجريئة، والتي كثيرا ما جرت عليه وعلى غيره من المشتغلين بالظاهرة الدينية بعض المتاعب. وبهدف استكمال النبش في أنماط التدين بالمغرب نوجز بعض الملاحظات المكملة فيما يلي: - المناسبة الأولى تجلت في تعامل المؤلف مع العمل الرصين للفيلسوف المغربي "طه عبد الرحمن" في محور المقامات العشر للتصوف، الذي وصفه المؤلف ب"الفيلسوف المجدد" مما جعله "سجين" تحليله العلمي في نقد المقاربة السلفية للظاهرة الصوفية بآفتي التجريد والتسييس دون أخذ مسافة مع هذه المقاربة وجعل موقف الدكتور طه عبد الرحمن رؤية ضمن رؤى متعددة. - وتتضح الثانية في تبني الكاتب لأطروحات بعض مريدي الطريقة في دفع مظاهر الاشتغال السياسي للطريقة البودشيشية، ولو كان ذلك على حساب بعض المقاربات المتنوعة للحراك البودشيشي مع وصول أحد مريديها إلى منصب حساس في التدبير السياسي بالمغرب (أحمد توفيق، وزير الأوقاف والشئون الإسلامية)، وهو اشتغال ليس محظورا أو محرما وقد أقر به بعض المقربين من الطريقة بأنها تشتغل في إطار السياسة العامة وليس الحزبية الضيقة، ويظهر هذا جليا فيما تتمتع به من حرية في العمل مقارنة مع توجهات صوفية أخرى بالمغرب ومواقفها السياسية الواضحة: (الموقف من الصحراء، دعم السياسات الحكومية). - أما الثالثة فيمكن الإشارة إليها بارتكاز المؤلف على استقراء المتابعات الإعلامية ومحاولة إلصاقها بتيارات اشتهرت بنقدها "للقبورية" الصوفية بما يظهرها بأنها نوع من التحامل على "أريج" التصوف البودشيشي"، وإن كان المؤلف يحاول بين الفينة والأخرى الفكاك من هذا الانشداد باعتماد بعض المقاربات التي تنتقد تغليب الوزير المريد للبعد الصوفي والبودشيشي في تدبير الشأن الديني، الذي لا يجادل فيه المقربون؛ لأنه ليس عيبا أن يضخ في تدبير هذا "البركان الهامد" مسكنات تضمن استقراره لترتيب الحقل الديني. تلك كانت ثلاث ملاحظات فقط كان المحفز لرصدها بكل موضوعية ما اشتهر به المؤلف من جرأة ومهارة إعلامية لا تغمط العمل البحثي مكانته في تأثيث الكتابة المتخصصة في الظاهرة الدينية بالمغرب.